قصة الانقلاب اللبناني: من لقاء بترايوس إلى تـهديد ميقاتي
كل اجتماع «بيت الوسط» تلك الليلة، تختصره تلك العبارة من البيان الذي تلاه نادر الحريري: «الكل مطالب بإثبات أنهم لم يسلّموا وطننا». و«الكل» هذه سبقها تحديد واضح في الفقرة المصيرية نفسها. تحديد يؤكد أن المقصود بها «كل العرب» و«كل المجتمع الدولي». قبل مدة كان الكلام معكوساً. كانت وسائل إعلام المعارضة تفيض بتصاريح وتحليلات عن الإجماع العربي والدولي على دعمها، وعلى مقاطعة «حكومة حزب الله» ومحاصرتها، وعلى انتهاء الوضع في سوريا. ما الذي تغيّر فجأة ليطلق «بيت الوسط» صرخة الاستغاثة تلك؟ وما علاقة اغتيال الحسن بما تغيّر؟ وكيف فكّر أهل «البيت» للردّ على الخطر القاتل الداهم؟
يعترف أصحاب العقول من المعارضة، بأن كل ما كان يضخّه إعلامهم من روايات استقواء واطمئنان وتبشير بحتمية «النصر» ودنوّه، كان من باب الاستهلاك المحلي، في الشارع كما لضمان بقاء القيادات. أما الحقيقة، فكانت في مكان آخر. منذ أشهر طويلة بات واضحاً للجميع أن توازناً ثابتاً قد استتبّ في سوريا، على ثلاثة مستويات. دولياً بين واشنطن من جهة ومحور موسكو ــــ بيجينغ. إقليمياً بين الرياض ــــ قطر من جهة وتركيبة «الهلال الشيعي» من جهة أخرى. وسورياً داخلياً بين النظام ومعارضيه. وكنا نعرف أنه في توازن كهذا، الوقت لن يكون لمصلحتنا، ولا لمصلحة المعارضة في سوريا، رغم كل دعاياتنا المغايرة. بعدها بدأت الأمور تتخذ منحى أكثر خطورة. فيما «الخدّاميون» و«الكنعانيون» ضمن المعارضة غارقون في غوغائياتهم، لم يغب عن عقول «اللبنانيين» في 14 آذار تسجيل مؤشرات القلق الجدي: تركيا ذهبت إلى الإيرانيين طالبة شبه مخرج من المستنقع السوري. فكانت تركيبة «الرباعية»، ثم خروج رياض الأسعد من أراضيها. حاولت السعودية عرقلة مسعاها. فدخلت في تورط أمني عسكري في إدلب، لم يلبث أن تحول صراعاً بين الرياض والدوحة هناك. صراع أُجبر سعد الدين الحريري على الانخراط فيه، حتى المقتل. حتى إنه أُجبر على تبني «جناحه» الميليشياوي هناك علناً.
منذ تلك اللحظة، بدا واضحاً أن محاولة الخروج التركيّة لم تكن معزولة ولا فردية. كان خلفها سعي أوروبي إلى تنصل مماثل. كأنَّ أهل بروكسل قالوا لسلطان أنقرة: أنت حبل سرّتنا في الوحول السورية. دخلنا حين دخلت، غرقنا يوم غرقت، أما الآن فنطلب منك إعادة التموضع التدريجي، كي نتمكن نحن من تنفيذ تراجعنا التكتي. في واشنطن لم تكن الأجواء أفضل. الاتصالات السياسية لم تفض إلى نتيجة، ولم تحمل أي أجوبة شافية. عندها ذهب وسام الحسن مباشرة إلى لانغلي، ليلتقي مدير سي آي إيه، دايفيد بترايوس، سعياً إلى جلاء الصورة. هناك كانت الصدمة أكبر: لا اهتمام أميركياً إلا بالأصوليين في شمال لبنان. فضلاً عن كلام فيه أكثر من النقد، حيال التورط في هذا الملف، في عكار وطرابلس، كما في إدلب بين السعوديين والقطريين.
لحظة وقوع انفجار الأشرفية، كانت كل تلك الوقائع ماثلة في أذهان أصحاب العقول من «لبنانيي» 14 آذار. وكان الاستنتاج بين حدين: رُفع الغطاء عنه، فقتله السوري أو «حزب الله» أو الإيراني مباشرة. أو أن المسألة أبعد من مجرد رفع غطاء، وصولاً إلى نظرية المؤامرة. في اجتماع «بيت الوسط» كان إحساس بأنهم باتوا وحدهم، شبه مستفردين في المواجهة. عرضة حتى للصيد مثل العصافير. تذكّروا شباط 2005. يومها لم يكن الوضع أفضل. دايفيد ساترفيلد قال لنا: انتهت مهمتنا هنا. اقبلوا بإعادة تموضع الجيش السوري حتى البقاع، واكتفوا بذلك وانتظروا ظرفاً أفضل. نسيب لحود وقف صارخاً في أحد الاجتماعات: «إذا كنتم تتوهمون بأن السعودية توافق على ذهابكم أبعد، فأنتم مخطئون مضللون. وتعرفون أنني أعرف عمّا أتكلم ولا أحلل أو أخمن». جيفري فيلتمان نفسه وعلى مائدة أحد «حكماء» قرنة شهوان بعد أيام، رفض إطلاقاً لقاء سمير جعجع، واكتفى بإطلاق الطرائف حول زوجته. كان الوضع مماثلاً لليوم. قبل أن يهدر الشارع في 14 آذار، فيبدل كل المشهد...
بين هلالين، الذين تابعوا تلك المرحلة من الطرف المقابل يؤكدون أن ما قلب المعادلة هو قرار بشار الأسد الانسحاب الكامل من لبنان، والذي أعلنه في 5 آذار 2005 بشكل مباغت للخصوم كما للأصدقاء، وحتى للسيد حسن نصر الله.
لكن في «بيت الوسط» ظلّت الصورة هي نفسها: نحشد الناس غداً، بمئات الآلاف، فنقلب الطاولة على أهل السرايا كما على كل العرب والمجتمع الدولي «الكاذب»، كما وصفه حليفنا السري، وليد جنبلاط. لكن ثمة معالجات أخرى متمّمة ومساعدة يجب القيام بها في شكل متزامن. أولها استقالة نجيب ميقاتي. الرجل معروف جيداً من قبل المجتمعين. يرون أنه لا يقف إلا على رجلين: واحدة خارجية دبلوماسية، وثانية بلدية أو طرابلسية تحديداً. إذا كسرنا إحدى رجليه عطبناه. ساقه الدبلوماسية تبدو محصّنة. السفراء قد يغيبون عن تشييع شهيدنا، لكنهم سيذهبون حتماً لتأييده. هلالان آخران: في هذا الوقت تحديداً، كانت رسائل الدعم الدبلوماسي «الدائم» تصل إلى ميقاتي خطياً. هكذا لم يبق إلا كسر الرجل الطرابلسية لرئيس الحكومة: تهويل، حشد، تعبئة، إنذارات بمشاكل ودم، تصحيح لمسخرة «يوم الغضب» في كانون الثاني 2011، وتركيز على تفليس ميقاتي طرابلسياً، بكل الوسائل. حتى إن «كل الوسائل» هذه سمحت لأحد نواب 14 آذار بالاجتهاد، وصولاً إلى التهديد الشخصي لرئيس الحكومة. التقاه وجهاً لوجه في مقر عسكري، فنظر إليه مباشرة وقال له كلاماً كبيراً. استفظع المسؤول عن المقر أن يسمع بأذنيه وفي مكتبه تهديداً لرئيسه. فتدخل رافضاً الأسلوب، فما كان من النائب المستقبلي إلا أن ذهب أبعد، قائلاً لميقاتي: إذاً نلتقي في مكان آخر...
ثمة مكمن آخر يمكن استخدامه للضغط بغية الاستقالة: ميشال سليمان. أصلاً في صميمه هو معنا، يعتقد أهل «بيت الوسط». ثانياً، لا بد أن يفكر أن لديه مصلحة في استقالة الحكومة. بعدها إما أن يشكلها بموازين أفضل لمصلحته، وإما أن يكون الفراغ، بما يخدم أكثر حساباته لنهاية ولايته. وقد يكون هناك من تذكر معادلة «الجنرال الرابع» في الحكم: لا حكمة فؤاد شهاب، ولا جنون ميشال عون، ولا ركبتا إميل لحود. من السهل إذاً «إقناعه» بمزيد من التهويل على ميقاتي... ولم يتكذّب الخبر. ففي مجلس الوزراء يوم السبت، كان هناك من كلف «تهبيط الحيطان»: أن نستقيل بحد أدنى من كرامتنا اليوم، خير لنا من أن يقيلنا تسونامي التشييع غداً، بلا كرامة ولا من يكرمون...
كل ذلك لم ينفع. يوم الأحد عاد كل شيء إلى حجمه الحقيقي. مجلس الأمن مع ميقاتي بالإجماع. حركة الشارع تحوّلت شغباً عزز رصيده الطرابلسي. جنبلاط نأى بنفسه أكثر. سعد لم يجرؤ على المغامرة ــــ المفاجأة، فما كان من فؤاد السنيورة إلا أن حاول بالوساطة، فأطلق متحايل آخر رصاصاته في الهواء.
بعد الأحد، صار الوضع أكثر صعوبة وأشد خطورة. هل ينتبه أهل الأكثرية إلى ذلك، فيبادروا إلى استيعاب «لبنانيي» المعارضة، قبل ذهاب الوطن إلى إحباط جديد، يمهد لانفجار كبير؟ هل يفكرون مثلاً بصفقة حكومة انتخابات مع قانون جديد لتلك الانتخابات؟ أم يركبون المكابرة نفسها التي اقترفها خصومهم مراراً؟ سؤال مشروع رغم هزيمة المعارضة، لأن الوطن يستحق.
جان عزيز
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد