خريطة الفيلم الوثائقي السوري بعيون تجارب مازالت تزحف
عرّف «ريتشارد ماكان» الفيلم الوثائقي قائلاً: (إن أصالة الفيلم الوثائقي وقيمته، لا تنبع من اعتماده على مادة من الواقع فقط، بقدر ما ترجع إلى أصالة وتوثيق هذه المادة الواقعية، بمعنى أن الوثيقة هي الأهم عندما تعبر بصدق عن الواقع) وعليه فإن معايير التقييم الإبداعية تتعلق عادة بذائقة المتفرج لا يمكن توزيعها بعلب فيتامين أو تصديرها عبر إعلان مجاني في الإنترنت أو ما شابه ذلك.. ولكن القائمون على مهرجان (دوكس بوكس، سينما الواقع) أصروا على العبث بهيبة الفيلم الوثائقي السوري وبأرشيفه الكبير بعد دوران نحو ثلاث سنوات على ولادتهم في المشهد السينمائي عموماً والتسجيلي والوثائقي خصوصاً..
حيث نشر موقع تفاصيل التابع لمهرجان (دوكس بوكس) مقالاً مطولاً يشرح به للقارئ والمهتم العربي والأجنبي عن خارطة الفيلم الوثائقي بسورية، متخذاً من التجارب التي ظهرت على خلفيات سياسية أمام المجتمع الدولي كمبدعين في الأفلام الوثائقية، اتخذ منهم بوصلة لتحديد اتجاهات خارطة الفيلم الوثائقي السوري إذ نلاحظ منذ بداية هذا الرصد النبرة الإلغائية التي يتبناها أصحاب دوكس بوكس الموجهة ضد المؤسسة الرسمية (التلفزيون السوري) على حساب دعم المؤسسة العامة للسينما والنتيجة هي النيل من تجارب لها أثرها سنذكرها فيما يلي للتذكير بها لا أكثر، ولكن قبل ذلك نود أن نشير إلى بعض المقاطع التعبيرية والانطباعية التي تنطوي تحت تفسير واحد هو الشخصنة وفتح النار على التجارب التي كسبت ثقة المؤسسة الرسمية وعملت معها ضمن مفاهيم فكرية وحضارية تعتز بالمثل الوطنية والفائدة الحقيقية، يقول موقع تفاصيل على لسان مسؤوليه: (لم تتشكل حركة إنتاج سينمائي مستقرة في سورية حتى تأسيس كل من المؤسسة العامة للسينما، وقسم الإنتاج السينمائي بهيئة الإذاعة والتلفزيون السورية أواخر الستينيات، اللذين بقيا المنتجين شبه الحصريين للأفلام التسجيلية حتى أواخر الثمانينيات. إلا أن إنتاجهما السينمائي كان «توثيقياً» يصعب تحديد ما هو سينمائي إبداعي منه. فالتلفزيون السوري لم ينتج فيلماً تسجيلياً إبداعياً، أو لم يُعرف فيلم إبداعي أنتجه، منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم) لا يتبادر إلى الذهن هنا سوى حضور القصور المعرفي لدى صاحب ذاك الكلام وهذه التركيبة المحبطة من التصوير الحكائي المدعي، إذ إن مخرجاً له مكانته مثل نبيل المالح وجد منذ نهاية الستينيات ليقدم واحدة من أولى التجارب السينمائية التي أسست للسينما الوثائقية آنذاك، وكانت هيئات مؤسسة السينما ودائرة السينما في التلفزيون السوري وقسم السينما هي أول من رصد فيلم وثائقي (إبداعي) لأنه يتحدث عن سيرة فرد في وطن تنتهك حرماته، حيث قدم فيلم (إكليل الشوك) عام 1969 ويتحدث عن القضية بأسلوب روائي وثائقي، حيث يرصد جزءاً من حياة مواطنة فلسطينية تبيع ما تخصصه لها وكالة الغوث من سكر وطحين لتسد احتياجاتها الحياتية الضرورية، هذا الرصد لا أظنه يتناسب مع أسلوب الاستجداء الذي يؤطر فيه القائمون على موقع تفاصيل الإلكتروني صورة المخرج عمر أميرالاي الذي بدا عبر الكلام الآتي وكأنه كبش الفدا الذي سيرفع من شأن الفيلم الوثائقي السوري، يقول موقع تفاصيل: (وعلى الرغم من أن الإنتاج السينمائي المستقل-روحاً وليس إنتاجاً- في سورية لم يكن تمجيدياً كإنتاج المؤسسة الحكومية، فقد تركز في معظمه على مسائل حقوقية وسياسية نتيجةً للحظة التاريخية للمنطقة بعيد النكسة سواء ابتعد عن أم التصق بالرؤية الحكومية. وقد اقتصر على مبادرات فردية من مخرجين سوريين باتوا مكرّسين اليوم. مثال هؤلاء الأبرز عمر أميرالاي، الذي بدأ حياته المهنية مخرجاً لأفلام تسجيلية إبداعية أنتجت من قبل المؤسسة العامة للسينما والتلفزيون العربي السوري. فكان كل من «محاولة عن سد الفرات» (1970) و«الحياة اليومية في قرية سورية» (1974) و«الدجاج» (1977) وقد منعت جميعاً ليصبح أميرالاي التسجيلي الناقد الإشكالي) لم نفهم ما هو معيار الإشكالية الذي نصب كاتب المقال نفسه موزعاً لثناءات الامتياز والتفوق على خلق الله، الرجل أراد أن يصبح نجماً فلجأ للمساس ببعض المحظورات غير الصالحة للنشر أو للنقاش لأسباب متعددة، فهل تكون إشكالية الرجل سبباً لإلغاء الأخرين، و هل يكون غير الإشكاليين نكرات؟
كما أنتج التلفزيون السوري عدة أفلام وثائقية للمخرج أمين البني كان أولها (دروس في الحضارة) عام 1974 يفضح الزيف الصهيوني في الربط بين الادعاءات الفكرية والأفعال، وفيلم (اليوم الطويل) عن انتفاضة يوم الأرض، ألم يبقَ إلا عمر أميرالاي القائم الأوحد بفكر الفيلم التسجيلي السوري؟ كما يؤكد كاتب المقال: (عادت بعض الروح للفيلم التسجيلي في التسعينيات. وكانت علامتها عودة أميرالاي من فرنسا ليصنع الأفلام في بلده من جديد، فكان «طبق السردين» و«هناك أشياء كثيرة كان يمكن للمرء أن يقولها» (كلاهما 1997)، متناولاً الصراع العربي الإسرائيلي) لماذا كل هذا التبجيل والتقديس لأميرالاي والاكتفاء بسطر عن محمد ملص بالعبور عليه بقول: (وانتهاءً بفيلم محمد ملص «المنام» (1988) في المخيمات الفلسطينية في لبنان، بحثاً عن صورة وطن ضائع في أحلام اللاجئين) وإلغاء مخرجين كثر، منهم أمين البني ومحمد قارصلي وثائر موسى وأحمد حيدر ومحمد منصور وسمر يزبك وعبير اسبر وفراس دهني ويوشع سلمان وماهر كدو وآخرون.. يبدو أن منظمي هذه الخارطة ظلوا إلى جوار عمر أميرالاي ولم يخرجوا من عباءة العائلة فتحدثوا عن هالا محمد وأسامة محمد وإيناس حقي وعروة النيربية.. وسواهم..
بينما ركزت الخارطة في الخاتمة على كل المشاركين الذين هم أساساً أصدقاء لمهرجان (دوكس بوكس) ويعتبرونهم مثالاً شاباً جديداً يحتذى به..
مقاربات وأمثلة..
هكذا نرى أن بعض المقاربات التي تدين موقع (تفاصيل) على إهماله المقصود لعدة تجارب أثبتت حضورها تبدو واضحة كعين الشمس، والدليل تعديل بعض الأسماء منذ يومين على الموقع وإضافة بعض الأسماء التي أغبنت لسبب أو لآخر منهم علي سفر ومنال صالحية، يقول الموقع: (من التجارب المغايرة للمخرجين في التلفزيون السوري بعض أعمال مخرجين مثل منال صالحية وعلي سفر، التي يسهل أن يتم تصنيفها في خانة التقرير التلفزيوني، على الأقل بسبب التزامها بقالب صحفي تلفزيوني (معد أو كاتب، ثم مخرج ينفذ العمل) وهو ليس قالباً إبداعياً - أو سينمائياً - بالضرورة، ولاضطرارها للالتزام بمحددات رقابية وبرمجية ضيقة، لكن ذلك لا يمنع أن مخرجين كهؤلاء، وبعض الآخرين، حاولوا أن يقدموا وجهات نظر مختلفة في هذا الإطار) لا شك أن القيم العبثية التي يطلقها مهرجان دوكس بوكس وصناعه الذين جاؤوا بالأمس فقط وهي بالكاد تحظى بمتابعة جماهيرية لولا تغطية التلفزيون السوري بقنواته الأربع (الأولى- الثانية- الفضائية- دراما) وذلك ما جعل القائمين عليه يعيدون حساباتهم لإرضاء بعض مخرجي التلفزيون السوري الذين يعملون في قنواته كعناصر تحمل ثقلاً من الثقة والتجربة والتفاعل المتجدد في تجاربها والدليل جائزة فيلم (مطموراً تحت غبار الآخرين) لعلي سفر الذي حصد جائزة الإبداع الذهبي مهرجان القاهرة للإعلام العربي، كما حصدت منال صالحية جائزة (ايمي أوورد) عن فيلمها (قلوب صغيرة) من إنتاج التلفزيون السوري.. هذان على سبيل المثال، هنالك عشرات الأسماء غيبت عن هذه الخارطة لعل منهم: المخرج ريمون بطرس الذي أخرج سلسلة أفلام وثائقية أبرزها فيلم (ملامح دمشقية) الذي يتحدث عن دمشق الحضارة، عن سيرة المدينة العتيقة قبل آلاف السنين.. وعادل مرعي الذي أخرج فيلم (الأستاذ) الذي يتحدث عن المفكر السوري الكبير أنطوان مقدسي، كتبت نص الفيلم سمر يزبك، وأنتجه التلفزيون السوري، والفيلم يرصد أهم المحطات في مسيرة انطون مقدسي، ويسلط الضوء على حياة مثقف آمن بأن الثقافة ليست حكراً على المثقف بل هي وديعة يجب أن ترد إلى البسطاء والمهمشين.
ومن المخرجين المغيبين أيضاً المخرج محمد قارصلي الذي قدم (مقامات الشام) سلسلة أفلام مكونة من ثلاثين فيلماً- مدة الفيلم سبع وعشرون دقيقة وهي محاولة لخلق لغة تجعلك تحب الشام وأهلها وشخصياتها وتاريخها. «مقامات الشام» أفلام لا تتناول القبور والأضرحة والمقامات فحسب، بل هي أفلام عن أناس تركوا بصمة في تاريخ بلاد الشام وفي العالم والتاريخ خلال حقبات مختلفة وأزمان متعددة، بصمات هؤلاء تعددت، فمنها السياسي ومنها الديني والفكري والفلسفي، منها بصمات بناء الدولة، أو الانتصارات العسكرية، أو تأسيس اقتصاد أو ازدهار عمراني وعلمي..
والمخرج نبيل المالح الذي قدم فيلم (شيخ الشباب) عن فخر البارودي الشخصية الوطنية البارزة الذي يعتبر من أهم المهتمين بالموسيقا في سورية، فهو أول من أسس نادياً للموسيقا الشرقية سنة 1928، وأسس المعهد الموسيقي. وكلف بوضع نظام للإذاعة السورية في عهد الاستقلال، كما كوّن مع مجدي العقيلي الفرقة الموسيقية للإذاعة، وتعتبر مؤلفاته في الموسيقا من أهم المؤلفات وله معجم تراجم الموسيقيين من نحو ألفين صفحة، وله الكثير من البحوث المعمقة عن تطوير العود، والكثير من أعماله الموسيقية قدمت في أغان وأناشيد تغنى بها الجمهور، وبقيت مرتبطة بـذاكرتنا حتى الآن، من أهمها، نشيد (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدانِ).. (إلغاء نبيل المالح وزملائه هو غبن يجب أن يحاسب عليه ويصححه كتّاب الخارطة السينمائية للفيلم الوثائقي على موقع تفاصيل الإلكتروني، إذ إن نبيل المالح على وجه الخصوص كان يقول: (السينما السورية لن تستعيد عافيتها إلا بإعطاء الجيل الجديد فرصته) هل هذا التفكير تفكير ادعائي كما يسميه أصحاب (دوكس بوكس) الصغار..؟ وهل أصبح الحديث عن قامات الثقافة والإبداعي الفكري مجرد ترويج إعلاني كما يزعم موقع تفاصيل..؟
هدف نشر الخارطة
لا أظن أن الهدف من فتح النار على المؤسسة الرسمية وغبن معظم المتعاونين معها ومع غيرها إلا تغيير مسار الرأي الخارجي الممول أساساً لمهرجان (دوكس بوكس) ليظهر المشاركين والعاملين على هذا المهرجان بمظهر شهداء الحرية، وهم حقيقة لا يستجدون إلا انتهاكاً للمقومات الثقافية الحقيقية التي ترتكز على معطيات موضوعية، يراوغون مرة في النسخة الأولى للخارطة حيث ترجمت ونشرت على الموقع لمدة أسبوع، ثم يعيدون نشرها بتعديل طفيف يتعلق بتوطيد المآرب الشخصية التي تضمن تغطية الحدث الخاص والترويج الإعلامي له ضمن خطة المؤسسة الرسمية والمقصود بها هنا التلفزيون العربي السوري.
لا تتوقف مشكلة الإلغاء في ذاك المكان وحسب، بل وتطول جزءاً كبيراً من التجارب الهامة الشابة التي ظهرت في فترات متفاوتة، لكن ذهنية أصحاب (دوكس بوكس) ارتأت التجارب (الإبداعية) حسب تقييمات عمر أميرالاي وتوابعه، لم يلجؤوا إلى أرشيف التلفزيون أو حتى أرشيف مؤسسة السينما التي يرفعون لها القبعة في كل حين بوصفها منحتهم فسحة في خارطتها الرسمية، بل فضلوا أن تبقى المعلومات (من قريبو) وهذا التفكير بقدر ما يحمل فضيحة كبيرة لتجارب شابة بقدر ما يظهر نقمة الكبار على بعضهم البعض في كار الأفلام الوثائقية فثمة أسماء وتجارب لا تتسع لكثرتها في هذا المقال ولكن طرح أبرزها أظنه كفيلاً بكشف نوايا موقع (تفاصيل) وإدارة (دوكس بوكس) على وجه الخصوص، في النهاية لا تكفل المتابعة الشخصية اقتراح أرشيف ضيق ومحدود لصناعة خارطة الفيلم الوثائقي السوري فأرشيف التلفزيون مفتوح ومتسع لأفق أنضج من أن تحصر بأرشيف مكتبي متواضع قصده صناع خارطة الفيلم الوثائقي السورية التي يمكننا أن نسميها ببساطة تشويه لوثيقة تاريخية فنية بحاجة لإعادة النظر بها كثيراً بعيداً عن الشخصنة والإلغاء..
عمر الشيخ
المصدر: جريدة النهضة السورية
إضافة تعليق جديد