الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي:المقاربات والأولويات والاستراتيجيات
تعتبر مسألة الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي من المسائل المعقدة والشائكة، التي ما زالت ترمي بثقلها على المفكرين والقوى والحركات السياسية الإسلامية. ويبدو أنها ما زالت بحاجة إلى جهد ووقت كبيرين، بخاصة أنها قضية مختلف عليها، وتحمل مقاربات ورؤى وتصورات متعددة ومختلفة، فضلاً عن أن محاولات الإصلاح التي بدأت منذ فترة طويلة انتهت لدى القوى الجهادية إلى مندرجات الدولة الدينية والوصول إلى السلطة باستخدام العنف والعمل المسلح.
وفي هذا السياق يحاول محمد أبو رمان، في كتابه «الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي» (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010)، تناول هذه القضية، في جانبيها الفكري والتاريخي، من جهة السياسات والمناهج المفضية إليها، وفقاً لثلاث مقاربات رئيسة، يجدها مجسدة في المقاربة الثقافية، والمقاربة السياسية، والمقاربة الحركية، حيث تركز المقاربة الثقافية على أولوية المسألة الثقافية في الإصلاح السياسي، وعلى ثانوية العامل السياسي، وتترجمها مداخل الإصلاح الديني، والثقافة الاجتماعية، والحالة الحضارية، وقيم العمل والإنتاج، والإصلاح المعرفي الفكري، والتنوير الديني والثقافي. ويجرى اختيار محمد عبده ورشيد رضا من بين جيل الرواد كممثلين لدعاة الإصلاح الديني، ومالك بن نبي كممثل للشرط الحضاري، وجودت سعيد الذي دعا إلى الإصلاح من القاعدة إلى القمة، وتجربة إسلامية المعرفة التي قال بها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وتجربة الإسلاميين المستنكفين، التي يمثل صلاح الدين الجورشي جانب الإسلاميين التقدميين منها، بينما يمثل إبراهيم غرايبة فكرة الإصلاح الشبكي، القائمة على الاستجابة للشبكية الحاصلة في أيامنا هذه، بفعل عوامل الاقتصاد ومجتمعات المعرفة والمعلوماتية.
أما المقاربة السياسية، فتتفرع إلى مقاربتين، أولاهما تعطي الأولوية للعامل الداخلي، وتركز على الإصلاح من داخل السلطة، وبنياتها المؤسسية والدستورية. وحظيت هذه المقاربة باهتمام كبير في القرن التاسع عشر، حيث وجدت صداها داخل الدولة العثمانية، من خلال ما عُرف بالتنظيمات، ولدى بعض رواد النهضة، مثل خير الدين التونسي، الذي دافع عن الفكرة الدستورية. أما المقاربة الفرعية الثانية للإصلاح السياسي فتركز على أولوية مواجهة الخطر الخارجي، المتمثل بالاستعمار والتبعية والصهيونية والمخططات الأميركية. وقد عرفت بداياتها مع إرهاصات الاستعمار، ثم اشتدت مع احتدام المواجهة مع المشروع الصهيوني، لتجد صداها في كتابات منير شفيق وعادل حسين الذي طالب بالتنمية المستقلة لمواجهة التبعية للغرب والتخلص منها.
وتنقسم كذلك المقاربة الرئيسية الثالثة، وهي المقاربة الحركية، إلى مقاربتين، أولاهما تتجسد بالأحزاب والحركات الإسلامية التي تعمل في سياق قانوني، أو تتبنى العمل ضمن اللعبة السياسية الرسمية للنظام القائم، وتبرز جماعة الإخوان المسلمين بصفتها ممثلاً لهذه المقاربة في أغلب البلدان العربية التي تسمح بالتعددية السياسية، مثل مصر والأردن، لذلك يجرى إبراز أهم مقومات وملامح الخطاب السياسي لجماعة الأخوان المسلمين في موضوع الإصلاح السياسي لدى كل من حسن البنا وسيد قطب وفتحي يكن ومحمد قطب والحزب الإسلامي العراقي ومثقفي «الإسلامية الوطنية» في مصر، بخاصة طارق البشري. وثمة مقاربة حركية أخرى، ترفض الديموقراطية ولا تقبل بقواعد اللعبة السياسية وفق صيغتها القائمة في بعض البلدان العربية، وتمثلها الحركات «السلفية» بفرعيها، التقليدي والجهادي، حيث تربط السلفية التقليدية الإصلاح بالتصفية والتربية، وتتحدث عن طاعة الحاكم وتعهد له بالعملية الإصلاحية، في حين أن السلفية الجهادية تكفر كل الأنظمة العربية، وتعتبر أنّ السلاح هو طريق التغيير. وتبرز في هذا السياق مقاربة حزب التحرير الإسلامي ودعوته إلى العمل السياسي الذي يعيد الخلافة، بالاستعانة بمفهوم «طلب النصرة»، إلى جانب حضور «النزعة الانقلابية - العسكرية» في فكر الحزب وممارسته. كما أن هناك مقاربة جماعة العدالة والإحسان، الرافضة للمشاركة السياسية بالشروط المتوافرة في المغرب، والتي تتحدث عن «حرب عصابات سياسية ورمزية» مع السلطات الحاكمة فيه.
ولا شك في أن الخريطة الواسعة والمتشعبة، التي يقدمها أبو رمان في كتابه، تظهر اتساع الاختلاف وحجم التباين في رؤية وقراءة الواقع، وفي تحديد المشكلات والأولويات واقتراح الحلول. وعلى رغم محاولته حصر إطار الدراسة في الفترة الممتدة منذ العقد السادس من القرن العشرين المنصرم وصولاً إلى أيامنا هذه، إلا أن السياق الدراسي يمتد ليتسع إلى أكثر من قرن ونصف قرن مضى، وذلك بالرجوع إلى بعض رموز النهضة الأوائل، من أمثال محمد عبده ورشيد رضا، الذين تأثروا بتجارب الإصلاح الأوروبية، ونادوا بالإصلاح الديني وبالإصلاح التعليمي والتربوي، معتبرين أن مشكلة المسلمين في زمانهم جسدها التخلف والانحطاط الحضاري، وأن أساس عملية التمدن يكمن في التقدم على مستوى الفكر والمعرفة إلى جانب الجد في العمل الفكري والديني، لذلك أعطوا الأولوية للتربية والتعليم على حساب الإصلاح السياسي، ذلك أن تعلّم واكتساب المعارف الحديثة كفيلان بنهوض أبناء الطبقات والفئات الوسطى والدنيا، وينقل المسلمين من مرحلة ثقافية وحضارية قديمة إلى مرحلة جديدة، الأمر الذي سيفضي في نهاية الأمر إلى تحسن الأوضاع السياسية، والسعي إلى إشادة الحكم الصالح، الذي يمثل مصالحهم وينشد مطامحهم. وقد تحدث محمد عبده، ومعه آخرون من دعاة الإصلاح الديني، عن «الصفوة المستنيرة»، بوصفها تلك النخبة من المسلمين الذين يمتلكون إدراكًا عصريًا للإسلام، ومؤهلة ثقافيًا وعلميًا للقيام بنشر الإصلاح ومواجهة الجمود الديني. وكان عبده يرى أن الجمود الديني هو سبب التخلف، كونه يعطل عقل المسلم، ثم أعطى تلميذه رشيد رضا الأولوية للإصلاح الديني، بوصفه المحرك للمياه الراكدة في العالم الإسلامي. وكانت الغاية من ذلك الإصلاح الديني هي العودة إلى قيم الإسلام الأولى.
وبالانتقال من محمد عبده ورشيد رضا إلى مالك بن نبي، فإن الإصلاح الديني يكون قد أخلى مكانه للمشكل الحضاري، حيث اعتبر بن نبي أن مشكلة المسلمين لا تقوم في النظام السياسي، إنما المشكلة الحقيقية تكمن في التخلف الحضاري، وعليه حملت كل كتبه العنوان ذاته، وهو «مشكلة الحضارة»، واعتبر فيها أن السياق الحضاري يفسر بشكل كبير تخلف المسلمين وسبب عدم تقدمهم، وتحدث عن الجمع ما بين الإنسان والتراب والوقت في تركيبة حضارية قادرة على الانطلاق في دورة حضارية جديدة، تعيد تأهيل المسلمين بمفاعيل الفكرة الدينية. وكان يرى أن مشكلة الإنسان تبدأ من مشكلة الحضارة، التي لا تحل إلا بتغيير الإنسان نفسه، من خلال تشغيل فكره ودوره الاجتماعي، وتخلصه من الجمود والسلبية، ومن الارتهان للأوهام والخرافات، إلى جانب إيمان «إنسان الحضارة» بقيم العمل الاجتماعي والثقافي، بصفته المعول عليه كي يكون حامل مشروع الإصلاح السياسي.
وتابع جودت سعيد النهج نفسه الذي خطه مالك بن نبي، واعتمد فيه على المقاربة الثقافية والحضارية، لكنه ربطها بسن التغيير والنفس والمجتمع، معتبراً أن الأمة الراشدة أهم من الخلافة الراشدة، إذ يمكن أن تقتل الأمة غير الراشدة الخليفة الراشد. ويسجل لجودت سعيد إصراره على «النهج السلمي» أو اللاعنف، والتحذير من اعتماد نهج وأساليب العنف للتغيير. والأجدى بالنسبة إليه هو توليد العمل والفاعلية في المجتمعات الإسلامية، واعتبار العمل قدرة وإرادة.
أما خير الدين التونسي فقد كان من دعاة المقاربة السياسية للإصلاح السياسي، ومن خلال المؤسسات الدستورية القائمة، ولديه منهجه في الإصلاح والتجديد الحضاري والسياسي، لكنه لا يبتعد كثيراً عن محمد عبده من جهة اعتباره التقدم الحضاري رافعة للتقدم السياسي، ذلك أن مجال الإصلاح لديه هو العمل من خلال المؤسسات، كونه الأجدى لصون المصالح وتطويرها. وكان ينظر إلى التنظيمات التي تبناها الغرب بوصفها مفتاح إدراك الفارق أو الهوة في القوة، وعنوان تميز وتقدم العالم الغربي على حساب العالم العربي والإسلامي، في حين أن أصحاب المقاربة السياسية التي تركز على العالم الخارجي، تلقي مسؤولية تردي الأوضاع في العالم العربي والإسلامي على الاستعمار والغرب والمشروع الصهيوني، وتركز على فكرة امتلاك الإرادة السياسية لمواجهة الخارج.
وتعتبر المقاربة الحركية الأكثر جذرية، وجاءت رداً على محاولات العلمنة والتغريب في الواقع العربي المعاصر، مع أنها بدأت بالظهور بعد انهيار الدولة العثمانية، ثم تنامت مع الصراع والاختلاف مع الدولة الوطنية. ومعها باتت القوى المرشحة للإصلاح أو التغيير هي الحركة أو الجماعة الإسلامية، وتختلف لديها طبيعة التنشئة والتربية بحسب طبيعة المقاربة الفرعية، حيث سلك بعض هذه الحركات طريقاً سياسياً، فيما سلك بعضها الآخر طريق العنف المسلح في مواجهة الأنظمة السياسية.
عمر كوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد