الأنسنية والنقد الديمقراطي
المعرفة قابلة للطعن ولم تكتمل بعد
إدوارد سعيد
ركز إدوارد سعيد من خلال فكره وكتبه ومحاضراته العديدة على أهمية تأصيل النزعة «الأنسنية» وهي تعبير يستخدمه للدلالة على المذهب الفكري الذي يقول: «الإنسان هو القيمة الأعلى تبعاً لأفكار النهضة الإيطالية» وقد وقف مطولاً عند أهميتها، غير أنه امتنع عن اختزالها كنزعة إلى تيار من تيارات التأصيل والجمال، وإنما عني بها كممارسة يستخدمها مثقفون وأكاديميون يريدون معرفة ماهم فاعلون، وربط تلك المبادئ بالعالم الذي يعيشون فيه كمواطنين.
هكذا عارك إدوارد سعيد السياسات التسلطية القمعية المركزية، واستطاع أن ينتقل بالبحث الأكاديمي للعلوم الإنسانية من القوننة إلى الإطار الفكري والمعرفي الفلسفي التي تجعل من الإيمان بقضايا الإنسان وحقوقه – في كل مكان- ليس مجرد عاطفة وإيمان وإنما واقع بوصفه عنصراً مكوناً من مكونات العالم وجزءاً فعالاً منه.
انطلق «سعيد» من الخلل الذي مهدت له المركزية الأوروبية في افتراضاتها الاعتباطية ومنحاها الاستشراقي، ومحاولاتها فرض نظرية وحيدة في الوجهة للتقدم، وقال إن هناك في تراثات العالم مايؤكد حقيقة الأنسنة، مايؤكد أن الأنسنية ليست ممارسة غربية حصراً.. وذكر بأنها بدأت في المدارس والجامعات الإسلامية، في صقلية وتونس وبغداد وإشبيلية قبل أوروبا بمئتي سنة وأكثر.. وهذا الاستبعاد يشمل التراثيات الهندية والصينية والإفريقية واليابانية.
في كتابه «الأنسنية والنقد الديمقراطي» قدم سلسلة من المحاضرات التي تعنى بالخلل الثقافي والمعرفي الذي يؤدي إلى هذه الحروب الثقافية التي يشهدها العالم مستفيداً من المنطق الذي يؤكد قابلية الذهن البشري لارتكاب الخطأ، وكان سعيد قد استفاد من البحوث والدراسات التي تتعلق بهذا الجانب الإنساني، إلى أن ارتقى بها إلى مستوى منظومة معرفية لم يعد بالإمكان تغييبها إذا أراد العالم أن يخفف من غلواء الكوارث التي حلت وتحل به.. لذلك رأى بأن على المثقفين أن يهتموا بالناس الذين يعيشون بعيداً عن الغرب ومصالحه، ويعانون الآلام والعذابات والقهر فقال بضرورة النقد الذاتي الذي قد يرمم بعض نواقص معرفة الذات، والانفتاح على الثقافات الأخرى، باعتبارها مصدراً لفهم الذات على نحو أفضل، وهو بهذا يؤكد على الدعوة إلى التعدد الثقافي بما يسمو بالفكر الأنسني الذي ينهض بالعلاقات المتوترة في العالم إلى مرحلة أرقى.
كتابه «الأنسنية والنقد الديمقراطي» يبحث في الحركة الأنسنية النقدية بما هي عمل المثقف والباحث لمادة الإنسانيات «وهي مادة الدراسات الجامعية التي تعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ» وفي معنى أكثر حصراً: هي دراسة المؤلفات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية» وذلك حرصاً على الحد من النزاعات العدوانية والإرهاب والحروب التي يموج بها عالم اليوم.
في الفصل الأول من الكتاب:
تأمل مستفيض للمؤلف في ذلك النطاق من النزعة الأنسنية القابل للاستخدام بما هو ممارسة مستدامة، لامجرد عملية استحواذ، وإنما كفكر في ماهية النشاط الأنسني بديلاً عن تقديم لائحة بالصفات المرغوب توافرها في الملتزم بالحركة الأنسنوية، نظراً لسلسلة كاملة من الادعاءات، والادعاءات المضادة يقدمها باسم النزعة الأنسنية، ومادة الإنسانيات والزاعمين النطق بلسانهما.
وفي الفصل الثاني:
يحاول تقديم تقرير عن التغيرات الواسعة التي طرأت على أساس الممارسة الأنسنية خلال السنوات الختامية من القرن العشرين، تغيرات تستدعي الإفصاح عنها بطريقة منهجية صارمة لكي نفهم مانستطيعه ومالن نستطيعه الآن باسم النزعة الأنسنية وتحت رعايتها.
الفصل الثالث من الكتاب: يبحث في فقه اللغة- الفيلولوجيا- وهو فرع معرفي يوحي بأنه مفوت مع أنه يفرض نفسه فكرياً بقوة ويستحق الاهتمام وليس الإهمال الذي يتعرض له الآن – وقد اقترح فيه أن فقه الكلام يحتاج إلى تجديد صلته بالمشروع الأنسانوي في أمريكا، وأن تتفعل تلك الصلة وتتوثق.
هذا وكان قد تحدث في الكتاب عن كتاب (محاكاة) لإيدريش باخ ورأى أنه يشكل مثالاً مستداماً لأيامنا، فهو يضم الروائع الأدبية من هيروس والعهد القديم إلى فرجينيا وولف ومارسيل بروست وفي سياق الفكر الأنسني يقول المؤلف: إنه يعالج موضوع الأنسنية لامن قبيل التأريخ لها أو رصد معانيها، أو التفحص الدقيق لعلاقتها الميتافيزيقية بـ «كائن» بدئي.. وإنما تهمة الأنسنية بما هي ممارسة يمارسها المثقفون ربطاً بالعالم الذي يعيشون فيه كمواطنين.
سلسلة المحاضرات التي جاءت في الكتاب تتحدث بعمق الإنسان وامتداده، وقد امتلك «إدوارد سعيد» الشجاعة السياسية التي ميزته كمناضل من أجل قضية الحرية الفلسطينية.. وقضى حياته في سبيل تهدئة الحروب الثقافية، بكل مايملك من فكر وثقافة وعزيمة وإيمان أمده بها الواقع والدراسة الأكاديمية في جامعة«كولومبيا» التي مدته بدورها بأكثر من حالة إيجابية للدفاع عن الإنسان كقيمة أعلى بدءاً بالتركيز على الآداب الكلاسيكية وديمومة الأنسنية عبر دراسات الباحثين والنقاد التي تبلورت في فكرة كنظرية نقد ذاتي متممة لمعرفة الذات، تنهض بها وتشذبها... ذلك أن سيادة الذات الأوروبية ومركزيتها التي أخذت بها أمريكا أدت إلى التوتر الذي يعاني منه العالم في حرب الثقافات.
قضى «إدوارد سعيد» ورحل مطمئناً إلى أن البشر في أنحاء العالم الأربع يمكن أن تحركهم أفكار العدالة والمساواة، وهي لا تزال تحركهم فعلاً، وقد عاش انتصار جنوب إفريقيا ليجد فيه أكمل مثال «كما جاء في الكتاب» ومثل ذلك الحرية والتربية الإنسانية لا تزال تزود البشر الأكثر حرماناً بالطاقة على مقاومة الحرب والاحتلال والإطاحة بالاستبداد والطغيان، وهما فكرتان لا تزالان تتمتعان بالحياة الوفيرة.... وهو إذ يؤكد أنه بالإمكان نقد الأنسنة باسم الفكرة الأنسنية فإنه يتعلم من تجاوزاته المرتكبة في تجربة المركزية الأوروبية وقادر على صياغة نمط آخر من الأنسنية يكون عميق التجذر في اللغة والآداب، ويستوعب دروس الماضي-كما أوردها ايريش باخ» ويبقى منصتاً للأصوات والتيارات المنبثقة من الحاضر، والعديد منها. بقي أن نشير: صحيح الأنسنية هي الفكرة العلمانية القائلة: إن العالم التاريخي من صنع البشر «رجالاً ونساء» لا من صنع رباني، وأنه يمكن اكتناهه عقلياً وفق المبدأ الذي صاغه «فيكو» في كتاب «العلم الجديد» إذ قال: إننا ندرك فقط ما قد أنتجناه، وبمعنى آخر نستطيع أن نعرف الأشياء وفقاً للطريقة التي بها صنعت وعن دور الكتاب والمثقفين قدم فصلاً خاصاً يستحق القراءة ولا يغني ماقدمناه عن قراءة الكتاب بتفاصيله المهمة.
كتاب: الأنسينة والنقد الديمقراطي
المؤلف: إدوارد سعيد
ترجمة: فواز طرابلسي
الناشر: دار الآداب
عفراء ميهوب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد