غسان كنفاني..في ذكرى استشهاده بين القضية والنصّ «كان ندّاً على الدوام»
رغم اقتران اسمه بفلسطين التي عشقها وحملها بين كلماته أينما ذهب، إلا أن فرادة غسان كنفاني استطاعت أن تترك شيئاً مختلفاً عما فعله الكثيرون.
أثناء تعبيرهم عن تلك القضية سواء في القصة أو المقالات الصحفية أو الرسم التشكيلي، وكأنّ غسان كان يفيض في كل مرة مثل بحر عكا الذي نشأ قربه وحمل صوته في داخله حتى عندما سافر وارتحل وتحوّل لاحقاً إلى «لاجىء».. تلك المسألة المرتبطة بالخصوصية الإبداعية الأسلوبية والفكرية وكل ما يتبع ذلك من تقنيات وأساليب فنية اشتهر بها غسان في قصصه القصيرة على وجه التحديد، ظهرت منذ قصته الأولى «القميص المسروق» التي كتبها في الكويت عام 1955 ونال عليها الجائزة الأولى في إحدى المسابقات الأدبية في ذلك الوقت، وكانت المفارقة أن غسان لم يكن يتجاوز الثانية والعشرين من عمره لكنه كتب نصاً أعلنه بقوة كقاص منذ القصة الأولى، وإذا ما عدنا إلى لغة غسان في ذلك النص الشهير، نكتشف حجم الجهد الذي بذله خلال تلك السنين من أجل اتقان اللغة العربية نظراً لدراسته الأولى في مدارس الفرندز والغرير في يافا حيث أتقن الانكليزية، ومن ثم تشهد حياته لاحقاً في دمشق انعطافة كبيرة على صعيد التجربة الأدبية وامتلاكه ناصية العربية الفصحى في لغة السرد حيث حقق حضوره مباشرة إثر ذلك النص.
من غير الممكن قراءة غسان كنفاني بمعزل عن القضية الفلسطينية وإجراء مقارنة مع جميع من كتب عن فلسطين في الشعر والقصة والأدب بشكل عام، وإذا ما عدنا بالزمن إلى تاريخ مولده سنة 1936 وعام استشهاده في بيروت عام 1972 نكتشف أن هذا هذا الشاب الثلاثيني قد كتب قصته الأولى التي نال عليها جائزة وهو في الثانية والعشرين من عمره، كما تمكن من إصدار نحو ثمانية عشر كتاباً عدا عن مئات المقالات الصحفية، وهو نتاج غزير من جهة الكمّ، أما من الوجهة الإبداعية فتشير الترجمات الكثيرة لأدبه والاهتمام الكبير الذي نالته نصوصه في مختلف المراحل على أهمية وفرادة التجربة الغسانية التي أصبحت لاحقاً جزءاً من الذاكرة العربية وجزءاً من مناهج تدريس أدب فلسطين والمقاومة التي نادراً ما تذكر الآن بمعزل عن غسان!.
يستطيع المتابع أن يلاحظ تلك العملية التبادلية بين غسان الأديب وغسان السياسي والوطني المهتم بالقضية، ورغم أننا لسنا بوارد التفاضل بين الاثنين، إلا أن آثار كنفاني المختلفة تشير إلى حضور مشترك تراجعت فيه ذاتية غسان في كثير من الأماكن لصالح غسان القضية وغسان فلسطين، ولو أن الوقت أسعفه في إكمال تجربته تلك، لكنا عثرنا على غسان الفرد أكثر من غسان القضية، وذلك يرتبط طبعاً بعمر التجربة الأدبية إذا ما قارناه بعمره القصير حيث رحل وهو في السادسة والثلاثين من العمر.. في المقابل نعثر على قضايا ارتبطت بمرحلة وجود غسان في الخليج وحياة الناس في تلك المنطقة ومثالها قصة (موت سرير رقم 12)، وكذلك نعثر على غسان الناقد في كتاباته عن شعراء المقاومة وشهرته بأنه أول من عرّف بهم، وكذلك كتابه «في الأدب الصهيوني»، لتعود فلسطين كي تحضر بقوة في نصوصه الأخرى بدءا من «أرض البرتقال الحزين، ورجال في الشمس، وعالم ليس لنا، وما تبقى لكم، وعن الرجال والبنادق، وأم سعد.. إلى عائد إلى حيفا.. هذا الأمر يبدو طبيعياً كما أسلفنا نظرا لعمر التجربة والحضور القوي للقضية الفلسطينية والتهجير والمقاومة وكلها مواضيع طغت بشكل أو بآخر على ذاتية غسان كنفاني، وكأنه اتخذ قراراً عن سبق إصرار وتصميم بهذا الشأن يمكن أن يلخصه قوله في إحدى الرسائل التي بعثها إلى غادة السمان: «كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون من أجل شيء أحترمه».
رغم ربط العديد من النقاد أدب غسان كنفاني بالايديولوجيا، إلا أن القضية الفلسطينية وهي الأساس لجميع ما يمكن تسميته بالايديولوجيا، كانت ضمن السياق الطبيعي لتجربة كنفاني الحياتية والأدبية، ولم يكن بالإمكان تخيّل هذه التجربة بمعزل عن القضية، تلك المسألة التي تحتم القراءة التاريخية لكل ما كتبه غسان في مراحله المختلفة، يمكن الاستدلال عليها من خلال تجارب الكتاب الآخرين الذين استكملوا تجربتهم ولم تتعرض للقطع القسري بعامل الاستشهاد الذي حدث مع غسان.. ولنا أن نتخيل أدب غسان كنفاني بمعزل عن فلسطين مثلاً، فمن المؤكد أن الأمر سيبدو غير طبيعي وليس ضمن سياقه التاريخي في جميع الأحوال!. هنا تحضر رسائل غسان كنفاني التي تضيء الكثير من جوانب شخصيته فيما يمكن تسميته «أدب الاعتراف» والجميع يذكر ما أثارته حين نشرها.. فمحاولة تجزيء التجربة لا تبدو موفقة نقدياً من الوجهة الإبداعية، فما صنعه غسان على صعيد القصة القصيرة والتأسيس لتطورها لا يقل شأناً عما فعله عندما حوّل فلسطين إلى نص صار بمنزلة جواز سفر مكتوب بمعظم اللغات إلى ثقافات العالم حيث لم تستطع السياسة أن تفعل الكثير!.
زيد قطريب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد