متاهة الكتابة ومتاهة النفس
يبدأ عبده وازن مونولوغه الطويل في لحظة تتعادل فيها كفّتا الموت والحياة. لحظة استيقاظه من غيبوبة البنج عقب العملية الجراحية التي خضع لها قلبه. لحظة عبوره من عالم الظل إلى عالم الضوء، ومن العالم الداخلي إلى العالم الخارجي. يبدأ هذا المونولوغ الذي يستعيد فيه اكتشاف ذاته وعلامات الاستفهام عن الوجود والموت والمصير، ليقف عند التساؤل عن مغزى الكتابة، وعن علاقة حياته بما يكتب. الكتابة التي تُخرجه من هاوية جسده المعطوب، وتُسابق موته المفترض، الماثل على الدوام، في ثنايا حياته عينها. الكتابة المرآة التي يتأمل فيها ذاته والتي تحيلها على ما يقول، إلى أسطر من حبر.
هذه اللحظة الزمنية. هذه العتبة الوجودية البينية التي تساوي بين الحياة والموت. هذه المنطقة البرزخية، هي الينبوع الثر الذي يغتذي منه الإبداع الأدبي والفني. وعبره ينهل عبده وازن رؤاه وتداعياته الفكرية مقلّباً صفحات حياته على إيقاع سردي، قلّما غاب عن كتاباته الشعرية، لا سيما في كتابه الجديد «قلب مفتوح « (منشورات الاختلاف، ناشرون). في هذا الكتاب الذي تتألف مادته من بعض عناصر سيرته الذاتية، يعتمد وازن على سردية واضحة المعالم، تتبلور من خلالها حالة شعرية كثيفة، من داخلها، وليس على هوامشها وحوافيها، كأنما الوقائع والأحداث ليست مرصودة في حد ذاتها، إنما يتوسّلها الكاتب ليطلق العنان لتفاعلاتها مع النفس، وارتداداتها على الذات. فتخرج لديه الوقائع عن زمنيتها، وعن مألوفيتها واعتياديتها لتحلّق في فضاء المخيلة. يرفعها من مدارها المعيش والملموس إلى مدارها الإيحائي والمتخيّل. يحوّلها بعد أن يقلّب وجوهها وأبعادها وأعماقها إلى التماعة ذهنية، أو فكرة، أو مفهوم فلسفي.
وإذا كان عبده وازن قد قارب في «حديقة الحواس» حدود السرد الروائي، فإنّه في «قلب مفتوح» على سرديته الظاهرة، بقي على مزاوجته بين الشعرية والسردية. ولم يجزم في تعريف كتابه أو تصنيفه، فظلّ معلقاً بين الرواية والشعر. ولم يُذيّل الكتاب بأي عبارة تصنّفه وتحدد فئته. بل إنّ العنوان: قلب مفتوح، لا يخلو من ظلال تورية لطيفة تتردد بين المعنى القريب والمعنى البعيد. بين العملية الجراحية، وبين البوح الشخصي، بين الألم الجسدي والألم النفسي. وإذ يتقدم العنصر الحكائي في ضوء عملية السرد، فإنّه سرعان ما يغوص في الفضاء الداخلي. وتتحول مادته المروية، المعيشة، المرئية، إلى هيولى تتوالد في أغوار النفس أفكاراً ورغبات واستيهامات. وتتناسل كلماتها لتصنع عالم الكاتب الحقيقي، العالم السريع الهشاشة، والمهدّد بالاندثار والتلاشي. وهو العالم الذي ما برح يحتل فضاء قصائده الشعرية دون استثناء.
الحدث الصدمة
فوازن هو نفسه في شعره ونثره، وفي التعبير عن انهماكاته الوجودية ووساوسه وانشغالاته الفكرية. بيد أنّ ما يقدمه «قلب مفتوح» المكتوب على إيقاع اليتم والاحتضار والموت والانتحار والانهيار العصبي والحرب والليل والحب، هو الحدث الصدمة الذي وقف وراء هذا الأسى الدفين، والذي افرز هذه الرؤية المتكدّرة العميقة التي يتواشج فيها الحياة والموت. هو حدث وفاة الأب المبكر، ومعاناة اليتم منذ الصغر، وما أعقبه من تقلّبات وارتدادات نفسية بلغت حد الانهيار العصبي. وإذا كان غياب الأب ترك جرحاً معنوياً غائراً في نفس الصغير، فإنّ تجلياته الشعورية والفكرية، ما لبثت ان اختمرت مع تطور الزمن والعمر، وتراكم التجارب، وسعة الاطّلاع، والانفتاح على العالم المترامي، فاتخذت شكل حساسية أدبية شفّافة، تحوّلت إلى حمولة معرفية تواجه العالم، وتتأمل في صيرورته، وتستجلي مغزاه ومراميه، وتبحث فيه عن سر الموت والحياة، وعن معنى الليل والحلم واليقظة، وعن معنى النوم والأبوّة والترمّل، وعن حدود الموت وعبثيته، وعن علاقة النفس بالجسد، وعلاقة الماضي بالحاضر، والإيمان بالإلحاد.
المنحى السردي عند عبده وازن يضع الأشياء والأحداث والخبرات في ضوء جديد. حتى لكأنّ ما ألفناه نحن مجايليه، وما اختبرناه، أو شعرنا به، أو خطر لنا، أو فهمنا مضامينه، ليس هو الوجه الحقيقي، بل قل هو وجه واحد. اما الوجه الذي يرى فيه الكاتب عالمه، فهو الوجه الذي أسبغت عليه تجربة اليتم لوناً جديداً ودلالة جديدة.
فالتلفزيون الذي كان في طفولته وطفولتنا اختراعاً حديثاً انجذبت إليه النفوس والأفئدة، كان اقتناؤه يمثّل صبوة من الصبوات الصعبة التحقق، لا سيما عند الطبقات المتواضعة، وكان انتشاره في البداية، مؤشراً من مؤشرات الرفاه الاجتماعي والطبقي. بيد ان وازن أضاف إلى بُعده هذا، بُعداً نفسياً آخر استوحاه من رضّة يتمه المبكر. فبات الحرمان من التلفزيون حرماناً من الأب. وغدت العائلة التي هي بلا تلفزيون عائلة ناقصة. «كان التلفزيون في نظري فرداً من العائلة، مثل الأخ أو الأخت، ومن دونه لا يمكن أن تكون العائلة سعيدة».
الضوء الداخلي
باتت الأشياء وعناصر الطبيعة وحالات البشر أكثر شفافية، وهو يراها في ضوئه الداخلي، في ضوء تجربته الوجودية. وعبر لغة تومض بالصور المفاجئة والمحيّرة والمثيرة، فتدعونا إلى التفكير مجدداً في ما اعتدنا عليه، إن في الأمور الميتافيزيقية الكبرى، أو في الأمور المبتذلة. حيث نقف حيارى مندهشين ازاء صورة أمه الأرملة الصبية التي مات زوجها الشاب، وتعففت عن الاقتران بسواه، كيف «عاشت خارج جسدها». أو كيف بتكريس حياتها لسعادة عائلتها «لم تكن هي إلاّ لأننا كنا». وإذا عرفنا المشي بأنه حركة يومية يقوم بها الإنسان ليذهب الى عمله، او ليكتشف الشوارع التي يسير عليها، أو الأحياء التي يحاذيها، أو يدخل إليها، فإنّ نص عبده وازن يجعل من المشي، من خلال تجربته ومعاناته، اكتشافاً لا للشوراع والأحياء، وإنما للذات. كأنما المرء يمشي في نفسه. فالمشي لديه، لا سيما بعد إصابته بالانهيار العصبي، كان عملاً من أعمال الروح. اما شعر الجسم عند وازن فهو مدعاة تأمل في الجسد الإنساني، الذي طالما راقبه في حركاته وسكناته، وفي علاقته بالزمن وبالذات. وهو اذ ينتظر بفارغ الصبر أن ينمو شعر جسمه المحلوق، بسبب العملية، فكي يشعر بأنه يكبر مع الشعيرات التي بدأت تنبت. يشعر بأنه يستعيد الزمن الذي غاب فجأة، منذ أن حلقوا شعر جسمه، وبأنّه يستر به عريه الذي طال أمده بدون هذا الغطاء.
قي «قلب مفتوح» حيث يقلّب عبده وازن بعض صفحات حياته، نجد أنفسنا إزاء ضوء آخر، يكشف عن اختمارات لموضوعات أفصحت عنها هواجسه وعوالمه الشعرية السابقة، ووجدت تعبيراتها المتفاوتة والمتباينة في معظم قصائده، لكنها حجبت عنا جذورها وأصولها التي نكتشفها اليوم في سياق الكتاب. ومن هذه الجذور، الوحشة الشفافة التي قذفته إلى وهدة اليأس، وإلى حافة الانتحار. الوحشة التي مثّلتها شخصية أوفيليا في مسرحية «هاملت» الشهيرة، التي افتتن بها وازن، وسكنت وجدانه، وبهرته جرأتها، وصدقها مع نفسها، عندما انتحرت غرقاً في ماء النهر. وكان انتحارها هذا موضوعا اثيراً في مجموعته «سراج الفتنة» حيث أكمل ما لم يقله هاملت في رثاء أوفيليا. الانتحار الذي لم يجرؤ عليه وازن في حياته، وإن لامسه، ودار حوله، واقترب منه. ورغم توافر جميع حوافزه ومحرضاته، من اعتزاله العالم حيناً من الدهر، الى إحساسه باللاطمأنينة والكآبة والألم، إلاّ أنّه آثر الانكفاء والتراجع، وحوّل الانتحار إلى سؤال ميتافيزيقي فلسفي، واستعاض عنه بالإبحار في عالم الروايات التي تروي قصص أبطال انتحروا يأساً واحباطاً وحباَ، وبمختلف الأدوات، لكنهم تركوا انطباعاً رائعاً لديه، عن مضاء عزيمتهم وحدّة جرأتهم. فما لم يقدر عليه واقعاً، لأنّه يحب الحياة رغم كرهه لها، عثر عليه في عالم الكتابة والرواية، على بديل انتحاره المتخيّل والمفترض . وهو لا يرفع سؤال الانتحار فحسب، إلى مدار السؤال الميتافيزيقي، إنما يرفع أسئلة أخرى إلى هذا المستوى، مثل فكرة الليل والأحلام، وعلاقة اليقظة بالنوم، والدين بالإلحاد. وهو مسكون بهذه الأسئلة، أسئلة الكينونة والوجود والعدم، لأنه مفتون بالكتابة التي هي صنو الذات، فهو يقرّ بأنه يكتب لا ليواجه، أو ينتفض، أو يهرب، أو يغيّر وجه العالم أو الحياة، بل يكتب ليبحث داخل متاهة الكتابة عن نفسه. فالكتابة عند وازن فردية بامتياز، لكنها لا تنطوي داخل قوقعتها، بل تستمد نسغها من محيطها الاجتماعي، مؤثرة التحديق في انعكاسات الخارج على مرآة الداخل.
أحمد زين الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد