فواز حداد : ثمة ما هو في طريقه إلى التفسخ والاندثار
فواز حداد : غالباً كان مجال الرواية الأوسع، ذلك المشهد البانورامي الضخم والمتصدع، الذي يعتني بوصف النهايات، ورصد ما هو في طريقه إلى الانحسار والاندثار، أو التفسخ، وأحياناً الزوال. فقرأنا في الروايات الكبرى عن انحلال الطبقة الإقطاعية واقتحام البرجوازية الظافرة لمسرح التاريخ، ومثله ذبح الملكية والنبلاء على مقصلة الثورة الفرنسية، ثم انهيار الحكم القيصري واستيلاء البروليتاريا الروسية على قصر الشتاء، وانحطاط البرجوازية في الدول الرأسمالية، والتبشير بالقضاء عليها، لكن الإمبريالية لم تكن هي المرشحة للفناء، وتمكنت أواخر القرن الماضي من إزاحة خصمها الشيوعي، وإسقاطه من قمة العالم.
منذ أكثر من عقد لاح مشهد مشابه في طريقه إلى التداعي؛ النظام العربي القديم من جمهوريات وملكيات وإمارات، وبدا على وشك الأفول، ثمة تغيير قادم كما توقع الكثيرون، بعدما تخبط طويلاً بين الهزائم والنكبات والنكسات، ومؤخراً انكشاف فساد مزمن، لم تفلح المظاهر المادية من ثراء ورفاهية في حجب مدن الصفيح والفقر والقمع والحركات الجهادية وبشائر الحروب الأهلية الكامنة. كان المشهد المفرط في تبعثره، مقبلاً على المزيد من التبعثر، بعد احتلال العراق، والجهد الأميركي العامل على تهيئة تفجره بعوامل عرقية وطائفية ومذهبية؛ حسب خطة بدأت بالتسلسل، عنوانها <الفوضى العارمة>: سيارات مفخخة ومجازر وقتل متاح ومباح. بالعودة إلى السيناريو الأميركي المتفائل جداً، الفوضى ستكون خلاقة، يخرج منها شرق أوسط جديد مزدهر، بدويلات وإمارات وقبائل، وربما كانتونات ودوقيات، ترتع إثنياته وطوائفه بأمان، تلعب فيه إسرائيل دور المركز المهيمن على شرق نظيف خال من أسلحة الدمار الشامل، منزوع السلاح ومتعطش للتنمية والاستهلاك.
على أن السيناريو سيأخذ منحى مختلفاً، مفاجئاً وغير محسوب، رغم ما اشتهر به الأميركان من دقة في التخطيط والتنفيذ، بقيام حزب الله باختطاف جنديين إسرائيليين واندلاع حرب على لبنان (وهي القصة التي يعرفها الجميع، وقد تبدو حالياً بالنسبة إلى مؤرخ منصف ورزين، مجرد فاصلة مبهرة تخطف الأبصار، لكنها واعدة داخل تاريخ مشبع بالاحباطات)، رأى فيها الرئيس الأميركي بوش فرصة مواتية للقضاء على الحزب، والإسرائيليون فرصة نادرة طالما انتظروها لشن حرب شعواء وسحق المقاومة الأخيرة في العالم العربي.
عموماً، وإن كان هذا مختلفاً عليه، لم تجر رياح الحرب غير المتكافئة كما اشتهت طائرات وبوارج الإسرائيليين فائقة القدرة على الرغم من الدعم الأميركي فائق السخاء. بعد وقف إطلاق النار، هل انتهت الحرب فعلاً؟ المرجح، ما زالت مستمرة، وإن متقطعة على الأرض، ومتضخمة في سجالات كلامية وكتابية ارتفعت حدتها داخل لبنان وخارجه، رأس الحربة فيها مثقفون ليبراليون أمريكيو النشأة والتعبئة، تعضد رؤاهم السياسات العريضة المتبدلة والعقيمة لأنظمة عربية جمهورية راشدة وملكية أكثر رشداً، لم تكن حنكتها الأخيرة بالدرجة الأولى، إلا بسبب شراهتها للوراثة والتوريث، والسعي لإرضاء تيار محافظ ومتشدد في الإدارة الأميركية. ساندهم المثقفون الليبراليون بمقصد بريء هو أن تستعيد السياسة نظراتها الواقعية إلى الأزمات الداخلية والخارجية، لا سيما موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، وتوفر على الشعب العربي ضحايا بالآلاف (ومع الوقت بالملايين) وزمناً ثميناً مهدوراً واقتصاداً طفيلياً منكوباً. وبالتالي لم توفر انتصار المقاومة من التهجم الشديد فوصفته بالهزيمة لكلفته العالية، فقد بلغ حجم الدمار في لبنان قدراً غير مسبوق؛ ولولا وضوح مجريات المعركة بالصوت والصورة واعترافات الإسرائيليين أنفسهم، لأصاب المعركة نفسها الكثير من التحريف والمغالطات والأكاذيب، بحيث تصبح هزيمة مطلقة على جميع الجبهات، على أن ليبراليونا لم يراوغوا كثيراً بالاعتراف بانتصار من الصعب إخفاؤه (لا يزيد برأيهم عن خدش إسرائيل)، هذا ما جعل معركة احتضنها الشعب في لبنان والأمة العربية بمنأى عن التشويه على الرغم من تعمده، ولن يدور الخلاف سوى عن الاجتهادات في تفسير عواقبها ومآلاتها ونتائجها.
بيد أنها ستأخذ طابعاً غرائبياً بابتذالها أحكاماً تدين المقاومة، متذرعة بعقلانية مريبة ومسفة في المنفعية، وحكمة خنوعة لا ترفض المهانة والظلم، وحسابات تدعو للشبهات وتفتقر لمقدار ضئيل من النزاهة!! كيف أن قضايا لم تكن قابلة للمساومة، تتعرض إلى هذا الكم الكبير من المراجعة الحاقدة مع الانقلاب عليها، تحت لواء ليبرالية منفتحة (وهنا نستعير قولاً مشهوراً لمدام رولان وهي في طريقها إلى المقصلة، ونحوره قليلاً ليناسب المقام: أيتها الليبرالية، كم من حماقات وخيانات ترتكب باسمك؟!) تتنكر للهموم والطموحات العربية، فتنقض عليها وتمزقها، وتقصفنا بتفسيراتها الجهنمية وتسمي الأشياء بعكسها، وتقف في خندق واحد مع حكومات أثبتت تواطؤها الكامل مع الأميركان والإسرائيليين حفاظاً على رؤوسها؟! وكأنه في هذه المعمعة، هناك مايسترو يقود جوقة مأجورة تعزف لحناً نشازاً واحداً، هدفه تسويق الحل الأميركي بمفردات عربية، وتضليلنا بتعاليم أكاديمية ملفقة وواقعية رخيصة؛ لإدراج العرب في المشروع الشرق أوسطي.
اللغة مستهدفة، نعم، فلا النضال وتحرير الأرض، ولا المقاومة والتضحية، أو الإرادة والكرامة، تعني أكثر من تلك التعبيرات التي تستغلها الأنظمة للبقاء على قيد الحكم؛ متجاهلين ما تمثله بالنسبة إلى بشر ذاقوا ويلات وهزائم لا يد لهم فيها، والآن ينشدون التغلب على واقعهم المجحف. وبدلاً من أن ينتقد ليبراليو الثقافة على الأقل مواقف الحكام المثيرة للاستهجان، سخروا ممن أغرتهم المقاومة بشعاراتها المقاتلة، وعُزيت مواقفهم المؤيدة إلى سذاجتهم وجهلهم بمسيرة التاريخ وضريبة حضارة تتعولم.
لم يكتشف الناس قدرة المقاومة على الفعل فقط، بل وأحسوا بالقوة الكامنة في داخلهم، كما لم يخدعهم رياء مجتمع دولي يسمح للإسرائيليين بقصفهم بالقنابل وقتلهم وتدمير بيوتهم. أدركوا أنهم يستطيعون مقاومة ورفض مستقبل صُوِّر لهم بأنه لا محالة قدرهم الأبدي. ونستطيع الزعم بأنهم عرفوا أيضاً طريقهم إلى ما يريدونه، ليس كأمنية أو رجاء أو حلم، وإنما تحت تأثير معركة ضارية لم يوفر فيها العدو وسيلة من وسائل القتل البشع، وكانوا شهوداً على انتصار تم دونما تزوير ولا اختلاق أو دجل. ليست كلمات تقال عبثاً، لقد رأت الأمة في شباب المقاومة مستقبلها. قد يبدو هذا الكلام مصفوفاً ومكرراً، لا يهم، كذلك حماسياً، أم أنه ينبغي علينا الخجل من حماستنا؟ الكلمات نفضت عنها بلادة رسميات التحريض الوطنية، ولنقلها بصراحة، لقد استعادت الكرامة والإرادة لدى الشعب معانيها ومكانتها.
لنتعلم
لا نمثل نحن المثقفين، سوى قلة من الناس، وإذا كنا نزعم بأننا نمتاز عنهم بالفكر، فهذا لا يعني بأنهم لا يفكرون؛ وربما المعرفة، وهذا لا يعني أنهم عديمو الإطلاع. كما أننا أدرى منهم بالتعبير عن السياسة، لكنهم غالباً، يتميزون عنا حتى في هذا المجال. ما أريد قوله، هو أننا مخدوعون بأنفسنا، عندما نتوخى مصالحنا الذاتية فقط. نحن نكتب لهم، ما حالنا إذا لم يقرأونا، ولم يشتروا كتبنا لأننا نكذب عليهم؟! ألن نصاب باليأس؟! علينا ألا نستهين بهم أو نتجاهلهم، وألا نلعب أدواراً غير أخلاقية. علينا أن ننتفض على قوانا الخائرة، ونتعلم من أولئك الشبان الذين انتفضوا على الدعة والقهر، وأقدموا على أعظم ما يمكن أن يقدم عليه إنسان، عندما وهبوا حياتهم لقضية سامية. وأن نقدم لهم شيئاً، وبالأحرى لأنفسنا، قد يكون الآن بعدم تطويق نصرهم، أو تبخيس قيمته.
أما الإلحاح على أن للثقافة أيضاً، جانبها النضالي، فلا يقصد به ذلك التجييش الشعاراتي الببغائي. وإنما عدم السماح بتحول الثقافة من أداة تنوير ونهضة إلى أداة خيانة وتعمية ومراوغة وتضليل. وفي هذا المجال، لا أقول أن نتبع حدس الجماهير، وإنما الإصغاء لصوت ضميرنا، ذلك الصوت الداخلي الحر الخالي من العقد، رغم صعوبة سماعه في هذا الزحام والضجيج. لكن لا مفر من ذلك، نحن في فاصل علينا دفعه إلى منعطف مصيري.
وربما لأنني على علاقة بالرواية، يستهويني أن أقول: ثمة ما هو في طريقه إلى التفسخ والاندثار. لكن على أرض الواقع وفي الأفق، ما زالت هناك سيناريوهات كثيرة إسرائيلية وأميركية، غربية وطائفية ومذهبية تحاول أن تشق طريقها بالقوة إلى المسرح. أتمنى ألا يكون المثقفون طابورها الرائد والخامس.
روائي سوري
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد