غسان الرفاعي: هذه الدعوة الملغومة للوحدة الغربية
يحاول جيل من المثقفين (القراصنة، في الغرب، أن يسطو على الفضاءات والمنابر، وأن يمارس هواية الحفر في التضاريس التاريخية لاستخراج ما يمكن أن نسميه الأمة الغربية، بحجة أن إنقاذ الإنسانية يتوقف على انتصار الغرب أمام البربريات الشرقية التي تزحف من كل مكان حاملة معها الهوس الديني والجنون الاثني والإرهاب الحضاري.
وفي حين يتفسخ الشرق الغامض دولا وأقاليم وكيانات وتتصاعد في أرجائه الدعوة إلى رفض الآخر بل إلى تصفيته أو محاصرته في غيتويات اسمنتية مسيجة تتلامح الأمة الغربية بعد صراعات ونزاعات دامية استهلكت شعوبها وتحتاج الدعوة إلى الوحدة الغربية دولاً وأقاليم وكيانات أليس من المذهل أن يسعى الكل في هذا الغرب إلى التجانس وتذويب الفروق بالرغم من اختلاف اللغة، والخصائص التاريخية، في حين يتفانى الكل في الشرق إلى التشظي والانقسام والتفتت قومياً وطائفياً وعرقياً، على الرغم من وحدة اللغة والرؤيا؟.
في عام 1808 شعر الفيلسوف (فيخته) بضرورة توجيه رسالة إلى «الأمة الألمانية» وفي عام 1933 شعر المفكر (جوليان بندا) بضرورة توجيه رسالة إلى (الأمة الأوروبية) ويحاول اليوم المنظر (القرصان) «فيليب مينو» أن يوجه رسالة إلى «الأمة» الغربية» بعد أن شعر أن الظروف الجيوسياسية تستدعي مثل هذه المبادرة.
هناك أوجه تقارب مدهشة بين المواقف الثلاثة: لقد وجه (فيخته) رسالته في الوقت الذي كانت فيه الفتوحات البونابرتية تهدد ألمانيا في وجودها ووجه (بندا) رسالته في الوقت الذي كانت فيه الحرب الأهلية تهدد أوروبا في وجودها عام 1914 وقد ساعد الاثنان على خلق ما يمكن تسميته بالوعي القومي الألماني، والوعي الحضاري الأوروبي، ما ساعد على خلق المؤسسات السياسية القادرة على تكريس الهويتين عبر التاريخ أي الوحدة الألمانية التي حققها (بسمارك) بإرادته الفولاذية، والوحدة الأوروبية التي تحققت حديثاً واصبحت تضم 27، وتظهر الحاجة في بدايات القرن الواحد والعشرين – كما يدعي فيليب مينو – إلى المناداة بالوحدة الغربية، بسبب تفشي الارهاب الشرقي وانتشار اسلحة الدمار الشامل خارج الفضاء الغربي والعولمة الاقتصادية العشوائية والهجرات الكثيفة من قارات الفقر يقول (مينو) في تفجع استفزازي: «سننادي بوجود الأمة الغربية المتكاملة المتجانسة، ولو اتهمنا بالمغالاة والتزييف ولن نسمح لهذا النمل البشري الذي يزحف علينا من الجنوب المملق، أن يقضمنا بشره وحقد».
لكن ما هو هذا الغرب الموحد الأسطوري الذي ينتصب أمامنا كالجني الذي ينفذ المعجزات بعد ملامسة المصباح السحري، على نحو ما تتحدث عنه قصص ألف ليلة وليلة؟ ماهي هذه الهوية العملاقة التي تطفو على السطح الآن؟ على الرغم من التباين الاجتماعي واللغوي والاجتماعي وهل هناك قيم موحدة تجمعها وتميزها عن العوالم الأخرى الصينية – واليابانية – والهندية – والعربية الاسلامية، والافريقية؟ تبرر تماسكها ضد التهديدات العسكرية المفترضة، وضد أخطار التفسخ أو الخلاسية الحضارية أو الهجانة الثقافية؟.
المفكرون القراصنة – كما يسميهم بابلو نيرودا – يرجحون بأن الهوية الغربية الفضفاضة تقوم على الديمقراطية، والعقلانية ، والعلمانية الحرية الثقافية وصيانة الملكية الفردية والشخصانية المتورمة وهذه كلها ليست متبطنة بالولادة، وإنما هي ثمرة نضال تاريخي طويل وبناء ارتفع قرميدة قرميدة، عبر مخاضات واشتباكات مضنية.
ويجمع (حفار الأثريات) – كما يسميهم روجيه الغارودي- على أن الهوية الغربية قد تكونت وتفولذت عبر خمسة أحداث جوهرية تضافرت وبنسب متفاوتة، على تحديد مقومات هذه الهوية: أولها بلورة مفهوم الدولة، القائمة على القانون على نحو مار سمته المعجزة اليونانية ممثلة بمفكري اليونان الكبار – سقراط – أرسطو – وثانيها: تحديد مفهوم الحق ببعديه الشخصي والاجتماعي وهو أكبر انجاز للامبراطورية الرومانية وثالثها: الثورة الاخلاقية المستمدة من اللاهوت المسيحي وإكساب العدالة بعداً إلهياً مقدساً ورابعها: التحرك البابوي في القرن الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر والذي أعلن عن ولادة الحلف المقدس بين أثينا وروما والقدس، وخامسها: ظهور الليبرالية الاقتصادية وولادة الحداثة بالمفهوم المتداول حالياً ولئن اتخذت هذه الأحداث ابعاداً محلية وقومية خاصة بعض الاحيان إلا أنها ظلت هي القاسم المشترك لما يسمى بالهوية الغربية.
لا أحد من القراصنة أو حفار الأثريات يدعي بأن كل الحضارات ينبغي أن تمر في ذات المسار فهذا تعسف لا يخلو من عنصرية ولكن الكل مجمعون على ان المسار الغربي هو المسار الوحيد الجدير بالاحترام والتقدير، ولابد من رفض بديلين يكثر الحديث عنهما الآن: التعددية الثقافية أولاً والخلاسية الحضارية ثانياً، ذلك ان التعددية تشابه لعبة يلعب فيها كل لاعب حسب قوانينه الخاصة باللعب ثم أن الخلاسية هي بالتعريف نفاق وهجانة وقبول التزوير.
وكان قد تم الاتفاق بين القراصنة وحفار القبور عشية غزو العراق، على تنصيب الرئيس بوش قيصراً على الأمة الغربية الموحدة وتزويده بكل الصلاحيات اللازمة للدفاع عنها وفي مقدمتها تسوير الأمة الغربية بسياج فولاذي يحميها من تدفق المهاجرين الملعونين وتفتيت كل التجمعات والتنظيمات المعادية مثل مؤتمر عدم الانحياز، والتحالفات الجنوبية الأخرى، واتهام كل الرافضين لسيادة الأمة الغربية بالارهاب وتهديد السلام العالمي: كما تم الاتفاق على شحن المواطنين في الامة الغربية بالحماسة الدينية والتعصب العنصري ويبدو أن هذا المشروع اللعين مازال مطروحاً حتى الآن ويتبارى زعماء الغرب في تعريته وقد ظهر مؤخراً بأن هناك خطة مبرمجة تطبق بنودها، بدهاء وتصميم، وماجرى حالياً في الغرب بدهاء وقوة – ليس أكثر من تكريس متسلسل لهذه الخطة ولكن الخلل لابد من أن يتسرب إلى الخطة – فيما يرى مثقفو التفاؤل – ليحدث فيها تشققاً بل قد يدفع بها إلى الانهيار الكامل، وهذا ما عبر عنه الرافضون للاستكانة حينما أعلنوا، بلسان (ايفناسيو رامونيه): كلا لن ينجح الاسئثار، ولو تسلح بأفتك أسلحة التدمير الشامل، ولابد من حوار الحضارات ولابد من بزوغ فجر الانسانية الجديدة آجلاً أم عاجلاً!..
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد