إعادة نظر في مفهوم الأدب العالمي
منذ اللحظة الأولى التي استخدم فيها الكاتب الألماني يوهان وولفغانغ غوته مفهوم «الأدب العالمي» عام 1837، ليصف بذلك تنامي حضور نصوص أدبية أنجزت في لغات غير غربية بين أيدي القراء الأوروبيين، مثل الشعر الملحمي في السانسكريتية والعربية، اكتسب المفهوم أهميته في دراسة الآداب الوطنية المترجمة إلى الآداب الأوروبية الرئيسة، أي الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية. لكن هشاشة تعبير «الأدب العالمي» وغموض معناه، هما في الحقيقة ناشئان عن رؤيته قصيرة النظر، المرتبطة بمركزيته الأوروبية، للآداب الوطنية التي أنتجتها شعوب غير أوروبية. وللأسف لم يستطع ديفيد دامروش، في محاولته إعادة تعريف مفهوم الأدب العالمي في كتابه «ما هو الأدب العالمي؟»، أن يزحزح المفهوم ويحرره من تأثيرات نشأته الأوروبية. لقد استخدم دامروش المفهوم لوصف النتاج الأدبي، ونشره، وتوزيعه، بدلاً من التشديد على إصدار حكم قيمة في خصوصه. لكن معالجته ظلت قريبة مما عناه غوته بتعبير «الأدب العالمي». إنه يشدد على السمة الكونية للآداب التي تنتجها الشعوب المختلفة، باحثاً عن الصفات العامة التي تربط الآداب ببعضها بعضاً. ففي غياب مسألة مقارنة الآداب الوطنية بالآداب الأوروبية، والغربية عموماً، يفقد تعبير الأدب العالمي الأرضية التي يستند إليها، ويتحول إلى مجرد سلعة قابلة للترويج في زمن العولمة. إن النزعة شبه الاستشراقية في الحكم على الآداب الأخرى غير الأوروبية، والتي يحملها مفهوم «الأدب العالمي» في أحشائه، هي جزء من الميراث الخاص به.
هذا ما نعثر عليه في محاولة بحث مفهوم نشأة الرواية العربية. فقد نظر النقاد ومؤرخو الأدب، العرب والغربيون، إلى نشوء الرواية العربية، كنوع أدبي، في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بصفته أثراً للاحتكاك بالرواية الأوروبية. فالنقاد العرب، وبتأثير ما يمكن أن نسميه نزعة استشراق داخلي وتمثل للأفكار والعناصر المفهومية للاستشراق، رأوا في الأعمال السردية التي أنجزها الكتاب العرب استمراراً للتقليد الأوروبي في السرد. وهم بذلك يخطئون في تمييز الشخصية الأصبلة لهذا السرد، والتعقيد والتركيب الداخليين اللذين ينطوي عليهما السرد في تاريخ الأدب العربي. انطلاقاً من هذا الفهم إذاً يمكن استخدام حالة الرواية العربية لتفكيك مفهوم الأدب العالمي مرئياً بعيون أوروبية، أو من خلال عقول أصبحت مسحورة بالغرب وثقافته.
ظهرت الرواية العربية في القرن التاسع عشر متأثرة بهرمية الأنواع في التراث الأدبي العربي، حيث حاد الروائيون العرب الأوائل عن المعايير الأوروبية في الكتابة الروائية، وأعادوا تكييف النوع ليتطابق مع الأشكال النثرية في التراث العربي. لقد قام الكاتب الفلسطيني خليل بيدس (1875- 1925) بترجمة الكثير من الكلاسيكيات الأوروبية، وخصوصاً الروايات والقصص الروسية، معيداً تكييف الحبكة السردية ومضيفاً أبياتاً من الشعر الجاهلي، أو الأموي أو العباسي، إليها. ففي ترجمته لأعمال تولستوي أو بوشكين أو تورغينيف، يقوم خليل بيدس بتعطيل تدفق السرد من خلال إضافة بعض الأبيات الشعرية العربية، هادفاً إلى ملاءمة ترجمته مع معايير التقليد الأدبي العربي. ففي ذلك الزمان لم تكن الرواية، بمفهومها الأوروبي، معروفة لدى القراء العرب، وما قصده بيدس هو تقريب النوع الأدبي الجديد إلى قراء اعتادوا، لقرون عدة، على ميراث أدبي محدد.
ترجم الكاتب اللبناني أحمد فارس الشدياق (1804- 1887)، الذي عاش متنقلاً بين دمشق وباريس ولندن وإسطنبول والقاهرة وتونس، الكتاب المقدس إلى اللغة العربية. ولد الشدياق لعائلة مسيحية مارونية، ثم تحول إلى البروتستانتية، ثم هجر المسيحية إلى الإسلام. وقد هرب الشدياق من لبنان أثناء الحكم العثماني، بسبب تهديدات حاكم جبل لبنان لحياته. وقد أغنت رحلاته، وكتاباته الغزيرة، وعمله صحافياً وشاعراً وناقداً ولغوياً ومعجمياً ومترجماً، أعماله الأدبية التي يعدها نقاد الأدب العربي ومؤرخوه أعمالاً مؤسسة في الأدب العربي الحديث. نشر الشدياق كتابه «الساق على الساق في ما هو الفارياق» أثناء إقامته في باريس عام 1855. ويعد بعض النقاد هذا الكتاب أول عمل روائي عربي؛ وقد قورن بأعمال الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه، وهو يفجّر طاقات اللغة العربية من خلال كتابة شكل من أشكال السيرة الذاتية بضمير الغائب، أو لنقل رواية من روايات التعلم، أو كتاب رحلة. يغادر فارياق، وهو تركيب من اسم فارس الشدياق، لبنان إلى مصر حيث يستقر هناك مدة من الزمن قبل أن يغادر باتجاه دمشق فتونس. وتنتهي الرواية وهو يستعد للمغادرة ذاهباً إلى تركيا. يشبه الأسلوب في «الساق على الساق في ما هو الفارياق» أسلوب المقامة في الميراث السردي العربي، وشخصية فارياق، المترحل الجوّال، ترجّع صدى شخصيات بديع الزمان الهمذاني والحريري في مقاماتهما. لقد ظهرت المقامة، كنوع أدبي في اللغة العربية، في القرن العاشر الميلادي مستفيدة من أساليب نثرية في الأدب العربي كانت شائعة لدى مرتادي بلاط الحكام في تلك الفترة. وتتألف المقامات من مجموعة من الحكايات المنفصلة التي تستخدم السجع واقتباس الأشعار؛ وتتميز هذه الحكايات بأنها تدور حول الموضوع نفسه وتحكي عن شخصيتين محوريتين ثابتتين في السرد: وهما الراوي والبطل. في كل مقامة من المقامات يظهر متشرد وعيّار، وهو في الوقت نفسه أديب بليغ الكلام، في مكان عام (سوق أو مسجد أو مقبرة أو حمام عمومي أو قافلة) منتحلاً صفة مختلفة، ويخدع الناس، مستغلاً عواطفهم ومعتقداتهم، ليبتز منهم بعض المال. ويرى الناقد المغربي البارز عبدالفتاح كيليطو أن عمل الشدياق يتأثر بخطى لورنس ستيرن في روايته «تريسترام شاندي». لكننا إذ نأخذ في الحسبان رغبة الشدياق في تقليد أسلوب المقامة، نرى، على عكس ما يقوله كيليطو، أنه يواصل التقليد الأدبي العربي. إنه يقوم بتهجين الشكل الروائي الأوروبي مستخدماً المقامة، متأثراً ببديع الزمان الهمذاني (القرن العشر الميلادي) والحريري (القرن الحادي عشر)، وهما الكاتبان اللذان ابتدعا نوع المقامة ودفعا السرد العربي خطوة إلى الأمام.
يمكن أن نعثر على تأثير المقامة في عمل محمد المويلحي (1858 - 1930) في كتابه «حديث عيسى بن هشام» (1907). يعتمد المويلحي في كتابه شكل المقامة أسلوباً مركزياً، إلى حد أنه يستعير اسم «عيسى بن هشام» من مقامات بديع الزمان الهمذاني.
كان الروائيون العرب الأوائل واعين تماماً أنه يصعب جعل النوع الروائي جزءاً من سلسلة الأنواع الأدبية العربية من دون وصلها بالموروث السردي العميق الجذور في الثقافة العربية. إن الموروث، الذي يضم الشعر والنوادر وحكايات الفرسان وأقوال العرب، وقصص الأنبياء، وكذلك «كليلة ودمنة» لابن المقفع و «ألف ليلة وليلة»، هي المصادر الفعلية للروايات العربية الأولى. يمكن النظر إلى تلك النصوص والأشكال بوصفها الأنواع السردية الثانوية المطمورة، بالمعنى الذي قصد إليه الفيلسوف والمنظر الروسي ميخائيل باختين (1895- 1975)، والتي أدت إلى تحول النوع في المراحل التالية من تطور النوع الروائي العربي. ليست الرواية العربية إذن تقليداً للرواية الأوروبية؛ لقد أقامت في ظل النوع الذي انتعش في أوروبا خلال القرن السادس عشر، لكن لها تاريخها وتطورها المخصوصان. إن تعبير «الرواية»، المرادف لتعبير Novel أو Roman، ليست له الدلالة نفسها. إنه دال على الحكي، على الحكايات، وعلى نوع الخبر في الموروث العربي.
عندما فاز نجيب محفوظ (1911 - 2006) بجائزة نوبل للآداب عام 1988، وصفه المعلقون الأوروبيون أنه بلزاك العرب، محيلين بالتحديد إلى ثلاثيته. لكن محفوظ ليس بلزاك، أو إميل زولا، أو غالزوورثي، أو توماس مان. إنه متجذر في الموروث العربي، وأسلوبه، حتى في ما يسمى الأعمال الواقعية، يجدل غنى اللغة العربية وجمالياتها بتأثيرات النوع الروائي الأوروبي. ذلك ما يجعل لغته أقرب إلى لغة الجاحظ (781 - 868) الذي كتب أكثر من 350 كتاباً، ويعد عمله جسراً بين التراث والحداثة في الأدب العربي. وقد تأثر الكتاب العرب، ومن ضمنهم نجيب محفوظ، بأسلوبه الساحر في السرد، وتقنياته المميزة في الوصف. ولهذا فإن الحديث عن تأثر محفوظ ببلزاك يحد من طاقة عمله ويختزله إلى أبعد الحدود. ففي رواياته التالية لثلاثيته، أقصد: «أولاد حارتنا» (1959) و «الحرافيش» (1977) و «ليالي ألف ليلة وليلة» (1981) و «رحلة ابن فطومة» (1983)، يستخدم محفوظ أساليب السرد والحكاية التي تتحدر من «ألف ليلة وليلة»، ورحلات ابن بطوطة، وقصص الأنبياء والرسل، وأنواع أخرى عتيقة في الموروث العربي.
هناك بالطبع روائيون عرب معاصرون آخرون قاموا، إلى جانب نجيب محفوظ، بتثوير الشكل الروائي بالعودة إلى الموروث العربي في النثر والشعر. وعلى رغم أن بعض مؤرخي الأدب وصفوا تخلص الروائيين العرب المعاصرين من استخدام الشعر في النص الروائي بأنه فعل تحديثي في مرحلة من مراحل تطور النوع، فإن الروائيين العرب المبدعين، مثل الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي (1922 - 1996)، عملوا على تطعيم رواياتهم بالكثير من الاقتباسات، الشعرية وغير الشعرية، باستخدام أسلوب المعارضة Pastiche. في عمله المميز «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1972) يقترض إميل حبيبي من قوس واسع من النصوص العربية؛ اقتباسات من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وأبيات شعرية من التراث، وكتابات الجاحظ، والمقامات، وعدد آخر من النصوص العربية الكلاسيكية. وقد أدى هذا التهجين إلى تحويل نص إميل حبيبي إلى واحد من كلاسيكيات الأدب العربي المعاصر في القرن العشرين. ويمكن القول إن نصوص حبيبي الأخرى واصلت الاقتراض من الموروث العربي لخلق شكل سردي مهجن يمنح نصوصه المفتوحة تعددية في المعنى.
ليس النص الأدبي العربي الأصيل المؤثر هو ذلك الذي يقلد الأدب الغربي، بل هو، وعلى النقيص من ذلك، النص الذي يقوم على تهجين شكل الرواية الأوروبي بالموروث العربي. في هذا الأفق يتحرك عمل الكاتب المصري جمال الغيطاني الذي يقتفي خطى مؤرخي العصر المملوكي ساعياً إلى كتابة نصوص تحدث ثورة في الشكل الروائي. في روايته «الزيني بركات» (1974) يقلد الغيطاني لغة ابن إياس الذي كتب تاريخ أفول عصر المماليك في مصر وهزيمتهم على أيدي العثمانيين. يسجل ابن إياس أحداث المرحلة التاريخية من دون اهتمام بالأثر أو اللغة الأدبيين؛ إنه يهتم بنقل الحدث بدقة وأمانة. في المقابل يعيد الغيطاني تخليق الأسلوب بطريقة تجعله قادراً على تقليد الأسلوب من دون أن يضحي بعناصر الشكل الروائي. ويمكننا قراءة نص الغيطاني الروائي بوصفه تشريحاً لحياة الطغاة العرب المعاصرين، وكحكاية مجازية للماضي في الوقت نفسه. إن «الزيني بركات» هي تطوير حقيقي وأصيل للشكل الروائي في الأدب العالمي. مثلها مثل «المتشائل» لإميل حبيبي تعمل «الزيني بركات» على إحداث إزاحة في حركة تطور الرواية العربية، كما أنها تعيد تعريف العملية التي يتم من خلالها اقتراض عناصر من التراث وصهرها في الشكل الروائي الأوروبي. في هذا السياق من الإنجازات الروائية العربية ينبغي إحداث تحول في معنى «الأدب العالمي» عبر تحطيم القيود الغربية التي سجنت الآداب المنتجة في البلدان الواقعة شرق الغرب. (كُتبت هذه المقالة في اللغة الإنكليزية ونشرت بالإنكليزية والألمانية وهذه ترجمة الكاتب لها إلى العربية مع بعض التعديلات الطفيفة).
فخري صالح
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد