نقــاش فــي أدب المقاومــة
ما الذي يجعل ادب المقاومة موضوعا للتجاذب بين وجهات نظر مختلفة؛ بحيث يرفعه فريق الى مرتبة عالية من مراتب الادب ويرى فيه فريق آخر ادبا له من القيمة الرمزية اكثر مما له من القيمة الفنية!
لقد شهد العالم تجارب مماثلة مع ادب الواقعية الاشتراكية. علما ان تلك التجربة قد ظلمت العديد من الكتاب الذين كانوا ليقدموا اعمالا مختلفة لو لم يقعوا تحت تأثير الغرض السياسي والايديولوجي. بيد انه ينبغي التأكيد في هذا المجال انه لا يوجد في تاريخ الانسانية ادب محايد. فكل ادب سوف يصب في النهاية في مجرى ايديولوجيا تُفسّر العالم وفقا لرؤية محددة. وبالتالي فإن أي نص ادبي هو من حيث المبدأ فضاء مفتوح للتأويل (وليس لاعادة الصياغة كما قد يفعل البعض). إنها لعبة مشروعة بالقدر الذي تُحترم فيه الشروط الفنية للأعمال الابداعية؛ وبالقدر الذي يُحترم فيه الانسجام الخفي بين النص الأدبي والتوجه الايديولوجي.
إن ما يميّز أدب المقاومة هو فرادة الموضوع الذي يتناول حق الانسان البديهي في الدفاع عن نفسه وأرضه في مواجهة عدو خارجي غاصب ومحتل. وهو حق تعترف به كل الشرائع الدولية. لكن هل تكفي شرعية المقاومة وعدالة قضيتها لصنع ادب قابل للحياة ؟ وما هو تأثير مواكبة الأدب – زمنيا – لنشاط المقاومة من حيث المزج بين أدب الواقع وأدب الخيال؟
إن التعبئة المعنوية تقع في خانة الاعلام الموجه والحملات الدعائية؛ وهو سلاح تحتاجه حركات المقاومة في مواجهة عدو يستخدم اساليب التضليل في حربه النفسية. أما الأدب الحقيقي الذي يصور قساوة الحرب وصراعات النفس البشرية داخل الشخصيات الأدبية فإنه يقع في خانة الفن الكبير. لذا من البديهي أن يُطرح السؤال التالي: هل تحتاج المقاومة في ذروة صعود مشروعها الى أدب كبير أكثر من حاجتها الى التعبئة الايديولوجية؟
الدعاوة الأيديولوجية
لقد مرّت الشعوب الأخرى بتجارب مماثلة. وقد دلّت هذه التجارب على أن الأعمال الدعائية ذات الطبيعة الايديولوجية تستنفد غاياتها بمجرد انتهاء الحرب لتحل محلها شيئا فشيئا أجواء الحكمة والتأمل.
هذا النقاش النظري يكتسب أهميته مع تزايد الاهتمام بأدب المقاومة على الساحة اللبنانية؛ ومع تزايد الحاجة لخلق ثقافة مجتمعية تختزن الأبعاد الرمزية لقضية المقاومة. وقد تم رصد سلسلة من النشاطات الفردية والجماعية التي تصب في هذا الاتجاه بحيث يمكن فرزها الى قسمين:
القسم الاول عبارة عن انتاجات فردية تصدى لها كتّاب أصدروا أعمالا مستقلة. يندرج في هذا الاطار بعض الاعمال القصصية والروائية التي كُتبت عن الحرب الأهلية وتناولت موضوع المقاومة.
أما القسم الثاني فقد أشرفت عليه هيئات ثقافية تنتمي الى مؤسسات المقاومة الاسلامية (حزب الله) وفي مقدمتها جمعية «رسالات». وهي تجربة ما زالت مستمرة وتحاول أن تتلمس طريقها عبر التخطيط المنهجي والتجريب المفتوح على التطوير. وقد استطاعت – أي الجمعية – أن تُصدر سلسلة من أربعة أجزاء تحت عنوان مشترك هو «قلم رصاص» تضمّنت مجموعات قصصية لعدد من الكتّاب اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين. وهي بصدد انتاج مجموعات مستقلة لعدد من الكتّاب في اطار دعم مشاريع أدبية فردية تُعنى بأدب المقاومة.
أما على صعيد الانتاج السينمائي فقد كانت باكورة اعمال الجمعية انتاج فيلم تحت عنوان «أهل الوفا» للمخرج السوري نجدت أنزور. وهي بمثابة تجربة اولى يسعى المشرفون على الجمعية الى البناء عليها من اجل تقديم اعمال اخرى في المدى القريب.
وقد وضعت الهيئة المشرفة على الجمعية هدفا لها هو التوجه نحو الرأي العام العربي والاسلامي (والعالمي) عبر أدب نوعي. وهو ما يستوجب العناية بأدب انساني شامل يجعل من فعل المقاومة (بما فيها العمليات العسكرية) جزءا من منظومة ثقافية قابلة للفهم والتبني من قبل شرائح مختلفة من القرّاء.
ان الوصول الى الجمهور المحلي (اللبناني) يتحقق عبر التركيز على البُعدين الانساني والوطني في قضية التحرير. وهو ما يفرض الابتعاد عن الاشارات الرمزية ذات الطابع المذهبي نظرا لتنوع مكونات الشعب
اللبناني. فيما يتحقق الوصول الى الجمهور العربي الواسع عبر التركيز على الأبعاد الانسانية في الفكر القومي (قضية العروبة)؛ والابتعاد عن اي نزعة شوفينية تتجاهل وجود مواطنين غير عرب في البلدان العربية. هذه القواعد تصلح أيضا لمخاطبة الرأي العام الاسلامي والعالمي. فالمسألة تتطلّب في كل هذه الحالات تضمين الأدب مناخات انسانية تحقق التواصل المطلوب.
من ناحية ثانية ليست وظيفة الأدب ان يواكب الأحداث ويسجلها بصورة مباشرة أو نقلا عن ألسنة المشاركين فيها.
ان الأدب الحقيقي هو الأدب الذي لم يحدث أبدا؛ لكنه يظل قابلا للحدوث في اي زمان ومكان. اما الأحداث الواقعية (العمليات الحربية والأعمال البطولية) فإن مكانها الواسع يقع في كتب التاريخ والأفلام الوثائقية؛ على ان تتردد اصداؤها العظيمة في ساحات الأدب والفن.
ان الموت في ساحة المعركة هو من منظور انساني واقعي مشهد تراجيدي مؤلم لا ترتاح له النفس البشرية. لذا تأتي التعاليم السماوية لتقلب هذا المشهد حين تحتفي بالروح والجسد في طريق عودتهما الى بارئهما طاهرين نقيين. وهي بهذا ترفع الموت من معناه المادي الى معناه الميتافيزيقي. فيما يقوم الأدب بإعادة تركيب المشهد برمته ليصنع عالما مفارقا (ليس مطابقا للواقع) يضفي عليه سحرا غامضا بما يجعل الحياة قابلة للعيش بيُسر أكبر.
ان الأدب لا يُغيّر ما في الحقيقة؛ لكنه يجعلها ذات معنى. وهو لا يفرض رؤيته على المتلقي بل يفتح امامه نوافذ للرؤية. وهو بصفته حقلا شاملا للانتاج الرمزي لا يرى في قضية المقاومة صراعا مجتزأ بين مقاوم ومحتل بقدر ما يراها جزءا من ملحمة اكبر تُجسّد قضية الصراع بين الخير والشر. وهو ما يجعل الأدب يلتقي مع الدين في غاياته النهائية. لذا يُركّز الأدب على العناصر الدرامية الداخلية اكثر من تركيزه على العناصر المشهدية الخارجية (ولا يُغيّر الله ما بقوم حتى يُغيّروا ما بانفسهم).
ان ارض الأدب ليست حقلا مُسطحا ومكشوفا؛ بل هي منطقة وعرة من غابة مظلمة مليئة بالأخطار والمفاجآت.. والدهشة.
وليس من قبيل المبالغة القول ان اي قارئ او مشاهد لا يريد من الفنان او الأديب ان يصحبه الى مكان مكشوف تماما لا يجد فيه اي معنى او مبنى ؛ او الى مكان يعرفه مسبقا وقد رآه عشرات المرات. ان عالما خاليا من الدهشة والخيال هو عالم موحش. والمقاومة بوصفها موضوعا للأدب والفن بإمكانها ان تُلهب المخيلات وأن تُضيف الى عناصر الدراما ابعادا انسانية جديدة. وهي عناصر لا تقل اهمية عما قرأناه في ادب الحروب الكلاسيكية عبر اعمال كتّاب كبار امثال تولستوي وهمنغواي وغيرهما. وهذا ما يجعلنا نطرح سؤالنا الأساسي بصيغة اكثر مباشرة: هل نستطيع استخدام الأدب كسلاح في المعركة؟ فإذا كان الجواب المنطقي هو: لمَ لا ؟ فإن تتمة الجواب هي: شرط ان نضع في ماسورته حشوة حقيقية.
هذا الأمر ليس غائبا عن اذهان المعنيين بأدب المقاومة وهو يعني ان قطار الانتاج سوف يمر بمحطات عديدة قبل ان يصل الى محطته الأخيرة.
فؤاد مرعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد