نساء اليمن: الغناء من خلف النقاب
رغم فقر اليمن والظروف الاجتماعية السيئة التي يعيشها مواطنوه، فإنّ هذا البلد كان قبل التسيعينات يعيش حياة مدنية كاملة في الجنوب وفي بعض مناطق الشمال، رغم سيادة الذهنية القَبَلية. الأمر الذي أتاح لأهله العيش بتسامح وبلا ممنوعات كثيرة. انعكس التسامح والانفتاح على الحياة الثقافية والترفيهية، فكانت دور السينما مفتوحة للذكور والإناث. وخصّصت الفنادق صالات كبرى لتنظيم حفلات لفنانات معروفات، أو أفراح مختلطة من دون أي حاجز يفصل النساء عن الرجال.
لكن الأوضاع تغيّرت بعد وحدة الشمال والجنوب التي حصلت في أيار (مايو) 1990. وقتها بدأت مجموعة من السلفيين القادمين من أفغانستان العمل على مشروع غير معلن. استمرّ عملها أربع سنوات اغتالت خلالها 130 شخصية غالبيتها من الرموز الفكرية لـ«الحزب الاشتراكي اليمني».
مع انتهاء الحرب التي اندلعت عام 1994، انتصر الشمال على الجنوب الذي كان يطالب بالانفصال مجدداً، وبدا واضحاً للجميع أن فوز الشمال كان بمساعدة مباشرة من المجموعات السلفية. هنا تبلور المشروع الحقيقي للمتطرفين، فكان أول ما قاموا به هو تدمير مصنع «صيرة» للمشروبات الكحولية، باعتباره رمز الدولة الكافرة التي كانت قائمة في الجنوب. بعدها كرّت السبحة وبدأت الماكينة السلفية العمل بكامل طاقتها. اليوم، بعد عشرين عاماً تقريباً، جاءت الحصيلة: زحف الذهنية القبلية على الجنوب، وانطفاء المدنية، وقتل أي إمكان لتطوير الحياة المدنية في الشمال.
من يومها، تحوّل العنف إلى حوادث يومية في اليمن، تبخّرت إمكانيات العيش السهل. أغلقت دور السينما أبوابها لتصبح العاصمة صنعاء مثلاً بلا أي صالة. ومُنعت الحفلات والأعرس المختلطة. ومن الطبيعي والحال هذه، انحسار عدد الأصوات النسائية الغنائية. فرص العمل للمغنيات بقيت محدودة حتى في الصالات المغلقة، وهو ما حرم مجموعة من النساء من مصدر دخلهنّ. وفي وقت اختارت فيه المطربة أمل كعدل (الجنوب) الجلوس في بيتها بعدما حققت ما يضمن لها حياة كريمة، اتجهت الفنانة نشوى (الشمال) إلى عالم التجارة. لكن مصير هاتَين الفنانتَين لم ينسحب على باقي المغنيات. لم تجد الأخريات أي مصدر رزق آخر. وبديلاً عن انحسار الحفلات والمهرجانات، وجدت المغنيات اليمنيات وسيلة جديدة لكسب المال عبر أصواتهن: الغناء بلا هوية أو وجه، وإصدار ألبومات غنائية بأسماء وهمية وبأغلفة لا تحمل سوى صورة لفتاة منقبة لا يظهر منها سوى عينيها! وإلى هذه «الكتيبة»، انضمت لاحقاً فتيات ريفيات اعتقدن بجمال أصواتهن، فهربن إلى العاصمة بغية الإفادة من هذه الموهبة ولو مختفيات خلف نقاب، الأمر الذي يجعلهن في مأمن من ملاحقة ذكور العائلة. ولا شكّ في أنّه لو علم هؤلاء أن أنثى من العائلة قرّرت الغناء، لكانوا لاحقوها، لاسترداد شرف الأسرة المهدور!
وكان طبيعياً في مجتمع ذكوري مكبوت أن تلاقي هذه الأصوات رواجاً في سوق مفتوح، يتغاضى غالباً عن جمال الصوت ومتانته لصالح صورة الفتاة المنقبة على غلاف الألبوم، التي لا يظهر فيها غير عينين برموش اصطناعية غالباً. وإلى جانب جمال العينين، يستحسن أن تختار المغنية الغامضة اسماً يسهم في رفع مبيعات الألبوم. وعليه ليس مستغرباً أن تختار المغنيات اسم نانسي اليمن، أو هيفاء عدن، أو إليسا صنعاء، أو روبي المكلا. لكن ماذا عن طريقة وصول هذه الأصوات إلى الشركات المنتجة؟ يقول توفيق (اسم مستعار) وهو صاحب محل بيع
ألبومات تابع لشركة إنتاج شهيرة: إن الشركة لا تهتم كثيراً إذا وصلها الشريط عن طريق المغنية نفسها أو عن طريق وسيط. كذلك، فإن جمال الصوت ليس له دور بارز في اختيار الألبوم، «كل شيء يعتمد على طريقة اختيار الصورة على غلاف العمل». وماذا عن الحصول على الترخيص من وزارة الثقافة؟ يقول توفيق إن الوزارة لا تهتمّ كثيراً بملاحقة هذه المواضيع «نحرص دائماً أن تكون كلمات الأغاني بعيدة عن السياسة والدين، وكل ما عداهما مسموح به، حتى الكلام الذي يحمل معاني جنسية».
من جهة ثانية، يقول علي وهو أحد باعة الكاسيتات المتجوّلين، إن هذه الأعمال مطلوبة طوال السنة باستثناء شهر رمضان، إذ يمتنع اليمنيون عن الاستماع إلى الموسيقى في هذا الشهر. لكنّه يؤكد أن بيع ألبومات المنقبات يرتفع مع انتهاء شهر الصوم، ويتصاعد تدريجاً مع عودة الناس إلى وظائفهم.
ويبيع علي بين 20 و50 كاسيتات في اليوم الواحد، وهو يعدّ مرتفعاً مقارنة بمبيعات غيرها من الكاسيتات لفنانين معروفين. أما زبائن هذه الألبومات فهم بالدرجة الأولى سائقو السيارات العمومية، وذوو المستويات التعليمية المنخفضة. هؤلاء يجدون في الكلام السهل والمُغنّى وسيلة للتعبير عن رغبات (جنسية) مستحيلة.
نحو الكسب السريع
يرفض مدير «مركز التراث الموسيقي» في اليمن جابر أحمد علي فكرة ظهور فنانة منقبة على غلاف ألبوم غنائي. ويقول إنّ على المغنية أن تظهر بشكلها الطبيعي أو أن تمتنع عن الغناء. ويؤكد أن غالبية المغنيات المنقبات لم يدخلن الفن من باب الرغبة في التعبير عن قدراتهن الصوتية، بل لأسباب اقتصادية بحتة. مع ذلك، يبدي جابر أحمد علي تسامحاًَ مع بعض الأصوات الجيدة، ويقول إن أولئك يلجأن إلى إخفاء وجههنّ خوفاً من التعرّض لهنّ لو كشفت هويتهنّ الحقيقية، إذ لا تزال أغلب العائلات اليمنية ترفض فكرة دخول المرأة عالم الفن.
جمال جبران
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد