المرأة بوصفها شرطاً للحداثة العربية

14-05-2012

المرأة بوصفها شرطاً للحداثة العربية

يتسم بعض التشريع الإسلامي بالنزوع إلى – اللفظية – التي تحاول النصوص الأولى قرآناً وسنة بعبارات محكومة لمدى رصيد الفقيه في اللغة والفكر والثقافة.. فما يصدر عنه في هذه الصياغة من أحكام ليست هي التشريع الإسلامي، وإنما هو الفقه أنتجته تلك العلاقة الثنائية الصامتة بين فقيه يدور داخل النص ليستنطقه وبين نص لم نكتشف بعد دلالاته المعرفية لأن مناهج قراءته تأسست على مقاربته الحرفية لتفهم دلالاته اللفظية. وهنا يكمن إشكال التصادم بين التشريع والواقع وما يستتبعه من أسئلة مثيرة للجدل حول الثابت والمتغير، الأصالة والمعاصرة، الدين والزمن، وتحديات الحداثة وما بعدها، وسواها من الأسئلة التي ألقت بأثقالها على كاهل المرأة وقضاياها من منظور إسلامي.. وكأني بالسيدة جمانة ط في كتابها الجديد "المرأة العربية في منظور الدين والواقع" كانت على وعي بهذا كله، وهي تلفت في تمهيد كتابها إلى تلك الفجوة العميقة بين الدين الواقع، والتي اتسعت تحت وطأة التخلف لغياب العقل العلمي وإقفال باب الاجتهاد.. ولما كان بحثها في المرأة دراسة مقارنة فقد بذلت الكاتبة جهداً بالغاً في ترتيب الرؤى الدينية والتاريخية والفكرية ترتيباً يرد أنساق الأزمة الراهنة إلى جذورها.
ويبدو لي أن مصطلح السيدة جمانة عن (ازدواجية الثقافة) يكاد يقبض على الحلقة المفقودة بين الرؤية الإسلامية لواقع المرأة وبين رؤية الإسلام لهذا الواقع. ما يعني أن المشكلة في أدبيات تراثنا الإسلامي ستظل كامنة في ذلك السجال الخفي بين الفكر الديني وبين السياسة حيث المرأة من وراء غبار تلك المعركة، هي ضحية نظام أخفق في إنجاز شروط التصالح بين الدين والمجتمع منذ الخلافة الأموية وحتى اختلافات العقل العربي المعاصر على الأسس الحقوقية لقضايا المرأة. وليس يعنيني من عنوان المرأة بين الشريعة والواقع، إلا أن أصل إلى جوهر المشكلة، وهي عندي منبسطة في الإجابة عن سؤال: ما الذي ضاع من حقوق المرأة بين الدين والواقع؟ أوليست كرامة المرأة وإنسانيتها هي لب ما نبحث عنه من جميع ما انسفح من حقوق المرأة المهدورة بين نصوص تم تأويلها لصالح الرجل وواقع انتزع مرجعيته الشرعية لصالح مرجعيات الذكورة المستبدة؟! وبمعزل عن جميع صور المرأة في التاريخ والدين والحضارة فإن مناط الدراسات المقارنة يجب أن يستند على معيارين أحدهما: البحث في معنى المرأة، وثانيهما: البحث في محددات رسالتها في الحياة وحينئذ تتضح فوارق المسافة بين اختلافات الشرائع واختلافات أزمنة الواقع. ومن هذه المعيارية قدر للصديقة جمانة طه أن تهيئ مقومات نقدها لموروثات الدين وتقاليد الواقع، فأراها تضطر إلى الوقوف عند عصر النهضة بوصفه المفصل التاريخي الذي تلاطمت فيه أعلى مستويات الاختبار لجدل العلاقة بين التشريع والواقع، فلم يشعر رواد النهضة بأي حرج في نقد التراث الديني من داخل النظام الاجتماعي، لكي يزيلوا عنه غموض الرؤية فيما يتصل بحقوق المرأة في الحرية والتعليم والعمل والمساواة بحسب مرجعية الشريعة نفسها. وكان من الواضح أن منطق الدفاع عن الإسلام في تجربة الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني لم ينجح كثيراً في ردم الهوة المتسعة بين شريعة معطلة وواقع محاصر بالاحتلال.. فهل أخفق رواد النهضة بربط سؤال المرأة بأسئلة الهوية والمقاومة وتحديات التغريب؟ وهل انتهى السجال حول قضايا المرأة بين الدين والواقع إلى انتصار متغيرات الواقع على الشرائع الدينية كلها؟..
لقد اعتبرت جمانة طه أنه ومنذ ظهور الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين وأوضاع المرأة العربية تتطور وتتحرك بعيداً عن القاعدة المرجعية الإسلامية نتيجة الانقلاب عليها والتخلي عنها كقاعدة مرجعية ودسدتورية وقانونية شاملة للمجتمع والسلطة والدولة لذلك كانت الأرضيات والمناخات التي فرضتها الدولة العربية تقطع العلاقة المرجعية بين المرأة والدين، وتجعها في حالة اغتراب عن الفكر الديني وأكثر قرباً وانسجاماً مع القاعدة الفكرية الغربية التي تباهت بشعار تحرير امرأة والدفاع عن حقوقها وحريتها وتقدمها..
وتخلص جمانة طه إلى أن هذا الوضع أدى إلى إثارة حفيظة الفكر الديني ودفعه إلى اتخاذ موقف المدافع عن الهوية الدينية مع المطالبة بإبقاء المرأة في البيت وعدم التفريط بالتقاليد المتوارثة ومع تفاؤل السيدة جمانة طه بدور أئمة الفكر الإصلاحي وأثر اجتهاداتهم النوعية في تحسي واقع المرأة إلا أن أصوات هذا الفكر ما تزال مغتربة مع تنامي الأصوليات الإسلامية التي التبس عليها مفهوم الغزو الثقافي لأمتنا، فذهبت بعيداً في فصل المرأة عن المجتمع تحت شعار حماية المرأة من أنياب الثقافة الغربية الوافدة دون أن تلتفت إلى أن حرية المرأة في عهود الانتداب الأجنبي لبلادنا كانت الحصن المنيع لمشروع مقاومة المحتل.
ولا يبدو أ السيدة جمانة طه قد استنفدت غرضها من الكتاب، لأنها تضع بين أيدينا في فصل التحديات مواجهة استحقاقات الحداثة منذ اللحظة التي شهدت انتصار المرأة بخروجها من هويتها البيولوجية الحيوية إلى فضاء هويتها الاجتماعية والسياسية. ولقد أحست بمرارة صرختها تستنجد ضمير الدين والفكر والسياسة لتحرس مستقبل بناتنا من خطر ازدواجية الحداثة والتقليد في عصر ابتلاع الهويات الذي يضغط علينا جميعاً في أن نكون أو لا نكون. ولسيدة جمانة أ تسكب بالقلم زفرة القلق لا على مصير معناها في زمن يكاد يجردها من أخص خصائص إنسانيتها وكرامتها.
وفي كتاب السيدة جمانة توثيق ورؤية وموقف، أفصحت عنهم جميعاً ليكون متاحاً لقراءة التفكير والحوار في وطن عربي نرجو له أن يتحرر من عصبيات تلك الأمية التي وقعت كل تبعاتها على امرأة لا بد أن تستنفر عقلها من أجل أن تقرأ وتقرأ حتى تلوح لها بشائر الفجر الذي انتظرته طويلاً.
وبعد.. لقد حاولت السيدة جمانة في عملها الفكري هذا أن تجتلي قوة المرأة بوصفها شرطاً للحداثة العربية، فاقتربت كثيراً من فك ألغاز الجمود الذي أمسك بخناق المجتمع بين ثقافة فقهية سمرت مناهج الفقه في رؤية افترضت الواقع البشري نسخة طبق الأصل عن مجتمعات تكرر نفسها عبر التاريخ فهي بحاجة إلى أحكام جاهزة ثابتة لا تقبل شيئاً من التجديد والتحديث وبين ثقافة الموروث الاجتماعي تناسل الأعراف والتقاليد فلا تسمح بأي إصلاح وتغيير في مدى عربي يقدس كلا الثقافتين تقديساً كان يحول وما يزال دون إنتاج معرفة جديدة بروح الإسلام وتحديات الواقع.. كذلك تحتد جمانة إزاء مجتمع عربي يواجه في العصر الحاضر صراعاً بين العقل والتاريخ ولا يسعها في محتدم هذا الصراع ومعاركه إلا أن تنحاز لمرجعية العقل الذي يفتح قنوات الاتصال بين إنجازات التاريخ المضيئة وإنجازات الحضارة المعاصرة لتخليصنا من ذلك التناقض الذي يطغى علينا من حداثية عشوائية مفرطة هي أبعد ما تكون عن قيم التشريع ومنظومات الهوية وليس على السيدة جمانة إلا أن توقظ المرأة من غفوتها على سؤال الأخلاق والزمن متسائلة ومن حقها أن تسأل عن موقع هواجسها في برامج التطوير والتحديث لتذكرنا بأن القعيد القعيد من وراء مطارحات الدين والواقع هو العقل العربي المبتلى بمرض التريث في مقارعة الصعاب. ولأمر ما تكاد جمانة تحوم حول أزمة العقل العربي، إلا وتضع أصابعها من بعيد على موضع الداء من مأزم هذا العقل.. وكأنها لم تشأ من كتابها إلا أن يكون بمثابة خريطة تمضي بنا إلى معبد العقل المغيَّب عن فقه المرأة الإنسان وفقه المرأة المجتمع بفعل عزل المرأة عن حقيقة شهوديتها واحتمالها لمسؤولية الأمانة في إطار مشروع الاستخلاف الرباني للإنسان على الأرض.. ومن حق جمانة أن تصر بالمرأة وبالمجتمع أن دخاناً أسود قد علق برداء الدين وعباءات المرأة ومن حق نقادها أن يبحثوا من وراء الدخان عن مصدر الحريق الذي يشتعل ومن حق قرائها أن يسمعوا منها ومنهم حتى يسرعوا بإخماد عذابات المرأة من كل الجهات.

الجمل - الشيخ حسين شحادة

رئيس تحرير مجلة المعارج

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...