الكتاب المصري بين حلال وحرام
لم تعد القاهرة مدينة الألف مئذنة، بل مدينة الألف مُفْتٍ. حتّى إن أردت تقبيل زوجتك، فقد تكون بحاجة إلى فتوى شرعية. مسلسل الفتاوى الذي طاول كلّ شيء، وصل الأسبوع الماضي إلى «اتحاد الناشرين المصريين». هذا الأخير بعث برسالة إلى دار الإفتاء والكنيسة يطالب فيها بـ «فتوى شرعية لتحريم نشر الكتب على المواقع الإلكترونية مجاناً»! وبالطبع استجابت دار الإفتاء المصرية، وردّت بتحريم نشر الكتب الإلكترونيّة، قائلةً إنَّ نشرها «من دون علم أصحابها تضييع لحقوقهم وأكل لأموالهم بالباطل». بالطبع، سرقة الكتب أو طبعها من دون إذن مؤلفيها، وخصوصاً على الشبكة العنكبوتيّة، موضوع أثار سجالات كبيرة في مضمار حقوق الملكيّة الفكريّة عالمياً. لكن ما علاقة الأزهر والكنيسة بالنشر الإلكتروني يا تُرى؟ إقحام المؤسسات الدينية في قرارات هي من شأن القوانين الوضعيّة، ألا يمثّل إلغاءً لدور الدولة المدنيّة؟ أليست المؤسسة الدينية هي نفسها التي ترفع رايات مصادرة الكتب يومياً؟ الأمثلة في مصر كثيرة... آخرها الدعوى التي رُفعت على «ألف ليلة وليلة»، ودعوى الكنيسة القبطيّة على «عزازيل» يوسف زيدان.
محمد رشاد رئيس «اتحاد الناشرين المصريين» بدا غاضباً من الصحافة التي «بالغت في تضخيم الأمر، مع أنّه لا يستحق كل هذه الضجة»، على حدّ تعبيره. رئيس «اتحاد الناشرين المصريين» يسأل: «لماذا نتجاهل أنّنا نعيش في مجتمع له عاداته وتقاليده... لقد وجدنا أن 90 في المئة من العرب متمسكون بالقيم الدينية. لجأنا إلى المؤسسة الدينية لعلّ الوازع الديني يحدّ من مسألة سرقة الكتب إلكترونياً». ورداً على سؤال «الأخبار» عن سبب عدم لجوئهم إلى القضاء والقانون المدني، أجاب رشاد: «آليات تطبيق القانون ضعيفة، وتجريم الاعتداء على الملكية الفكرية في القانون ليس كافياً، إذ يجري تغريم المعتدي من خمسة إلى عشرة آلاف جنيه، أو يسجن ثلاث سنوات».
لكن أليست هذه عقوبة كافية؟ يجيب رشاد: «طبعت رواية «ربع جرام» لعصام يوسف، واكتشفت أنّها أُنزلت عشرة آلاف مرة. كتبي نفسها أُنزلت 78 ألف مرّة، وهذا لا يعني فقط اعتداءً على حقوق الناشر، بل أيضاً اعتداءً على المؤلف. لو أنّنا بعنا هذه النسخ ورقياً، لكان المؤلّف قد حصل على كلّ حقوقه. صناعة النشر في تراجع، وهذه الإجراءات تأتي للمحافظة عليها». أسباب براغماتية تقف إذاً خلف اللجوء إلى المؤسسة الدينية؟ يمكن حتى الكلام عن استعمال المؤسسة الدينيّة لمآرب تجاريّة... لكن ماذا لو انقلب السحر على الساحر، وجاءت المؤسسة التي استجار بها اتحاد الناشرين، لتحرّم غداً صدور هذا الكتاب أو ذاك من أساسه؟
الناقد جابر عصفور قال لـ«الأخبار»: «أتفهّم دوافع اتحاد الناشرين باللجوء إلى المؤسسة الدينية، لكن هذا اعتداء على فكرة الدولة المدنية التي لا تعرف أحكاماً دينية بل حكم القانون». نبيل عبد الفتاح رئيس تحرير «تقرير الحالة الدينية» رأى بدوره أنّ «لجوء اتحاد الناشرين إلى رجال الدين معناه تسليم مهنة النشر إلى السلطة الدينية. والغريب أنّ ذلك يحدث في دولة دستوريّة معاصرة، لا يوجد فيها قرار مقدّس». وأبدى عبد الفتاح دهشته من محاولة الاتحاد «فرض رقابة على عمليات النشر الإلكتروني في عصر الوسائط المتعددة، وتحوّل أسواق الكتاب إلى أسواق معولمة. فكيف يطالبون برقابة دينية على فضاء لا يمكن فرض رقابة عليه؟». ويذهب عبد الفتاح أبعد من ذلك في نقد موقف الناشرين، مذكّراً بأن «معظم المبدعين يدفع للناشر حقوق النشر كاملة. وإذا أردنا الحديث عن الحلال والحرام، فما يقوم به الناشرون لناحية عدم إعطاء المؤلفين حقوقهم هو الحرام بعينه... أمّا نشر المعرفة بلا ثمن، فهو الحلال بعينه أيضاً». يستند عبد الفتاح في رؤيته إلى أنّ السلف الصالح كان ينسخ الأعمال بيديه، مذكّراً بأنّ كمّاً هائلاً من الأحاديث الدينية ينتقد «كتمان العلم».
حين نسأل محمد رشاد عن سبب انتشار مبدأ النشر على نفقة المؤلف في معظم دور النشر، يجيب: «مساهمة المؤلف في تكاليف نشر كتابه ليست بدعة اخترعها الناشرون المصريون، بدليل أنّ القانون المصري لحق النشر قد استثنى المؤلّف وورثته من نشر مؤلفاته من دون أن يكون مسجلاً في اتحاد الناشرين. كما أنّ مساهمة المؤلف هي نوع من أشكال التعاقد بين الناشر والمؤلف الموجودة في الغرب، مع التأكيد أنّ ذلك يجري بالتراضي بين الطرفين».
ونترك رئيس «اتحاد الناشرين المصريين» السعيد بإصدار فتوى تطيح مكتسبات المجتمع المدني في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا. نفى محمد رشاد بشدّة أن تكون للفتوى علاقة بسيطرة جماعة «الإخوان المسلمين» على الاتحاد بعد الانتخابات الأخيرة... لكن السؤال يبقى من دون ردّ: على أيّ أساس تلجأ مؤسسة مدنيّة إلى فتوى دينيّة لحماية حقوق المؤلف بدلاً من المحاكم؟ تحريم نشر الكتب على الإنترنت من جانب دار الإفتاء، هل يعني أنّ المؤسسة الدينية معنيّة بحماية الكتب وصنّاعها؟
محمد شعير
المصدر: الأخبار
التعليقات
تشدد
إضافة تعليق جديد