أمراض جهاز التنفس ثاني مسبب للوفيات وثاني أكثر مرض منتشر
أغصّ بالهواء» جملة قالها أبو سامر وهو يصارع التهابات مزمنة في رئتيه تفاقمت معه حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة، وكان قبل وفاته يقول: من أين أحصل على هواء نظيف وسط هذا التلوث؟!
أبو سامر لم يعد بحاجة إلى هواء نظيف وفقد حق المطالبة بهواء نظيف، لأنّه فقد الحياة، ولكن أليس الهواء النظيف من أبسط حقوق أولاده الأربعة وأسرته وأقاربه وحقوق النّاس..؟!.
لا تظهر البلاغة اللغوية في حالة الهواء الذي يسبب «غصّة» لمن يتنفسه، بل لا يتقبّل اللغويون جملة «المرحوم أبو سامر» ولكنها هي بلاغة الواقع، فواقع الحال أن من يجاور مصفاة نفط ومعامل للإسمنت أو الأسمدة أو السكر أو غيرها من المنشآت المتردية فنياً، ويقع في دائرة تأثير منصرفاتها الغازية والعوالق والغبار والروائح الناجمة عنها «يغصّ» بالهواء، ولكن «سكان» المدن حتّى في الأماكن البعيدة عن الصناعة «يغصّون» بالهواء الذي لوّثه دخان السيارات بوقود من أردأ أنواع الوقود في العالم، وبمواصفات متفاوتة في الرداءة للسيارات التي لا تخضع لمواصفة بيئية!
وواقع الحال الأبلغ أنّ إحصاءات وزارة الصحة في مجال الوفيات تتضمّن ما يثبت التفاقم لأمراض الجهاز التنفسي فانتقلت هذه الأمراض من رابع أكبر مسبب للوفيات عام2006 إلى ثاني أكبر مسبب للوفيات في سورية عامي 2008 و2009.
مرجعية منظمة الصحة العالمية
وفق الإمكانات الإعلامية لا يمكن إلاّ اعتبار أنّ الإحصاءات الخاصة بالوفيات الناجمة عن أمراض التنفس هي أكبر دليل على وجود تفاقم للتلوّث أدّى إلى تفاقم تلك الوفيات، إضافة إلى وجود تفاقم للتدخين يؤدي إلى تفاقم تلك الملوثات، وذلك في ضوء ما تؤكّد عليه وتثبته منظمة الصحة العالمية عن علاقة وثيقة بين تلوّث الهواء والتدخين وبين زيادة الوفيات بأمراض الجهاز التنفسي.
ومن المؤسف أن تقتصر أدلة الربط بين الوفيات الناجمة عن أمراض التنفس وتلوّث الهواء وظاهرة التدخين على مرجعية منظمة الصحة العالمية، التي لا تمتلك دراسات وأبحاثاً تخصّ النموذج السوري ومدى علاقة أمراض التنفس والوفيات الناجمة عنها بتلوّث الهواء، ولا تتوافر معلومات عن خصوصية بعض المناطق الأكثر تلوّثاً ومدى تفاقم تلك الأمراض والوفيات المشار إليها..، لأنّ البحث العلمي لدينا لم يجد بعد أنّ مجال الأمراض التنفسية وعلاقته بالتلوّث يستحق البحث والدراسة، ويحصل هذا حتّى بعد أن تفاقمت أمراض التنفس وأصبحت كثاني اكبر مسبب للوفاة في سورية؟!
إنّ كلّ ما هو متوافر مجرّد إحصاءات إجمالية لانتشار تلك الأمراض ووفياتها، وبعض التفصيلات الخاصة بكل محافظة، ولكن ما من دراسات تثبت علاقته التلوث بالوفيات الناجمة عن أمراض الجهاز التنفسي، وعلاقة التدخين بتلك الأمراض والوفيات الناجمة عنها؟!
بلاغة الإحصاءات
تحددت أسباب الوفاة -وفق وزارة الصحة- عام 2006 بأسباب ترتبط بالأمراض العشرة الأكثر تسبباً للوفيات، وجاءت أمراض الجهاز التنفسي كرابع أكبر مسبب للوفيات في سورية، علماً أنّها شغلت ذات المرتبة في أسباب الوفيات عام2000، إذاً في قراءة الإحصاءات فإنّ الوفيات الناجمة عن أمراض الجهاز التنفسي كانت بمرحلة متقدّمة طوال ست سنوات 2000 وحتّى 2006.. ومع الحديث الكثيف عن جهود للتصويب البيئي ومواجهة ظاهرة التدخين.. خلال السنوات القليلة الماضية يتخيل المتابع أنّ أمراض الجهاز التنفسي ستشهد تراجعاً وستتراجع نسبة وفياتها، ولكن هاهي الإحصاءات الرسمية تقدّم المفاجآت وبما لا يمكن ربطه إلاّ بتفاقم تلوّث الهواء وليس تراجعه، وبتفاقم ظاهرة التدخين وليس تراجعها..
فوفق إحصاءات أسباب الوفيات عام 2007 قفزت أمراض الجهاز التنفسي لتصبح ثاني أكبر مسبب للوفيات بنسبة تزيد على 9% من الوفيات، وحافظت على هذه المرتبة في وفيات العام2008 وبنسبة مساهمة أكبر إذ تجاوزت 11% من الوفيات، وحافظت على المرتبة المتفاقمة في وفيات العام 2009..، فماذا يعني ذلك؟!
ومع وجود تباين طبيعي في تفاوت خطورة الأمراض المنتشرة، وعدم تطابق المرتبة ذاتها بين انتشار المرض وتسببه للوفاة، إذ عادة تتوفّق أمراض الجهاز الهضمي بانتشارها في سورية على انتشار باقي الأمراض، ولكن الوفيات الناجمة عنها قليلة جداً مقارنة بالوفيات الناجمة عن باقي الأمراض..، ففي نموذج إحصاءات الأمراض الأكثر انتشاراً في سورية عام 2008 حلّت أمراض الجهاز التنفسي بالمرتبة الثالثة، وهذا يعني تقارب مرتبتها من حيث الانتشار ومن حيث الخطورة، إذ أصبحت ثالث مرض منتشر وثاني أكبر مسبب للوفيات، وتفاقم الوضع في نموذج إحصاءات العام2009 لتصبح أمراض الجهاز التنفسي ثاني مرض منتشر وثاني أكبر مسبب للوفيات في سورية..
وهكذا أما آن لهذه الأمراض أن تسبب ارتقاء بجهود الاهتمام بها وبما يعادل سوية مخاطرها وانتشارها؟!
تجاهل أمراض التنفّس؟
تكشف متابعات «تشرين» حقيقة من العيار الثقيل بخصوص التعامل مع الأمراض في نموذج الخطة الخمسية العاشرة، لأنّ نص الخطة تضمّن برنامجاً متكاملاً يخص أمراض القلب والسرطانات، واعتبر أنّ أمراض القلب والسرطانات تشكل ثلثي العبء المرضي في سورية، وتضمن أنّه سيتم إنفاق 6783مليون ل.س حتّى نهاية عام2010 على برنامج المكافحة الشاملة للسرطانات، و7508ملايين ل.س على البرنامج الوطني للوقاية من أمراض القلب، وإنفاقات على برامج ومشروعات وصلت إلى الأمور المتعلقة ببرنامج الصحة النفسية، وهكذا في زحمة الانشغال بعبء أمراض القلب والسرطانات...، لم يرد ضمن البرامج ما يتعلق بصحة الجهاز التنفسي وأمراض الجهاز التنفسي، وبمرتبة تلك الأمراض ومخاطرها، فمتى يمكن التنبه إلى عبء أمراض الجهاز التنفسي التي تتطوّر؟ وهل ستشهد الاهتمام عندما تصبح أوّل مرض منتشر وأوّل مسبب للوفيات؟!
مؤشرات محلية
من الثابت وجود التلوّث، ومن المؤكّد أنّ تلوّث الهواء بأضعاف المسموح به في المواصفات العالمية، وحسب منظمة الصحة العالمية فإنّ «علاقة أمراض جهاز التنفّس وثيقة بتلوّث الهواء»، ومادامت مخاطر أمراض جهاز التنفّس ازدادت فهذا يثير التساؤل تجاه علاقتها بمؤشرات عديدة منها زيادة كبيرة بأعداد السيارات في سورية، وزيادة كبيرة في اختناقات المرور واستهلاك الوقود، وزيادة في الأمراض، وفق أحد المختصين فإنّ «80%من أمراض جهاز التنفّس متعلقة بتلوّث الهواء»..؟
في نص الخطة الخمسية العاشرة ورد التالي: سبق أن اعتبرت دراسات لوزارة الصحة منذ 1995، أنّ إصابات الجهاز التنفسي في المناطق الملوثة في سورية، تفوق بثلاث أو أربع مرات عددها في المناطق النظيفة، واعتبرت (خطّة العمل البيئية2003) التلوث بالعوالق وحده (قد يكون سبباً لوفاة أربعة آلاف مواطن سنوياً في سورية)؟!
واعتبرت وثائق صادرة عن الهيئة العامة لشؤون البيئة منذ بضع سنوات مشكلة تلوّث الهواء كأولوية بيئية، وأنّ المؤشرات عليها زيادة الأمراض والوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض التنفسية..
وكثيرة الأمراض والحالات الخطيرة التي يلعب العامل الشخصي وأداء المريض دوراً في تفاقم خطورتها عليه أو تراجعه، ولكن أمراض التنفس في جانب منها لا حول للمرضى أمامها ولا قوة لهم تجاهها، إذ لا توجد أيّ مسؤوليات يتحمّلها المواطن عند التخطيط السيئ للمرور والتقصير تجاه تصويب التوعك البيئي حيث ما من تحسين يذكر في المجالات التي تحدثت عنها الاستراتيجية البيئة التي تمّت صياغتها عام2003، وبقي التقصير واضحاً تجاه أمور من عيار «تحسين الوقود، والانتقال إلى الوقود الغازي في النقل وتطوير نظم المرور، ووضع اشتراطات بيئية لاستيراد السيارات..»، ويوجد اتفاق بين الباحثين والمتخصصين تجاه التسليم بأنّ زحام السيارات يشكل مصدراً رئيسياً لتلوّث هواء المدن الكبرى، وأنّ الزحام يفرض حركة بطيئة جداً للسيارات وبالتالي يسبب استهلاكاً أكثر للوقود وقذف ملوّثات أكثر، وأنّ ملوثات السيارات القديمة أضعاف ملوثات السيارات الحديثة..
ومازالت القياسات القديمة لتلوّث الهواء في بعض المدن (دمشق- حلب- حمص..) شديدة الوقع، حيث بدلالة القياسات الحديثة فإنّ مستويات التلوث تتجاوز المعايير المسموحة عالمياً، وهنا يجدر التذكير بتحقيق سابق نشرته تشرين مؤخراً حول نتائج القياسات والدراسات الحديثة للهواء في سورية.
مؤشرات عالمية
في بحث مشترك قام به الباحث د.العودات من هيئة الطاقة الذرية، ود.عدنان غاتا جامعة البعث عام 2005 يشير إلى دراسات. (Anan and pan.2004) جرت في الصين اعتبرت التعرض غير المديد إلى زيادة قدرها 10 ميكروغرامات/م3 من العوالق التنفسية، يؤدي إلى زيادة موت مرضى الجهاز التنفسي بمعدل 6 أشخاص لكل 1000 مريض. أما التعرض المديد فيزيد من الأمراض الصدرية بمعدل 3.1% عند البالغين و4.4% عند الأطفال. وقالوا بأنّ دراسة أخرى قام بها (Schneider،2004) اعتبرت أنّ التعرض المديد للعوالق التنفسية الصغيرة يخفض العمر المتوقع من2- 3 سنوات.
وبعيداً عن الدراسات والأوضاع العالمية يكفي أن نشير إلى نموذج يعرفه كلّ مواطن يتجوّل في مدينة كبيرة كدمشق، حيث حصيلة بضع ساعات من التنقل في المدينة حصيلة مذهلة في حجم الغبار والعوالق التي يمكن إثباتها على الجبين، ويكفي استخدام محرمة ومسح الجبين لتظهر عوالق وأحياناً هباب؟!
ظافر أحمد
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد