أنسي الحاج: أحجــــــار مبعثــــــرة
هناك جروحٌ لا تلتئم.
وكلمات لا تقال.
لا تقال حتّى للقراءة بعد الموت.
هناك أسماءٌ يتعذّر لفظها. لفظها وَقْعهُ فضيحة. أسماءٌ هي ما تخاف أن يُذاع كما تخاف على روحك أن تفيض.
هناك أشخاصٌ تنجذب إليهم لأنّهم طالعون ممّا يشبه ذكرى، أو لأنّهم يبدون بغير حاجةٍ إلى أحد فيوقظون فيك حاجتك إليهم، أو لأنّهم، بالعكس تماماً، يبدون ضائعين، رهائن عند مبتزّين، وتشعر أنت أنّهم لك، أنّهم مسؤوليّتك، أنّك الأمين عليهم، أنّهم «سيكتشفونك».
هناك خطايا تحسبها غفراناً، تحسب، لسطوع نورها، أنّها تغسل الخطايا التي كنتَ تحمل.
لا أفهم كيف يتربّع مولى في السلطة ولا يتحوّل سريعاً إلى ضحيّة، إلى قربان.
القوّة التي مصدرها الاستمتاع بشرّ الوجع، قوّة حقيرة.
لا تتبارك غير قوّة الخَلْق، قوّة السحر الروحي، قوّة العطاء، قوّة الجمال، قوّة الشفقة.
هناك أشخاص لا أفهم سعادتهم بما يُضجر، نشوتهم بما يعكّر، وأشخاصٌ سعادتهم بسيطة، صغيرة، مثل راحة اليد، يَشعّون بالنعمةِ ويفتحون قلوبهم للأصدقاء كأولادٍ تلقّوا للتوّ هدايا الميلاد.
تقول الأغنية: «أنا كما أنا
هكذا صُنِعْتُ.
حين أرغب في الضحك
أضحك مقهقهة.
أحبّ مَن يحبّني
أهو خطأي أنا
إنْ لم يكن هو نفسه
مَن أحبّ كلّ مرّة؟».
أيّتها الأغنية هل هناك حقّاً أشخاصٌ مثلكِ؟
هذه الضحكة الطَلْقة والشَعْر العاصف، هذا الاستهتار البريء، هذه الطفولة التي تنهب العمر نهباً، هذه القهقهة الناعمة الجبّارة، أين؟ كيف!؟
لا نطلب هذا القَدْر، هذه الصورة السينمائيّة.
نكتفي بأقلّ.
نكتفي باسترخاءٍ سحابة دقائق، براحة بالٍ خالية من عويل المقصوفين وسكوت المقتولين، من فداحة الفرق بين مكانٍ هنا يعربد ومكان قربه يركض هارباً ويموت.
نكتفي بفيء صفصافةٍ عند نهرٍ لا يزال من ماء ولم يصر وحلاً أو دماء.
نكتفي بأن نَهْنأ كالخسّ في الحقل، كالماعز في الجبل، كالعشب البريّ في مجاهل اليابسة.
لا نطمع بأكثر أيّتها الأغنية.
■ ■ ■
يؤلم أَنْ ليس هناك أشخاصٌ مثل بطلةِ الأغنية وأنّ هناك أشخاصاً أجمل منها. يؤلم لأنّهم يؤلمون.
ليسوا بمثل تحرّرها الذي لا يكذب وضحكتها الهاتكة، ولكنْ بثبات العينين فيك ثبات التوبيخ في الضمير.
سبحان مَن يعطي الناس نعمة نسيان أنفسهم عَبْر الغرق في أمواج العالم! هؤلاء هم الراشدون. لقد نسينا فلسطين ولم ننسَ حكايا شبابنا! وسوف ننسى سوريا ومصر ولبنان ولن ننسى حكايانا الصغيرة! نسينا المظالم، العثمانيين، الاستعمار، هيروشيما وناغازاكي، العراق، السودان، الشهداء، العصور، ولم ننسَ جروحنا الصغيرة.
الجروح الكبرى تلتئم. كالجبال. الجروح الصغرى لا تلتئم. كالأحجار المبعثرة.
■ ■ ■
لا أحد يريد إيقاظك أيّتها الذكريات فلمَ تستيقظين؟
■ ■ ■
كانت الفائدة الوحيدة من فواجع الحاضر هي أنّها تنسينا أشباح الماضي. في الحرب الأهليّة «اللبنانيّة» استطعنا أن نعيش كلّ يومٍ ليومه، والماضي ذلك الحين كان خفيفاً. كان الحاضر، أو الماضي القريب، كفيلاً بطمره. كان تسارع الحوادث يعوّمنا فوق التذكار. وكنّا نقطف من الذكريات ما يريح.
لكنّ الوقت مرّ والكتفان ما عادتا تحتملان ولا الذاكرة باتت قادرة على التجاهل. الزمن يعرّي الصدق من أوراق أغصانه ويضيق صدراً بالتحايل. الزمن مُرٌ للبشر وليس عذباً لغير الملائكة. حتّى الأطفال لا يستعذبون الوقت لكنّهم لا يدرون. تستغرقهم الدهشة، جوع الأيّام، جوع الثواني. الزمن كلّما تكدّس ازداد يباس عجينه. العجين اليابس قلبٌ ينكسر ويتفتفت.
لا أحد يريد إيقاظكِ أيّتها الذكريات فلمَ تستيقظين؟
■ ■ ■
الذي يُلهيكَ أفضلُ من يساعدك.
الإلهاءُ صديقٌ كامل.
«هوديني»، بين أهل السحر، مَلِك.
كان يريهم ما يريد ويصرف انتباههم عمّا يريد.
كان يُخفي عنهم الحياة الغبراء والسوداء ويريهم ألوان المستحيل الخلّابة.
الذي يلهيك يحبّك.
■ ■ ■
هل يعرف محتلّ الذاكرة أنّه محتلّ؟
تنهارُ الجدران المطوّقة للذاكرة، تسيل الذاكرة كالأفاعي المحرَّرة.
يُشَلِّقُ جبلُ الرأس.
يتقشّر النخاع الشوكي.
تقف الموسيقى، الموسيقى التي كانت وحدها مخدّراً، تقف عاجزةً لا تخترق ذاتها.
تنهار الجدران ويهجم الهمج.
■ ■ ■
تريد أن تصبح جزءاً من كلّ.
تصبح.
ثم تصبح جزءاً أكبر.
ثم الكلّ.
وبعد قليل تعود لا شيء.
العودة لا شيء أفظع كثيراً من أن تكون لا شيء.
العودة تعني أنّك من الأساس لا شيء.
وإلّا فكيف «تعود»؟
وحتّى لو أردتَ أن تكون جزءاً من لا شيء، فلا مفرّ من أن «تعود» لا شيء.
العودات متساوية كأسنان المشط.
■ ■ ■
ما يجتذبكِ إليه إحساسكِ بهشاشته التي تخبّئ مجهولاً.
ما يجتذبكَ إليها شعوركَ بقوّتها المرتعشة على حافّة جسدها.
لا تعرفي المخبوء،سيفترسكِ.
لن تعرف ما وراء الحافّة، لأنّك بحاجة إلى الخطيئة لا إلى الغفران.
■ ■ ■
الشاعر لا يلطّخ يديه بالسياسة،
لكنّ ظهره ينكسر من سكوته عنها وقلبه يتحطّم.
الشاعر لا يلطّخ يديه بالسياسة، لكنّ روحه مطعونة بكلّ حربة.
■ ■ ■
الخوف يضمن الأمان. الحيرة تُشرّع الجبن.
وحده الجنون يُحرّر. والجنون عزيز.
■ ■ ■
تكون الأخلاق أو لا تكون في كنه الإنسان. هي جَبْلتُه وصيرورته. لا أخلاق في الطبيعة بل توازن، وجودٌ خارج الإرادة البشريّة، ساعة ضخمة وراءها ساعاتيّ مجهول. الأخلاق صناعةٌ بشريّة، تجويد لجوهر ملازم، تجويدٌ ذروته ما ندعوه الضمير، وذروة الضمير ما ندعوه الله.
الأخلاق دمٌ في الدم، روحٌ في الروح، وقد يعطي الدم ذاتَه فداء، وقد يفترس نفسه يأساً، وقد تنفخ الروحُ الحياة في دنيا، وقد ترهقها ريشة فتزول.
لا أخلاق في السياسة بل أسلوب. الأخلاقيّون في السياسة مقهورون أو مقتولون. والأخلاق لا تكفي للانتقال من دكتاتوريّة الأنا إلى عوالم الآخر.
لا بدّ من الحبّ.
■ ■ ■
ما نحلم به، ننادي به، يشبه الموسيقى. لا يوصف، لا يُحدّد بزمان. الموسيقى التي لا تحتاج إلى علم الموسيقى للسباحة في أجوائها، إنّما إلى أذن موصولةٍ بالأرواح التي في الجهاز العصبيّ. أرواحٌ لا روح واحدة. مُواطن الموسيقى مشحونٌ بالأرواح.
ما نحلم به لا يشبه شيئاً أكثر من موسيقى نظنّها طالعة من ماضينا، حتّى لو كنّا لا نزال أطفالاً. ماضي الأطفال همزة الوصل بين الأمومة والألوهة.
الشعوب التي لا تبكي للموسيقى العاطفيّة لا تتمسّك بأحبّائها كي يبقوا أحياء. الأشخاص الذين لا ترنّحهم الموسيقى كالقصب في الريح لا يرفضون جرائم القتل ولا الإبادة الجماعيّة. قيمة الحياة تقاس بمعايير كهذه. مَن لا يحلم وراء النافذة لا يتأثّر لظلم، لا يهرع لنجدة.
لا نقصد خبراء الموسيقى. نقصد جمهورها الشعبي، الذي لا «يفهم» الموسيقى، بل يستسلم لها شعوريّاً وغريزيّاً، استسلام الولد لالاعيب الساحر.
ما نحلم به، ننادي إليه، فنّ، كلمة، حالة تجعلنا نغمض عينينا لنمضي مع السَكْرة.
لا أكثر.
■ ■ ■
رأيتكِ كما لم أرَ أحداً من قبل.
المشهد لا يزال كما هو. مرّت أَعمار وهو كما هو.
كأنّ قَدَراً أراد. أو هو الحلم الطفليّ الذي في الرأس يخرج فجأةً ويصير حقيقة.
لا خطوط حمراء أمام الممكن.
لا خطوط حمراء أمام الطفل المثابر.
ما يقطع الحياة ليس الموت، بل انعدام تَجسُّد ذلك الحلم.
■ ■ ■
الصدفة الصاعقة جرعةٌ زائدة من كهرباء الشخصين.
وهي أيضاً ما ندعوه الحبّ.
■ ■ ■
من أسباب التردّد عدم الثقة بما يُعرض علينا والشكّ في المعطيات المتاحة. عدم الثقة بالأنظمة القائمة وعدم الثقة بما سيخلفها.
لذلك نعود إلى الكهف، يوميّاً.
إلى برابرةِ الذات وعصافيرها، إلى مدفأةِ هذا الصقيع الوحيدة.
■ ■ ■
لا نستطيع أن نداوي إلّا الجروح التي نتسبّب بها واحدنا للآخر. أيّةُ لعبةٍ هي هذه؟ ولمَ نبكي على الماضي وليس في الماضي غير ما يُبكي؟
ولكن مَن كان سيحبّكِ لولا ظلالكِ وكيف كنتِ ستحبّينه بدون شرّه؟
■ ■ ■
لعلّ المرء يجب أن لا يعيش ليدركه وقت يلتفت فيه مليّاً إلى الوراء.
■ ■ ■
معظم ما يقال هو ما لا نفهمه. ما نفهمه لا نحتاج لقوله. ما نفهمه لا يستحقّ العناء.
ما لا نفهمه أفضل لأنّ المغلق في حرزٍ حريز داخل الحَرَم المهيب. ما لا نفهمه هو هو ما نستطيع العيش لأجله.
لا نفهم الحبّ، لذلك نحبّ ونعيش لنحبّ. لا نفهم الجمال، لذلك نصمد بفضله. لا نفهم الغامض، لذلك نحلم.
رأيتكِ كما لم أرَ أحداً من قبل.
لذلك لا أزال أعمى.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد