ديفيـد لـودج: الحقيقـة بمثابـة بـازل ينقصـه بعـض القطـع
يشكل الروائي البريطاني ديفيد لودج، حالة استثنائية في الرواية الانكليزية المعاصرة، إذ عرف حضورا كبيرا سواء عند النقاد أو عند القراء. ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، بما فيها العربية، إذ صدرت له ترجمات في العراق، منذ سنين عديدة، وبخاصة روايته «تبادل الأمكنة» (نقلها إلى العربية محمد درويش) الذي يضع فيها سيرة أستاذ جامعي، وهي مهنة عالجها في الكثير من أعماله، حتى أن الكثيرين قالوا إنها مستوحاة من حياته، فلودج مارس مهنة التدريس الجامعي لسنين طويلة في جامعة برمنغهام.
بعد سنوات من الانقطاع عن النشر، أصدر لودج رواية جديدة بعنوان «رجل ذو مزاج»، وقد حظيت بدورها بالتهليل، إذ اعتبرها كثيرون واحدة من أفضل الروايات البريطانية، وفيها يستوحي من حياة الكاتب ويلز، تفاصيل الكتابة.
حول روايته هذه أجرت مجلة «لوبوان» الفرنسية، حوارا مع لودج، هنا ترجمة لأبرز ما جاء فيها.
÷ تعالج روايتك سيرة حياة الكاتب هـ. ج. ويلز وأعماله. أين الخيال في هذا الكتاب وأين الحقيقة؟
ـ كل ما يجري في الكتاب إما مستوحى من وقائع حقيقية وشخصيات واقعية وعلاقات فعلية وإما متناغم مع ما نعرفه مع سيرة ويلز، الذي يبدو لي شخصية روائية. كل الأحداث والكتابات والخطابات تستعيد الكلمات عينها التي نجدها إما في الكتب التي ألفها ويلز وإما في الكتب الصادرة عنه. كمنت حريتي كروائي في تخيل هذه الشخصيات، الغنية بالألوان، وفي ما فكرت فيه أو شعرت به،أو في كل الذي قيل عبر المشاهد المتنوعة، وهي المشاهد التي لم تتحدث عنها مطلقا السير الذاتية.
÷ كل الشخصيات كانت حقيقية؟
ـ أجل، إنها رواية فريسك، من هنا نجد أن الشخصيات الثانوية، وبخاصة الشخصيات النسائية، تملك الأهمية عينها التي يتمتع بها ويلز، الذي يقف وسط اللوحة مثل مُذنّب كان يجتاز حربا عالمية إلى سماء التاريخ الأخرى، لكني سعيت جاهدا بأن لا تظهر هذه الشخصية كأنها شخصية ثانوية.
÷ ما هي وجهة النظر التي تروي عبرها القصة؟
ـ سرد كلاسيكي بصيغة المتكلم، تتقاطعه الحوارات التي تضع فوق مجرى الأحداث صوتين: ويلز وهو يتحاور مع نفسه كما لو أنه كان صحافيا أو ناقدا. وهذا ما يتوافق كثيرا مع طباعه: رغبته في أن يكون كل شيء وأن يتحكم بكينونته. ثمة مونولوغات داخلية أيضا استللت منها ما أخبر فيها عن حياته الجنسية، قبل عدة سنوات من وفاته، في مذكرات سرية. استعملت أيضا مراسلاته بكثرة. من ثم نسجت الخيوط الموجودة، أما اللحمة فهي من صنعي.
÷ أيهما أصعب، الكتابة عن شخصيان كانت حقا موجودة أم عن شخصيات تخترعها أنت؟
ـ الأصعب هو أن تستطيع الاحتفاظ بثقة القارئ، باقناعه أنك لا تروي له القصص حين تكون تروي له قصة. ما يرغب فيه أن يجد في الرواية رسالة حقيقية ومؤرخة. لكن، في النهاية، نشعر بحرية أكثر، حين نستطيع الوصول إلى سلسلة من الاختراعات عبر سلسلة من المراجع المتعلقة بكتب ما، كما فعلت ذلك في صفحات الشكر الست، المفصلة، في نهاية الكتاب. في انكلترا، هذا النوع من الروايات، المؤسسة على شخصيات حقيقية، يزداد تقديرا وحضورا. لم أكن لأجرؤ على القيام بعمل مماثل منذ ثلاثين سنة مثلا. إنها المرة الثانية التي أنحو فيها إلى ذلك.
÷ لقد كتبت رواية أخرى تدور أيضا حول سيرة كاتب، كانت بعنوان «المؤلف، المؤلف».
ـ في رواية «أفكار سرية»، المرأة في الكتاب، كانت كاتبة أيضا، ولكنها كاتبة متخيلة. في أي حال، في جزء منها، كانت متخيلة. في «المؤلف، المؤلف» نجد في قلب الرواية شخصية هنري جيمس وقصة فشله في المسرح. ما فتنني مع ويلز، هو هذا النجاح العارم لهذا الشخص الذي كان أكثر من كاتب، ربما لأنه كان في النهاية كاتبا أقل من جيمس. لو كان لي أن أتماثل مع أحد بصفته روائيا، لكان جيمس، مع عذابه في كونه لم يُقدر. نتعذب كلنا بشعورنا أنه لم يتم تقديرنا، حتى وإن كنت لم أعرف الفشل في المسرح، لكني أفهم جرحه في هذا العالم القاسي. أما لو كنت أرغب في أن أتماثل مع رجل، فسأبتعد عن هذا البورجوازي الأميركي الكبير الذي أخفى مثليته الجنسية. لكنت اقتربت أكثر من ويلز الذي أتماثل معه كإنسان. في أي حال، لقد التقى الشخصان في الواقع، وروايتي تروي هذه العلاقة ما بين الأستاذ والتلميذ والتي تحولت إلى علاقة نقدية. الكتّاب هم حيوانات مجبولة بالطيبة قليلا.
÷ هل تجد نفسك في الخط الذي حدده ترومان كابوت بالقول «الرواية اللاتخيليية»؟
ـ أبدا. يمكننا بدون أدنى شك أن ندعي الدقة المطلقة للوقائع بدون أي اختراع للروايات المبنية انطلاقا من تحقيق معاصر. لكن هل هي روايات عند ذلك؟ حتى كابــوت نفسه مارس الخداع مع مبادئه. بالنســبة إلى روايات عن شخصيات سابقــة، من المستحــيل القيام بأي تحقيق، إلا انطلاقــا من مصادر محددة، إذا وانطلاقـا من التخيـيل والتأويل يمكننا ذلك.
÷ أين الحقيقة إذاً؟
ـ في كل مكان، ولا في أي مكان أيضا. بين السطور. بل الكائنات. ما هي الحقيقة الخام، العارية، الواحدة؟ حتى بالنسبة إلى المؤرخ أو إلى كاتب السيرة الذاتية. أعيدوا قراءة روايتي «الحقائق الأربع» أو المسرحية التي اقتبستها منها: «الحقيقة العارية كليا». الحقيقة بمثابة لعبة بازل تنقصها بعض القطع دائما. ألعب على الكلام في جميع عناويني. كذلك نجد أن روايتي هي أيضا بمثابة كتاب في قطع. في نهاية حياته، ساهم ويلز في تعجيل نظريات البنيوية وما بعد الحداثة، عبر أطروحة كتبها لجامعة لندن، وقد شعرت الجامعة بالحيرة قليلا، لكنها لم تستطع إلا الموافقة عليها.طرح فيها فكرة أن الموضوع ليــس واحدا بل أنه متعدد، متغير، ومتشــظ. «الأنــا» هي وهم. الأنا هي الآخر. ليس آخرا واحدا فقط بل متعدد.
÷ كان ويلز من تلك النوعية من الرجال التي وصفها فرويد بالقول: إنه يرغب المرأة التي لا يحبها ويحـب تلك التي لا يرغب فيها؟
ـ بشكل عام، أجل. لكن ثمة استثناء عند الكاتب أمبر ريفز، كان لديه عشيقة يسميها عشيقا. كان يقول لم أكن يوما محبا كبيرا، لكني أحببت بعمق عدة أشخاص. كان وحشا، إن أردت، لكنه وحش مدهش وجميل.
÷ هل أن روايتك رواية سيرة ذاتية؟
ـ أبدا، حتى وإن كان ويلز وأنا، ننتمي إلى الطبقة الاجتماعية عينها، الطبقة الأقل من متوسطة في جنوب لندن. لم نذهب الى المدارس العامة ولا إلى أكسفورد أو كامبردج، بل إلى جامعات من المستوى الثاني. ما من شيء آخر متشابه. أنا كاثوليكي، بينما كان ويلز معاديا للكاثوليك بشكل عنيف. كان يهتم بالعلم بينما أنا لا أهتم بالعلم إلا بكونه معطى أدبيا وذلك من 15 سنة فقط. كان ملتزما سياسيا بينما لست كذلك مطلقا. فقط اهتممت بالشخص غير المألوف، بحيويته التربوية، العصامية الذي كان يتمنى أن يتشارك بالثقافة التي لم يعرفها وهو طفل، اهتممت بتعددية مواهبه وبعلاقاته الثقافية والغراميــة؛ اهتممت ببصمته الساحقة على الناس. ربمــا كان شخصا مزدوجا، يشبه مثالي، أي ما كــنت أتمنى أن أكونه، ربما أنا كذلك من دون أن أعرف... كان تقدميا طيلة عمره وفي نهايتــها اقتنع أن العالم ذاهب إلى خسارة نفسه؛ كان يشعر بالانهيار حين لا يكتب. ربما كنت متشائما مثله، لكني أسخر من كل شيء ومن نفسي. أجدني اليوم بين هذين القطــبين: الهوس والانهيار، وغالب الوقت أشعر بالاحباط، كما أني لم أعد أشعر بالطمأنينة لما أنا عليه ولما أقوم به. كما أن الشيخوخة لا تســاعدني ابدا. أصبحت أصم، والكتابة تتطلب مني جهدا متزايدا، كما أن إعادة الكتابة تثير فيّ القرف أكثر فأكثر، مثلما تثير فيّ الإحباط. لم أعد أجيد تأليف كتاب في أشهر قليلة. كل شيء يتطلب مني الكثير من الوقت وبخاصة حين لا نعرف ما ينتظرنا.
÷ هل الصمم يشكل أمرا خطيرا بالنسبة إلى الكاتب؟
ـ يقفل عليك ذلك ضمن عالم معين ويحرمك من كل ما هو أساسي بالنسبة إلى الكتابة: أن تمسك بالأصوات والكلمات والمشاهد المفتوحة على الحياة الراهنة. إنه إعاقة. تنقصنا الكثير من المعلومات، وهذا ما يثير الكبت. على الروائي أن يستمع، أن يلاحظ، كما كان يقول جيمس، وهذه الملاحظة تأتي أيضا عبر السمع لا عبر العيون فقط. علينا أيضا أن نجعل الآخرين يشاهدون، كما كان يقول كونراد. ولأجل ذلك، من الأفضل أن نحيا الأشياء من الداخل. سأخبرك نكتة. ذات يوم، جاءت امرأة ترغب في أن تصبح روائية عند غراهام غرين فسألته: «هل يجب من أجل كتابة نفسية جندي ما أن يدخل المرء إلى ثكنة عسكرية»؟ أجابها: «بالطبع، وسيكون من الأفضل لو تمارسين الحب معه». بالنسبة إلى الجملة المكتوبة، على العكس، علينا أن ننأى بعيدا عن ضجة العالم...
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد