الصوت المتكلّم صدىً لآخر داخل الكاتب والقوة الفتّاكة قد تنهزم أمام الإرادة
تتغيّر لوازم الكتابة وفق الحالات لينتقي كل صوت ما يستسيغه من قفص اللغة. كانت الأولوية بالنسبة الى الروائي فيليب روث لأدوات تسوّق الحنق الخالص. ربما لأن السخط شكّل العنصر الأكثر قدرة على التعبير عن هواجس كاتب حيّ بالمعنيين الحرفي والمجازي، اثّر عميقا في مسار مجايليه خلال العقود الثلاثة الماضية. غير ان صراخه لم يكن من الصنف العقيم ولم يكن اعمى ايضا. كان حنقا مثمرا وبانيا يساعدنا في العيش، ويجعل العقد التي تلّف أعناقنا أقل نتوءا. غير ان ما تقدّم لا يعفي نصوص روث من فخ التبئيس، بل على نقيض ذلك نراه يصرّ على التمسك به. لم تظهر نيّة الكاتب الأميركي في أعماله المبكرة واللاحقة والمتأخرة، في البحث عن اي علامة، وإن عابرة، على الاعتدال. تمعّن الكاتب الفظّ والقاسي والمتطرّف والاستثنائي في انواع إنهاك لم نألفها ليتركنا بعدذاك صافري اليدين نبحث عن مرساة تنقذنا من الهلاك غرقا. غير ان ثمة حيوية كانت تكمن في هذا العجز، بل اكثر: ضجيج ضد التراخي يكاد لا يفارقنا ونحن نمرّ برواية "بلاء"، آخر اصدارات روث النحيلة قياسا والمضبوبة على كثافة.
منذ ما يفوق مئة عام، اعتبر فرانك موريس ان "الرواية الأميركية العظيمة ليست مندثرة كما المتحجّرات وانما أسطورية على نسق احد الكائنات الموزع بين الحصان والعنقاء". استخدم روث هذه الملاحظة لاحقاً كمقدمة لعمل فانتازي تمحور على رياضة البايسبول وصدر في 1973 سمّاه على نحو تلقائي "الرواية الأميركية العظيمة". ليس هذا العنوان على الارجح أهمّ روايات روث، غير انه كان ملائما تماما لصيد ذاك الوحش الاسطوري مصدر الرغبة، ذاك الكائن الهجين الذي يعدّ في حالات جمة رمزاً للمحال. تبلورت رواية روث في هذا المعنى مزيجا من الرومنطيقية والتقرير ومن الفلسفة المترفعة والنميمة السفلية، ناهيك بالتفكير المتأني والتشكيك. تلازم الوصفة عينها روايته الأحدث "بلاء" (جوناثان كايب) حيث عودة الى انتشار مرض شلل الأطفال في وسط اولاد نيوارك في 1944 مما اودى وفق الإحصاءات بنحو تسعة عشر الفا منهم على مستوى الأمّة. بيد ان الوباء في منظور روث، حجة للاستعارة، يقول الخوف والأفكار المسبقة والوفاء والحرب. تتصفى الرواية الجديدة الى أقصى حدّ وتغزر الهوامش في الصفحات الثمانين بعد المئتين لتقدّم الشاب باكي مصاباً بشلل صيفي، بما يجعل الحياة تنعطف صوب الهاوية في الزمن السابق لتطوير اللقاح. يذكّر باكي بماركوس في رواية "سخط" (2008). والحال ان "بلاء" شبيهة بتلك الرواية السابقة للكاتب من حيث الطموح المتواضع وتوفيرها صورة مصغرة عن حقبة وعن شاب تدهسه آلة التاريخ التي يتعذّر وقفها. على شاكلة "سخط" حيث تتوفّى الشخصية المركزيّة في الحرب، يمكن اللحاق بـ"بلاء" بوصفها استعادة تخيليية لمجموعة أخطار تهدّدت يفاع فيليب روث.
لا يماثل الراوي الصغار الذين يتأملهم، ولا تظهر ملامحه سوى الى وقت متأخر من النص، فيما يطلق على باكي منادى "السيد كانتور" كإشارة الى انه يتذكّره من وجهة نظر طفليّة. بدءا من تلك المقاربة المزدوجة، نتعرّف الى اوجين (باكي) كانتور، مدرب رياضة في الثالثة والعشرين يعمل في مدرسة رسمية تحت سقف الوفاء والاستقامة. على الرغم من افتقاره الى الثقافة، يجد نفسه مستغرقا في تحليل المسائل العظيمة، وفي حين ينتمي الى الدين اليهودي يظهر بارداً وغير آبه بطقوس عبادته. ليس الشاب متململا بين المسؤولية والاخلال، وبين التقليد والتمرّد، على نسق ابطال روث الأثيرين على الأقل كما عدد وافر منهم. والحال ان "بلاء" لا تتطور على خلفيّة حكاية مسليّة بطريقة فاقعة بحيث تهمل المسؤولية، في حين لا يملك باكي حسّ الفكاهة حتى ولا يروقه الإنصراف الى التهكّم والهزء الصاخب. نعثر عليه منصرفا الى تحمّل المسؤوليات بينما يتفشّى المرض. اما في خلفيات اندفاعه المتهّور، فشعور بالذنب لتقصيره في خدمة علم بلاده بعدما أعفي من التجنيد الإلزامي نتيجة نظره الشحيح من دون أن يؤبه الى رغبته الدفينة في الالتحاق بالعسكر صحبة أعزّ صديقين له. لازم قسرا منزله خارج حلبة القتال، كما حفنة من شبان حيّه. بيد ان حسّ الواجب الذي نمّاه فيه جدّه، راوده كلازمة وجعله ينقب عن شغف التزام. يكتب روث: "يخجل باكي من ان يراه الآخرون بثياب مدنية ومن مشاهدة شريط اخبار الحرب يعرض في الصالات السينمائية". يتحسّر على حسن طالعه فيسعى الى تسديد جزء مما يترتّب عليه من خلال منح الأولاد في عهدته العناية القصوى ابان تلك الأزمة الصحية.
يتمسّك باكي بهدوئه في وسط الهلع العام، في موازاة انتشار الوباء في المدينة، كانساً القسم اليهودي منها. يقتنع ان الاولاد يحتاجون في طفرة الأزمات الى الاستقرار فحسب، فينظّم برنامجا رياضيا مخصصا للفتيان ويصرّ عليه، متغاضيا عن تردد الناس وشكوكهم بنتيجة اظهار بعض التلاميذ عوارض مقلقة وموت آخرين حتى. يصافح أحمق الحيّ علناً بعدما اقصاه الفتيان بوصفه ناقلاً للبكتيريا، يقول احدهم للآخر: "شمّه!... يلفّ البراز انحاء جسمه! انه حامل للوباء!". في وجه النكبة الصحيّة، يرغب باكي في نشر المثال على التضامن الإنساني.
الرواية في متناولنا أمثولة ممتعة في شأن قبضة الضمير وما تعنيه على وجه التحديد تبعاته الخانقة والمؤدّية الى إنكار الحق في العيش احيانا. باكي، شخصية احاديّة البعد، وذلك من شأنه أن يجعل اشتغالات القدر عوضا من الخيار الحرّ، محرّكات سردية قادرة، في قصة باهتة ومتوقّعة النتائج في الأساس. تصرخ الأمهات اليهوديات المضطربات في الشوارع: "لماذا لا يستخدمون المطهّرات؟ لماذا لا يعمدون الى تطهير كل شيء؟"، في حين تتمحور الأحاديث في أنحاء اخرى على إلقاء اللوم على اليهود في حلول السقم المميت. في السرّ يروح باك يقارب نشاطه المهني كحربه الكونيّة الشخصية الثانية.
باكي على علاقة بشابة تدعى مارسيا، تعمل مثله مدرّسة، غير انها غادرت جغرافيا المرض الى جبال بنسلفانيا. تلحّ مارسيا على باكي ليفرّ من المدينة الموبوءة ويلحق بها في ملاذها، غير انه يقاوم رغبته في تلبية الدعوة. يشعر ان ثمة أزمنة استثنائية تستدعي التضحية الإستثنائية. بيد ان قيمه لن تصمد طويلا لتتدحرج في احد الأيام على نحو غير معلّل. يُخبرها انه آتٍ اليها وانه يتخلّى عن فتيانه وينجو بجلده. "كيف استطاع فعل ما فعله للتو؟"، يستفهم في دواخله، فيما يجعل سماعة الهاتف تستريح، من دون ان يحصل على إلماح جواب. أما لغز الجنوح فلن نتحفّظ عنه وإن عنى ذلك فضح مفاتيح الرواية، في حمل باكي كانتور فيروس شلل الأطفال. انه احد الناقلين الأصحاء للمرض، احد الكائنات النادرة في منطق الإحصاء الطبي. ثمة احتمال بأن يكون الأطفال الذين سقموا وماتوا في عهدة باكي، قد اصيبوا بالعدوى من جرائه، وربما يكون أنزل القدر المشؤوم والمأسوي عينه بالأبله الذي صافحه ظنّا منه انه ينجّيه من عبء النبذ. اما الأكثر فظاعةً، فواقع ان باكي الفارّ من مدينة هزيلة العافية، يوضّب في نَفَسه وباء ينفثه في مهجع مثالي حيث حفنة من الأبرياء مقتنعون بأنهم أصحّاء وفي منأى من كل تهديد.
لا يختلي باكي بشكل الإنسان المتشعب، بل يؤمّن نموذجاً مدرسياً على وهن العزيمة وإخفاقها، وتلك ظاهرة أخلاقية- نفسانية مسّت انتباه الفلاسفة منذ سقراط. كيف يمكن ان نتصرف واعين على نحو يناقض مصالحنا؟ هل نحن حقا، كما يروقنا ان نقارب أنفسنا عملاء منطقيين، او ان القرارات التي نتوصل اليها محكومة بقوى اكثر بدئية حيث يقدّم المنطق بالكاد مسارا منطقيا؟ في عرف باكي، لا تزال برهة اتخاذ القرار النهائي، اي برهة سقوطه عمليا، على غبش. باكي مهموم بالارتياب من تلك اللحظة حيث اعلن "اجل سأرحل عند المدينة"، يشكّ في ان الصوت المتكلّم صدى لآخر في داخله.
يحمّل باكي إلها حاقدا مسؤولية ما يجري، فيما يتراءى الله غير مسؤول، ذلك انه يتجاوز الحسابات الإنسانية السطحية. تشير مارسيا الى صورته في سفر أيوب في العهد القديم والى ازدراء واضح يعبّر عنه هناك نتيجة خيار معاقبة الفكر الإنساني. غير ان رواية روث تستدعي سياقا اغريقيا جليّا اكثر منه توراتيا. يؤطّر العنوان بالانكليزية فكرة البلاء، واستطراداً استفهامات العدالة الكونية من خلال اشارته الى نيميسيس، إلهة القدر والثأر في الميثولوجيا الاغريقية، لتتمحور الحبكة على تهكم درامي نجد صنوه في "اوديب الملك" لسوفوكليس، ذلك ان الموكل مكافحة وباء الشلل يجهل انه ناشره.
في 2008 تحدّث روث عن انكبابه على قراءة رواية "الطاعون" لألبر كامو حيث يصير الوباء رمزا للاحتلال النازي لفرنسا، وحيث الاشارة، على نحو اكثر فساحة، الى يُسر إصابة احد المجتمعات بعقيدة مُعدية كما البكتيريا. يتبدى ان القراءة التفصيلية لكامو حثّت روث على اصدار مؤلف توأم لـ"الطاعون" يريد من طريقه ان يتموضع في خط مؤلفين سخّروا الامراض لينقّبوا عن تصميم المرء وديمومة المؤسسات في ظل تعنت قوة غير مرئية وفتّاكة في آن واحد.
"بلاء"، شريط من الإلزامات ومحاولة للتطهّر من القيم، صيغت بحرفة عالية وإيقاع يستدعي التشويق. في حال المشابهة بينها وبين عناوين أخرى أكثر طموحا من مكتبة روث، لوجدنا ان الرواية ليست فسيحة قدر ما ينبغي وقدر ما يَعدُ مفهومها. تأتي كذلك بميلودرامية ذات منسوب اعلى مما ننتظر، تحلّ كمحاكاة، فلا يمكن الشخوص في المحصلة سوى ترك الخدوش على سطح المسائل المطروحة.
رلى راشد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد