"فتنة السلطة، الصراع ودوره في نشأة غلاة الفرق الاسلامية"
يشار الى "الفتنة" في وصفها تعبيرا عن الصراع بين القبائل الاسلامية التي اعتنقت الاسلام في عهد الرسول، وتصارعت بعد وفاته على السلطة. وجدت الفتنة تجلياتها الكبرى في الصراع الدامي بين آخر الخلفاء المسلمين علي بن ابي طالب ومعاوية، وهو صراع بين قبيلة قريش نفسها في شقيها الهاشمي والاموي. على رغم ان الصراعات توالت طوال العصور الاسلامية حول السلطة والخلافة، الا ان تعبير الفتنة ظل متصلا اكثر ما يكون بالانقسام التاريخي بين القبائل الاسلامية وعبّر عن نفسه لاحقا بالانقسام الكبير بين اتباع الامام علي، الذي سُمّوا "شيعة"، ومن اعتبروا انفسهم اتباع الرسول والسائرين على سنّته، فجرت تسميتهم "سنّة". لا يزال هذا الصراع يحتفظ بكل حيويته العصبية، بحيث ينسب كل طرف الى نفسه ادعاء الحق في الخلافة، وأنه يمثل الدين الحق والصحيح، فيما الطرف الاخر مصيره جهنم وبئس المصير. لم يقتصر هذا الصراع على الطرفين السني والشيعي، بل امتد ليتخذ اشكالا مختلفة في سياق الصراعات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالدولة الاسلامية خلال العصور الاموية والعباسية. يكتسب تعبير الفتنة اهميته اليوم من تجدد الصراع السني- الشيعي في العالمين العربي والاسلامي واتخاذه شكلا عنفيا في اكثر من مكان. تقدم الكاتبة الليبية عواطف شنقارو في كتابها "فتنة السلطة، الصراع ودوره في نشأة بعض غلاة الفرق الاسلامية" الصادر عن "دار الكتاب الجديد" في بيروت صورة مفصلة عن الصراعات السياسية التي نشبت بين القبائل الاسلامية على السلطة، والاثار المدمرة على المجتمع الاسلامي الناشئ.
خلافا للادعاءات الاسلامية من هنا وهناك بأن الرسول اوصى بالخلافة الى شخص ما بعد وفاته، فإن الوقائع تؤكد انه ترك لأمته حرية الاختيار بنفسها، معتبرا ان هذا الامر يقع في مجال الدنيا حيث اشار الى سائليه قبل وفاته بالقول "انتم ادرى بشؤون دنياكم"، مستبطنا بذلك ما يكون قد استجد من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية تتحكم بخيار الحاكم الذي سيختاره ابناء الامة الاسلامية. كان الرسول بتوجهه هذا ينفي عن الدين الاسلامي طابع كونه ديناً ودولة، بمقدار ما كانت توصياته تشدد على الطابع الديني الروحي والاخلاقي والانساني للاسلام.
تشير الكاتبة الى اللحظات الاولى لوفاة الرسول واندلاع الصراع على السلطة بين القبائل الاسلامية، حيث عُقد ما يعرف بـ"اجتماع السقيفة" يوم وفاة النبي وقبل الانتهاء من تشييعه ودفنه، حيث بادر "الانصار" الى اعلان حقهم في الخلافة بالنظر الى اسبقيتهم على قبيلة قريش التي ينتسب الرسول اليها، وهم الذين كانوا يعرفون بـ"المهاجرين". لكن المهاجرين (قريش) اتخذوا موقفا حازما بكونهم اصحاب الحق في خلافة الرسول لانهم اهل النبي واصحابه، وانهم تركوا بلدهم وهاجروا معه. وهذا ما جرى حسمه على يد عمر بن الخطاب في كون قريش هي صاحبة الخلافة. لم يأت اختيار الخليفة الاول ابي بكر الصديق استنادا الى الشورى بين المسلمين بقدر ما جرى فرضه تحت التهديد بالسيف لمن يعارض هذا الانتقال في السلطة. لكن الصراع الحقيقي كان بين اهل البيت انفسهم حيث كان علي بن ابي طالب يرى في نفسه صاحب الحق في تولي الخلافة بالنظر الى كونه الاقرب الى النبي من جهة النسب. هكذا يمكن تأكيد خلاصة اساسية جرى تزويرها من مؤرخي الطوائف والفرق حول الخلاف على المسائل اللاهوتية وانحراف هذا الطرف او ذاك عن جادة الدين الحق. فالصراع الذي نشب منذ اجتماع "السقيفة" وما تبعه في عهد الخلفاء الراشدين وصولا الى الصراع الاكبر بين علي ومعاوية وانصارهما، انما كان صراعا سياسيا على السلطة والموارد بامتياز، وهو صراع تزيّا في ما بعد بطابع "ايديولوجي" استخدم فيه كل طرف النص الديني القرآني ومعه الاحاديث النبوية لتقوية حججه وادعاءاته في السلطة. ومن هذا الاستخدام الديني، جرى تحريف الموقع الاصلي الذي للدين الاسلامي في وصفه دعوة روحية وانسانية، ليصبح هذا الدين عنوانا للانشقاق بين المسلمين ولولادة فرق دينية تقول كتب تاريخية ان عددها وصل الى 72 فرقة، تدّعي كلٌّ منها انها "الفرقة الناجية"، فيما سائر الفرق تسير على الضلال ومصيرها النار.
اول الانشقاقات كانت "حركة الخوارج" التي رفعت شعار "لا حكم الا لله" رداً على الصراع بين علي ومعاوية، وعلى انحرافات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في ممارسة السلطة. قبل ولادة "الخوارج"، وفور تولي ابو بكر الخلافة، انطلق ما يعرف بـ"حركة الردة"، حيث شعرت بعض القبائل العربية "بنوع من التحرر من التزاماتها المادية والمعنوية ازاء حكومة الرسول ممثلة في تأدية الزكاة"، وهذا ما دفع ابا بكر الى شن حرب على "المرتدين" وضربهم بشدة تحت حجة تآمرهم على دولة المسلمين وعلى عقيدتهم.
الى الخوارج، ترى الكاتبة ان ابرز الفرق الاسلامية كانت "الشيعة"، حيث يقوم التشيع على اعتبار ان النبي كان قد اوصى بالخلافة الى علي بن ابي طالب. يرى الشيعة ان الامامة ركن الدين وقاعدة الاسلام. غالت جماعات من الشيعة في تقدير علي وبنيه الى درجة التقديس التي يعلو بها على البشر. لم تخل الشيعة من انقسامات داخلها، اهمها الاسماعيلية والقرامطة والزيدية. ومن الفرق التي نشأت كانت فرقة "المرجئة" التي نشأت بعد الانشقاق في صفوف المسلمين، وقالوا إن "الامامة يستحقها كل من قام بها اذا كان عالما بالكتاب والسنّة، وانه لا تثبت الامامة الا بإجماع الامة كلها". كان حكم "المرجئة" السياسي على كل من الامويين والشيعة والخوارج بعيدا عن تكفيرهم، بل ترك امرهم جميعا الى الله، كما كانوا يقفون الى جانب المضطهدين من المسلمين.
ومن الفرق الاساسية كانت "المعتزلة"، التي ظهرت "كرد فعل على التطرف المذهبي للخوارج وعلى السلبية المطلقة لجماعة "المرجئة". يقوم مذهب الاعتزال على اصول خمسة هي التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صحيح ان الكاتبة تناولت الفرق الاساسية التي نشأت في الاسلام في القرون السابقة، لكن الانشقاقات والانقسامات لم تتوقف حتى الزمن الراهن، ولا يتوقع لها ان تهدأ طالما ان الدين الاسلامي يجري استخدامه وتوظيفه في الصراعات السياسية والاجتماعية، وفي اصدار الفتاوى الداعية الى العنف وقتل الآخر المختلف. لن يتوقف هذا المسار الا بالفصل الكامل بين الاسلام الذي هو في حقيقته "رسالة لا حكم ودين لا دولة" وفق تعبير الشيخ علي عبد الرازق، واعادة الاعتبار اليه في جانبه الحقيقي، الروحي والاخلاقي والانساني.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد