الطورانيون الجدد والأحلام القديمة
الجمل ـ محمد الحصني: بعدما طرد اليهود من اسبانيا عام 1492م، دعاهم السلطان بايزيد الثاني (1481-1512) إلى إمبراطوريته شعورا منه بأنهم سيزودون دولته بالعلوم والفنون والتجارة والصناعة والعلاقات الدبلوماسية الخارجية، وقال:( إنني مندهش من الذين يقولون إن فرديناند، ملك اسبانيا، ذكي، فهو يضعف دولته ويغني أرضي)
ولم يمضي أكثر من 62عام ليقول مراد الثالث(1571-1595)عن اليهود في دولته:(ماذا يحصل لو قطعت رؤوس هؤلاء جميعاً؟)
ما الذي أوصل مراد الثالث إلى هذه النتيجة؟ والأصوليون اليهود لا أجرأ منهم بل لا أوقح منهم فهذا شلومو أفينر، منظّر الحركات الأصولية اليهودية في دولة العدو -وخاصة غوش إيمونيم- عندما يتصدى لمشكلة الوجود اليهودي ضمن الأمم ويحكي السر وراء ما يسمى بالاضطهاد، فيعترف به وبالتفسيرات الاقتصادية والاجتماعية، لكنه يعتبرها غير وافية، والحقيقة التي يقر بها (إن قيمنا الخلقية (كيهود) تتعارض مع الأسس الذي تبني شعوب الأرض حياتها عليها. فنحن في جوهرنا ننفي مُثُلها. ولئن كنا على حق فهذا يعني أن أسس حياتها قد تقوضت. ونحن لا نية لنا في إيذائها، إلا أننا ننفي طرائق حياتها، وهذا ما يحملها على معاداتنا)
لقد بنت تركيا دولتها الحديثة وأقامت قوميتها بناءً على تنظير طويل حول كلمة طوران ليظهر ما سمي بالفكر الطوراني. والمثير للعجب أن الرجال الذين انطلقوا بالكتابة حول هذا المفهوم هم مجموعة من الكتاب اليهود تحت أسماء إسلامية واثنولوجيين غربيين.
فاليهودي الانكليزي (دافيد لوملي) في كتابه(قواعد اللغة التركية) 1832م، وضع أسس اللغة التركية، إذ لم تكن لغة أدب وشعر، فأصبح لها بفضل هذا الجهد قواعد ثابتة.
والمستشرق اليهودي الهنغاري (أرمينوس فامبيري) صديق عبد الحميد الثاني ومرتب لقاءه مع هرتزل 1901م، علاوة على الكراهية الشديدة التي يكنها للعرب والأرمن والروس، أسس نظرية تقول بضرورة قيام اتحاد قومي تركي أطلق عليه (بان توركيزم) يمتد من حدود بحر ايجه حتى حدود الصين، ووجه انتقادات حادة للإسلام الذي اعتبره العائق الأساسي أمام وحدة الأتراك، ونصح القوميين الأتراك بضرورة التخلي عنه، لأنه ينزع عنهم الشخصية القومية.
والمستشرق اليهودي الألماني (فرانز فون ويرنر) انتحل اسم (مراد أفندي) وله دور كبير في التحضير لميثاق تركيا الفتاة.
أما المستشرق اليهودي البولوني (قسطنطين برجتسكي) فاستخدم اسم (مصطفى جلال الين باشا) وكتب كتاب (مقدمة لتاريخ آسيا والأتراك والمغول منذ نشأتهم حتى1405) صدر 1865م، ويروي الكتاب أمجاد الطورانيين الذين كانوا شعبا ذكيا ممتازا لكنهم تقهقروا عند تخليهم عن الخصائص التي تميزوا بها واعتنقوا الإسلام، وهو يتفق مع أرمينوس، وقد ترجم نجيب عصام كتابه، ولهذا الكتاب مكانة خاصة لدى أعلام الفكر القومي التركي وقد اعتبر مرجعا لأدبياتهم الفكرية والقومية.
والمستشرق اليهودي ألبيرت كوهين، فقد انتحل اسم (تكين ألب) وله كتاب (حول انتقال الاقتصاد من الحرب إلى السلم) وفيه نظرية كاملة عن كيفية تحول الاقتصاد العثماني من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم، هدفه منه إخضاع الاقتصاد العثماني في مرحلة ما بعد الحرب وعقب انتصار ألمانيا إلى الاعتماد على رؤوس الأموال اليهودية، وبهذا لن يكون هنالك من داع لوجود أي عنصر عربي أو أرمني أو يوناني في الدولة التركية المرتقبة، وله أيضا كتابان أحدهما (الأتراك والجامعة التركية) والآخر (أفكار حول طبيعة تركيا الكبرى ومشروعها) وقدم فيهما أفضل العروض للحركة الطورانية، كنظريه عنصرية ومشروع إمبراطوري توسعي. ولابد أن نعلم أن الأتراك الذين تأثروا بأفكاره وتبنوا نظريته، لم يعرفوا أنه يهودي ألماني تنكر باسم تركي، ولم يُكشف اسمه الحقيقي إلا في فترة متأخرة، إذ ورد إسماه الحقيقي والمستعار في الموسوعة الإسلامية التي طبعت في باريس 1934
أما خالدة أديب. فقد أختلف المؤرخون في أصولها فمنهم من قال إنها من يهود الدونمة ومنهم من لم يؤكد ذلك. فكتابها (دورة بني طوران الجديدة) نشر 1916م، عرضت فيه دعائم الدولة الطورانية الجديدة التي ستتشكل عقب اتحاد الشعوب الطورانية، وتصوراتها عن المجتمع الطوراني الجديد، حملت لقب ميللت آناسي أي: أم الملة، وذلك على غرار مصطفى كمال الذي حمل فيما بعد لقب أتاتورك (أب الأتراك). وقد حملت لقب رسول الطورانية بعد ذلك.
وضياء كوك ألب من ديار بكر اسمه الحقيقي (محمد ضياء) جعل الجيل الثاني من قادة الاتحاد والترقي يشعرون بأهميته، فاستدعوه إلى سالونيك، حيث أصبح احد المنظرين الرئيسيين للقومية التركية الطورانية، وتعرف في سالونيك على ألبيرت كوهين (تكين ألب) وارتبطا بصلة وثيقة حتى وفاتهما حيث اتفق هذان الرجلان على اتخاذ أسماء تركية تأكيدا لنزعتهما الطورانية، فتسمى الأول بـ كوك ألب والثاني كوهين بـ تكين ألب.
هكذا لا نفاجئ بالدور الجبار والدقيق الذي قام به اليهود للإجهاز على السلطنة العثمانية، وتحت أسماء متنوعة، منهم ماسون أو يهود دونمة (مسلمون) أو يهود توراتيون أو يهود فرانكيون [وهؤلاء أتباع ياكوف الفرانكي، وقد عُرف اليهود القادمون من سالونيك بهذا الاسم، إذ اعتنق فرانك الكاثوليكية مع مجموعة من أتباعه وحصلوا على لقب النبالة البولونية من مرتبة رفيعة، واعتبروا الخطيئة مقدسة، وقد أكسبوا أقوال الميشناة بوجوب تبجيل الرب حتى بالشهوات الذميمة معنىً جديداً. ومن تعاليم فرانك قوله: فمثلما خدع جدنا يعقوب أباه فتخفى في جلد حيوان علينا أن نتخفى في ثوب المسيحية لنكون أكثر نجاحا في خداعنا. وتعاليم فرانك مزيج من الصوفية اليهودية العدمية ونداءات التدمير والانحدار إلى الهاوية، وكذلك طريق الصعود والهبوط تلتقيان، والقداسة والإثم لا يفترقان. وقد توفي 1788م وقبيل وفاته قال:(لقد أتيت لأحرر العالم من كل الشرائع والوصايا، يجب أن يصار إلى تدمير كل شيء ليظهر الرب)]. لذا لا نستغرب حملات الإبادة بحق الأرمن وتهجيرهم، والعداء الشديد والعنصري للكثير من الشعوب التي كانت منطوية تحت بقايا الإمبراطورية العثمانية في لحظاتها الأخيرة. فهناك شعب جديد اكتسب لبوس أمة على أيدٍ يهودية، وصار له اللغة والاقتصاد وأساطير عرقية ممجدة لأصولٍ واهية.
بغض النظر عن الرأي بتجربة مصطفى كمال في بناء تركيا الحديثة العلمانية، وشكلها القومي وطريقة أخراجه لها من موروث البراد العثماني، هل هو نوع من المؤامرة على المنطقة أم لا؟ الواضح أن أتاتورك استطاع بالاعتماد على عناصر مريضة ونافذة في المجتمع التركي من ماسونية ويهودية ودونمية (مسلمة أو مسيحية) على بناء تركيا جديدة الوجه ومؤسسة عسكرية متسلطة قوية ذات اتجاه صارم خلال تعاملها مع المشكلات الداخلية، ولقد ثبت ذلك خلال تاريخها عندما تدخلت في الشأن الداخلي التركي أعادت الصورة كما تراها هذه المؤسسة في حفاظها على تراث مصطفى كمال.
بغض النظر عن الرأي بنظرية المؤامرة هناك أسئلة شرعية حول هوية هذه الأمة، ونشأتها كدولة، وتاريخها، وعلمانيتها، وعلاقة كل هذا بقضايانا.
فتركيا التي اعترفت بدولة العدو في 8 آذار 1949م، واستقبلت قنصلا عاما لها في 16 تشرين الأول 1949م، وقبلت ملحقا عسكريا لهذه الدولة الوليدة في الوقت الذي اقتصر عدد الدول التي سمحت باستقبال ملحق عسكري إسرائيلي على أراضيها وفي عواصمها ثلاث واشنطون ولندن وباريس.ومن تركيا هاجر ما يقرب 34 ألف تركياً حتى أوائل عام 1945 وارتفع الرقم إلى 36ألف مهاجراً عام 1960م.
ألا يحق لنا أن نسأل عن علمانية تركيا إذا عرفنا أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة أوصلت أول نائب مسيحي (ايرول دورا) من طائفة السريان الأرثوذكس ـ من ماردين، وترشح كمستقل وحصل على دعم حزب السلام والديمقراطية، وهو حزب كردي ـ إذ سُجّل وصوله إلى البرلمان كحدث لأول مرة منذ خمسين عاماً، بينما لم تخل دورة من دورات هذا البرلمان ، منذ عهد مصطفى كمال حتى عهد جمال غورسيل، من وصول نائب يهودي إليه، بل إن بعضهم سجل عهدين متواصلين أمثال الدكتور أبريفايا مرمرهلي نائب محافظة نيغيدة من (1935-1943) والمحامي سلمون آداتو نائب اسطنبول من (1946-1954).
ألا يحق لنا أن نسأل عن الغطاء الداخلي والخارجي الذي يملكه أردوغان ليجرؤ على التحرش بالمؤسسة العسكرية التركية قضائيا، وبالضباط الذين قدموا استقالتهم؟
تركيا التي استطاعت سلبنا كيلكيا ومرعش وديار بكر ولواء اسكندرون، وعلى سرقة شمال قبرص، تركيا التي ينازعها حلمان، أحدهما غربا باتجاه الاتحاد الأوربي والآخر شرقا باتجاه آسيا الوسطى والجمهوريات الإسلامية، ماذا تريد من سورية؟
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتبر الرئيس تورغوت أوزال أن القرن الواحد والعشرين قرناً تركياً، أما الولايات المتحدة الأميركانية التي خسرت عدوا جبارا، فهي تبحث عن عدو وهمي لتخلقه، وقد عثرت عليه تحت مسمى مرعب وهو الإسلام، فوضعته بزاوية الفكر الذي يرفض أي فكر آخر ولتعطف بالمقابل على ما سمته الإسلام الجديد الذي يُفترض فيه أن يقف بمقابل صورة الإسلام المرفوض، ولا يهم الولايات المتحدة الإسلام المرفوض أو المقبول بحد ذاتهما كفكر، بل توجه هذا الإسلام ورؤيته ووضعه ضمن خارطة المصالح الأميركانية، وهكذا تتشكل ثنائيات عديدة في مناطق ملتهبة أصلاً بقضاياها القومية الخاصة، ليكتسب صراعها ألواناً جديدة يفقدها بوصلة المعركة، إسلام معتدل مقابل إسلام متطرف، إسلام سني مقابل إسلام شيعي، إسلام سني معتدل مقابل إسلام سني متطرف ....إلى آخره.
ولقد مررت الولايات المتحدة عبر هذه الهويات الملتبسة مشاريع الفوضى والتدمير والحروب الأهلية، حلولاً تناسب مصالح داخلية لفئات ذات رؤى لعالم جديد. فيحل بهذا الشكل ما تعتبره الولايات المتحدة بقايا مشاكل عالقة منذ الحرب الباردة. وعلى جدولها تم حل القضية الأفغانية والعراقية، أما القضايا العالقة ومنها المسألة الفلسطينية، فالواضح أن سورية بالنظام والشكل والنهج الذي تتبنى سياستها وعلاقاتها الخارجية فيه، لا تسمح بمرور هذه الحلول على المنهج الذي ترتضيه أمريكيا وحليفتها إسرائيل، إسرائيل التي بدأت مؤخرا تتحدث عن هويتها كدولة يهودية لتعطي ملامح عن طبيعة الصراع القادم الذي تستعد له.
وإذا درسنا القضية القومية التركية نشأتها وتحالفاتها وخططها، نجد أنها قضية ملتبسة مختلطة بقضايا متعددة لأمة متضخمة على حدودها الطبيعية على حساب جيرانها، وأنها قضية لا تعبر عن مجتمع له هوية صراع واضحة لعدو واضح. فالمجتمع التركي يعج بإشكاليات طائفية، وإثنية داخلية، رغم وجود أحزاب ذات لون علماني وحضور قوي، مجتمع فيه من ألوان الشوق إلى إمبراطورية قديمة (دينية أو على شكل نفوذ) باتجاه الشرق، إلى السعي غربا بكل ما يعنيه هذا السعي داخليا من قضايا تناقض المصالح الداخلية التركية.
هكذا لا يغدو غريبا أن أردوغان الذي عرّف نفسه بصاحب موقف من الدولة اليهودية، ليتقرب مسرحيا من الشعوب، وليمسك عدّاد الوقت ويوزع النصائح والشرائع على أكثر الدول العربية، إذا لم نقل على واحدة هي واضحة بالصراع مع إسرائيل(سورية). داخل هذه الثنائية يحمل أردوغان عل كتفيه خلفية إسلامية تسعى بأي شكل من الأشكال إعادة إحياء زملائه من الأخوان المسلمين في سورية، ليكون وجودهم مدخلا لمنطق ولغة جديدة في إعادة بناء هوية المشرق العربي ومفرداته وبالتالي إيجاد قضايا مختلطة جديدة، كأن ما اختلطت به قضايا المشرق العربي الداخلية مع قضاياه الخارجية في العقود الأخيرة لا تكفي، فيدخل مشرقنا في ضياع جديد مفتوح لاحتمالات بعيدة عن مصالحه الحقيقية.
إن أردوغان يمثل للغرب إسلاما معتدلا متحضرا صالحاً لمشاريع بناء المشرق العربي الجديد كما يريده الغرب ممزقا دولا طائفية تعلن خضوعها لتركيا شمالا، فتحل مشاكل الصديق القديمة في الجنوب(إسرائيل) من قضايا العودة والمياه والغاز والنفط، لذلك يبدو بدهياً أن يخاطب أردوغان العرب كمدافع عن الاعتراف بدولة مشوهة اسمها الضفة الغربية وغزة وبالمقابل يهاجم سلوك النظام في سورية ويحذر المجتمع السوري من الطائفية.
ثنائيات كثيرة ستركبها تركيا، مع أردوغان ودونه، لتقترب من مشروع المنطقة الجديد بحثاً عن غنائم وصفقات جديدة لأحلام طورانية قديمة فيغدو القرن الواحد والعشرين قرناً تركياً، وتتحقق أمنية الماسون الذين زاروا ضريح أتاتورك 10تشرين الثاني 1993م، فسجل أحدهم على دفتر التشريفات وهو (أوندة أقطاش): ( لن ننتهك علمنا وكتابنا والمبادئ التي نعتبرها مقدسة، والعملية التي بدأت بـ هاتاي ـ لواء اسكندرون ـ سنواصلها دون أن ننسى الموصل وكركوك والجزر الاثنتي عشرة ـ في بحر ايجه وتتبع اليونان ـ . إننا حاضرون للتضحية بأرواحنا. أرقد بهناء) يبدو أن شوقه عظيم لزيارة (غابة أتاتورك) ونصبها التذكاري الواقعة بين تل أبيب وحيفا، التي أقامها اليهود الأتراك الذين هاجروا من تركيا إلى إسرائيل، زيارة لا يريدها جوا أو بحرا بل برا عبر دول تابعة ومقسمة. هكذا ترتدي تركيا وجها طورانيا جديدا، لا ينم سوى عن أتاتوركية جديدة عدوانية لتكون مسيرة الإصلاح في سوريا، مغامرتها الأكبر في تاريخها المعاصر، وسط هذا التآمر الدولي.
إضافة تعليق جديد