هل يعلم الرسام العربي اليوم ماذا يبدع؟

17-06-2010

هل يعلم الرسام العربي اليوم ماذا يبدع؟

حين قامت حركات التحديث الفني في الوطن العربي منتصف أربعينات القرن الماضي وبداية خمسيناته، لم يكن ذلك الحدث منفصلاً عن رغبة المجتمعات العربية في التقدم، وفي معنى اللحاق بالعصر وفق المفهوم الغربي. يومها حدث انفصال ضروري بين ما يستحق أن نسميه فناً وبين ما ينتمي إلى الصناعات الشعبية، التي تستند إلى مبادئ تقنية محدودة، تكمن قيمتها الجمالية في ثباتها وسكونيتها واتقان تكرارها عبر الأجيال من قبل حرفييها. ووفق هذا المنظور اكتسبت التجارب الفنية المحدثة طابعاً طليعياً، لا على مستوى النوع الفني (الرسم والنحت والعمارة) فحسب بل وأيضاً على مستوى صناعة الذائقة الفنية وتطوير الحساسية الجمالية لدى جمهور المتلقين. وإذا كان مسعى التحديث في بداياته التبشيرية، التي هي سنوات التأسيس قد بدا هادئاً ومتزناً ومنسجماً مع طموح الفرد العادي من سكان المدن وهم المعنيون بالفن أكثر من سواهم بالتغيير، فإن العقد اللاحق (الستينات) جلب معه حماسة متمردة اهتمت في شكل أساس باستدراج الفن إلى مواقع مضادة لفكرة التوفيق بين ما هو فني وما هو اجتماعي.
وبدا واضحاً أن مبدأ التوازن القائم بين القطبين لا يمكن أن يستمر لما يلحقه ذلك التوازن من أضرار بقدرة الفن على التحكم بموقعه الطليعي. هكذا شهد ذلك العقد نسف الكثير من الأهداف التي خطط الخمسينيون للوصول إليها من خلال فن حديث لا يفارق حاضنته الثقافية، كالهوية الوطنية أو القومية للفن والعناية في البحث عن أصول تراثية واستلهام الفن الشعبي. كان الانقلاب الستيني قد شيد عمارة مزاجه خارج بيت الطاعة الخمسيني. ذلك البيت الذي كان يضم كل الأدوات المتاحة لقياس حركة نمو المجتمع البطيئة، ولكن المتوازنة في الوقت نفسه.
ومع ذلك الانقلاب حل مفهوم جديد للطليعية محل المفهوم القديم. صرنا في مواجهة الفنان المنفي والواقف بتمرده خارج سياق حركة المجتمع. أبن فكرته الطليعية التي لا تقبل التسويات الثقافية. لسان حاله يقول: أنا هناك في ذلك المكان الغامض ومن شاء أن يتبعني فليفعل. ولأن ذلك الانقلاب كان عاصفاً فقد اندثرت أمامه كل المقولات الخمسينية، وهي مقولات لم تكن شرسة ولم تكن مستعدة لنزال من هذا النوع. ولهذا انهارت سريعاً فكرة الحداثة الفنية المشفقة على أهل البيت لتحل محلها فكرة حداثة مسرعة وقاسية في أحكامها النقدية المتعلقة بقدرة المتلقي في مجالي التأمل البصري والاستيعاب الذهني. هنا بالضبط يمكننا الحديث عن فجوة حدثت بين إيقاعي حركتين: إيقاع حركة الفن وإيقاع حركة المجتمع.
صار الرسام غالباً ما يجلب كل ما هو مدهش واستثنائي وغريب غير أنه في الوقت نفسه صار محاطاً بكل أسباب الريبة والحذر لما يسببه سلوكه الهدام من ارباك للنظم الثقافية السائدة. تزامنت تلك القطيعة مع حدوث الانهيارات الكبرى: هزائم وضياع الجزء المتبقي من فلسطين، استيلاء العسكر (أو الأحزاب المتعسكرة) على السلطة في عدد من البلدان العربية، فشل في خطط التنمية حيث لم يعد الإنسان هدفاً بل صار وسيلة رخيصة ومستباحة، اتساع الفجوة بين ما هو إنساني وبين ما هو تقني مستورد. كل هذا قاد إلى وضع صار فيه الفن باعتباره مصدراً للخلق الجمالي في مكان فيما كان المجتمع يقف في مكان آخر.
ما نراه اليوم من تراجع، بل وتدهور في مستوى الأنواع الفنية من رسم ونحت وعمارة ما هو إلا انعكاس لقوة اليأس الذي عاشته المجتمعات العربية وهي تبحث عن صورتها في الفن طوال أكثر من ثلاثة عقود من غير أن تجدها. ولكن هل يمكننا القول أن تلك المجتمعات فعثرت على صورتها الآن في الفن؟ نعم ولا في الوقت نفسه.
منذ نحو عقدين نجحت تلك المجتمعات في تدجين الفنانين، فصارت تحضهم من طريق المال (رشوة ذات طابع ثقافي) على إنتاج فن مسلٍّ، إشاري مراء ومريح لا يكلف النظر إليه أي عناء أو مشقة ولا يدفع إلى التساؤل المحرج: ما معنى هذا؟ رسوم (لأن النحت كان دائما مستبعداً من عملية التسويق والاقتناء إلا في ما ندر) تعيدنا إلى الفن الايقوني من جهة تمكنها من الإجابة مباشرة وطواعية على اي سؤال جاهز وساذج. ما من سؤال. ذلك لأن تلك الرسوم هي في حقيقتها ليست من إنتاج الرسامين بل هي من إنتاج حاجة المجتمع إليها وقد قام الرسامون بتنفيذها.
رسام اليوم في العالم العربي لا يعرف ما الذي يرسمه، وهو لذلك لا يستطيع الدفاع عنه. فلم يعد هناك مشروع جمالي ينطوي على رغبة في النقد ومن ثم الاختلاف اسمه الرسم. هناك رسامون يُحاطون علماً بذائقة المجتمع (الجمالية) من خلال مجسات سوق الفن. وهي الحلقة الأخطر في مجال تكريس مبدأ الضريبة التي يجب أن يدفعها الفنان من أجل أن يكون مقبولاً جماهيرياً. أصبحت قاعات العرض الفني في العالم العربي (هناك استثناءات قليلة) واجهات لثقافة المجتمع السائدة ولذائقة ذلك المجتمع الجمالية بكل قيمها التزينيية. فكان على من يرغب في العرض أن يكون مستعداً لدفع ما يمكن أن أسميه بلغة الاقتصاد بالرسوم الجمركية. رسوم هي في حالة الفن اعتبارية غير أنها تنتهي إلى أرباح مادية وخسائر روحية عظيمة في الوقت نفسه. يخسر الفن بسببها استقلاليته كلها فيكون مجرد تابع لمؤسسة قررت أن تكتفي بواحد من وجوهه: البضاعة التي تدر عليها أموالاً.
وبسبب الهوس بالأرباح فقد مررت القاعات الفنية الكثير من الأكاذيب باعتبارها معجزات جمالية. هناك اليوم في سورية رسام شاب ساذج ومبتدئ تُباع رسومه بأسعار لا يمكن أن تصل إليها أسعار رواد الفن في الوطن العربي، الأحياء منهم والأموات. نجومية فارغة من أي محتوى، غير أنها تستجيب لإيحاء السوق الذي لا يرغب إلا في فن يكون في خدمة مجتمع كسول، يائس من فكرة اندفاعه الذاتي في طريق التقدم. إزاء ما يحدث هل يمكنني اقتراح فكرة المناطق الحرة للعرض الفني؟ وهي مناطق لا تخضع لتلك الرسوم الجمركية.
حدثني الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد ذات مرة وكنا في بيروت عن رسوم شفيق عبود قائلاً أنها رسوم ولي من أولياء الله الصالحين، قبل أن يقول لي: يجمعني به فوترييه. وهو يقصد الرسام الفرنسي ذا النزعة اللاشكلية. يومها تخيلت صورة الولي الذي لا يكذب ولا ينافق ولا يحتال ولا يزور ولا يشتري رضا الآخرين. صورة هي النقيض تماماً لصورة رسام اليوم في عالمنا العربي. وهو الفرد المطيع الذي يعمل في خدمة مؤسسة تحقق له الانتشار السريع والراحة المادية. كان الأولياء معذَبين فلم يرث عذابهم أحد.

 

فاروق يوسف-الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...