«أحاديث مع والدي أدونيس»
في كتاب نينار إسبر: «أحاديث مع والدي أدونيس» صادر حديثاً عن «دار الساقي» ثمة ملمح ظاهر للأحاديث أو أسئلة نينار لوالدها على وجه الخصوص، وآخر كامن، ما يقلب الأدوار أحياناً، بين السائلة والمجيب (نينار وأدونيس)، وأحسب أن الكاتبة في سلسلة أحاديثها مع والدها التي ضمنتها دفتي هذا الكتاب، منغمرة في محاولة معرفة هذا الوالد/ الشاعر، المعرفة التي تطمح نينار أن تفضي إلى مفاتيح لأغوار الكاتبة نفسها، وإلى جوهرها الإنساني والأدبي.
إن الانطباع الذي تُرخيه الأسئلة هو التنوع، ثم الاسترسال في استلال سؤال من آخر، هو من القوة الذي يصبغ «الأحاديث» ويظهرها نهمة إلى أعمق أعماق الشاعر، راغبة في تحديد نهائي للتركيب الفكري والروحي للشاعر، كما لمعجم كلماته ودلالاتها. من هنا، لا أفق يفصل في الأحاديث بين ما هو ممنوع وما هو مباح، بل المضي في تتابع الأسئلة، وتحديداً في جذر هذا الممنوع، أو أصل وسبب ذاك المباح، ومبررات المنع وعدمه.
من يحاور من؟ مئة سؤال من نينار لوالدها الشاعر أدونيس، تخللتها «مونولوغات» لنينار، طويلة نسبياً، كما لو هذه الأحاديث فرصتها السانحة لتعريف والدها بها، أكثر مما هي رغبتها في معرفته.
هل كان كتاب «أحاديث مع والدي أدونيس» ليكون، لو لم تسم الأسئلة والأجوبة سمة «الرحمة»، الرحمة الضمنية في الأسئلة كما في الأجوبة، فالأمر يتعلق جيداً كما نرى، بين والد وإبنة، و«الأحاديث» غير أداتية أو تزينية، بل كاشفة، ما دامت الخلاصات خدمت السائلة والمجيب/ الشاعر، والقارئ معاً.
كشف تام
لم تأتِ «الأحاديث» في فصولها الأربعة، على شكل خطابات مثالية في نية الإقناع الدائمة، لا من المحاورة ولا من المحاور، بل هي استطاعت أن تكشف ميتولوجيا «جوهرانية» عن كلا المحاورين في نقاط اختلافهما والتقائهما. كما لم تسمح «الأحاديث» لنفسها بأي اهتزاز، وجاء ذلك لفائدة استمرار الكشف التام، ولأي جزئية فيه. كذلك ليس في «الأحاديث» ما يبعث على الاستغراب لكونها لم تغير شيئا يُذكر في صلب قناعات مسبقة لكل من نينار وأدونيس، من كون الاختلاف على أكثر من موضوع ورأي وفكرة، غير بسيط بينهما، أي بين شاعر شغلته مشاغله الكثيرة عن مراقبة إبنة تكبر وتترعرع بعيداً من ناظريه، ما ولّد مجهولية تامة بين الاثنين، ساهمت به الأم (بحسب أحد الحوارات بين نينار ووالدها الشاعر) التي أخفت تماماً عن الأب، أي أمر أو عائق أو معاناة أو ملمح في حياة صغيرته، رغبة من الأم في عدم إشغال الشاعر كثير المشاغل، بغير شِعره واهتماماته الثقافية والأدبية والفكرية.
ثمة الغلبة أيضا في الأحاديث، للسمة الحقيقية التي تجمع المتحدثين «أب وإبنة» والتي تظل ماثلة في ذهن القارئ أثناء قراءته الكتاب. العلاقة الجامعة بين الاثنين هي التي تقود الأسئلة والأجوبة، وتدفعها تواً إلى معان مبيتة، وهناك المجال الواسع «للدلال»، الدلال المسترسل من كليهما، ما منح الأحاديث حقيقتها الرطبة، وكان عاملاً لتغذية الفراغ أو النقص، وملئه، عبر الكشف المتتالي عن حقائق خافية. علاقة غير مؤكدة خلصت إليها الأحاديث، إلا أنها مع ذلك.. ممكنة.
هل تعبت؟ سؤال تكرره نينار على والدها الشاعر في نهاية كل حديث، ما جعل من هذه الأحاديث متقطعة، وفي قلب معنى «الرحمة» التي ذكرنا.
في الأحاديث أخيراً، ثمة انفجار للعواطف التي كمنت طويلاً، في قلب فتاة لم تنعم إلى حد، بقرب الأب، ولم يكن لروحها معنى محظوظ في غيابه «الشكلي أكيد» أو وظيفة حميمة، أو خدمة شعورية تؤديها. أحاديث لا تردّك فحسب إلى دلالات ثقافية وفكرية ومعرفية، بل تُرجعك في نهاية الأمر، إلى الرغبة في حنان ما.
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد