تقرير هوبكنز من المنظور الجنائي لغزو العراق
لو كانت هناك جائزة عالمية للإجرام (على غرار جائزة نوبل للسلام) فإن من سيفوز بها هذا العام على الأرجح هم هؤلاء: الرئيس الأميركي جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ورئيس الوزراء الأسترالي جون هوارد؛ لقيامهم مجتمعين بتنظيم أكبر عملية "اختبار" لإمكانيات تدمير شعب أعزل، بواسطة الكذب السياسي المفضوح.
بفضل هؤلاء، اكتشف العالم كله أن الديمقراطية يمكن أن تكون نوعا من حمل كاذب، وأن توليدها بالقوة يمكن أن يؤدي إلى فناء حياة ما يزيد على نصف مليون مواطن برئ.
من وجهة نظرنا، هذه هي الخلاصة الأولية التي انتهى إليها فعليا، تقرير جامعة هوبكنز لنتائج الغزو الأميركي البريطاني للعراق الذي أنجزه باحثون أميركيون بالتعاون مع أساتذة وطلاب الجامعة المستنصرية في بغداد ونشرته مجلة لانست الطبية البريطانية مؤخرا.
ولكن خلاصة أخرى يمكن أن تبين المغزى الحقيقي لما سماه التقرير بـ (العوامل الطبية) التي أدت إلى مصرع 655 ألف عراقي، إذ أنه استنادا إلى إحصاء رصين لأعداد القتلى الذين سقطوا في الغزو، وإلى دراسات ميدانية لعينات عشوائية من السكان؛ فإن الأوبئة والأمراض التي انتشرت منذ أبريل/نيسان 2003 لم تكن أقل تدميرا من القنابل، لأنها فتكت بعدد هائل من العراقيين.
وهذا كاف بحد ذاته لأن يعلن العراق عن نفسه منذ الآن، وبتأييد رسمي من الأمم المتحدة، بوصفه بلدا منكوبا، وأن يسمي الذين تسببوا بمأساته مجرمين وقتلة يستحقون عن جدارة جائزة الإجرام العالمي.
المثير للدهشة أن النزاع بين حكومة "النموذج الديمقراطي" العراقية والأمم المتحدة، لا يدور اليوم حول البرنامج النووي أو مستوى تخصيب اليورانيوم، كما كان الحال أيام حكم الرئيس السابق صدام حسين؛ بل حول معدلات القتل اليومي ومستوى "تخصيب" الجثث المجهولة في هذا البلد المنكوب.
ذلك هو الإنجاز الحقيقي للفائزين بالجائزة هذا العام. ولو كانت هناك جوائز عالمية أخرى، لمنتجي الخدع والأكاذيب السياسية مثلا (على غرار الجوائز التي تمنح سنويا لمنتجي أفضل الأفلام) فعلى المرء أن يتوقع حصول كل من وزير الخارجية الأميركية السابق كولن باول، ووزيرة الخارجية الحالية كوندوليزا رايس (الآنسة كوندي) ووزير الدفاع رمسفيلد (رام) والسيد ديك نائب الرئيس (ديك شيني) على جائزة التضليل الكبرى، نظرا لقيامهم مجتمعين بأكبر عملية تضليل وخداع في التاريخ.
ولو كانت هناك جوائز تقديرية "للمدافعين عن الجريمة" على غرار جوائز "المدافعين عن الحرية"؛ فإن على المرء أن يتوقع كذلك، حصول عدد من السياسيين العراقيين (المعارضين سابقا-الحكام حاليا) وحتى بعض الكتاب والصحفيين ورجال الدين من الشيعة والسُنة، ومعهم كثرة من المثقفين العرب ممن حرضوا على الغزو وبرروه ودافعوا عن أهدافه، على جائزة "الشريك الفعال" التي يجب أن تمنح للجهود التي بذلها كل منهم في سبيل تمرير الخدعة، ثم في سبيل تنفيذ جريمة قتل أكثر من نصف مليون عراقي.
إن الاعتراف بمساهمتهم في صناعة النتائج المروعة التي توصلت إليها دراسة هوبكنز، ضروري من أجل الحقيقة والحقيقة وحدها.
ولو كانت هناك جائزة كبرى في فن (القتل البشع) على غرار جوائز (الفن الرفيع) ويمكن أن تمنح لشخصية عراقية هذا العام، فإن من يستحقها عن جدارة سيكون وزير الداخلية السابق باقر جبر صولاغ لابتكاره فن ثقب جماجم المعتقلين بالمثقب الكهربائي، واكتشافه المدهش أن المسامير إذا ما غرزت بواسطة المطارق؛ يمكنها أن تصلح لتقييد أيدي الضحايا بدلا من الحبال أو الأسلاك، وهو فن جديد برعت فيه مليشيات فيلق بدر وطبقته بإبداع "فرق الموت" الأميركية على حد سواء.
ومن الهام للغاية أن نلاحظ في هذا الإطار، أن دراسة هوبكنز تأتي في خضم أحداث متسارعة ومتداخلة، وفي أجواء صاخبة من النقاش الأخلاقي الذي تشهده أوروبا (بشكل أخص فرنسا) حول إقرار قانون يجرم كل من ينفي وقوع جريمة إبادة جماعية بحق الأرمن على أيدي العثمانيين.
كما أنها تتزامن تقريبا، مع النقاش الذي أثارته تصريحات البابا ومن قبله الرئيس الأميركي جورج بوش، حول "فاشية الإسلام" ومسؤوليته الأخلاقية عن "مذابح" الفتوحات في الماضي وجرائم الإرهابيين "الظلاميين" في الحاضر.
ولذلك ومن المنظور القانوني للجريمة الجنائية؛ فإن كل هؤلاء سواء أكانوا حكومات أم أحزابا وجماعات وشخصيات اعتبارية، هم شركاء على قدم المساواة في ارتكاب جريمة القتل الجماعي في العراق، وهم يتحملون وزرها ونتائجها الأخلاقية.
لقد لعب هؤلاء، وعلى امتداد وقت طويل سابق على الغزو من خلال استغلال مواقعهم الحزبية والوظيفية ومن خلال التحريض السياسي والصخب الإعلامي، دورا هائلا في حض المجرمين على ارتكاب الجريمة وعلى التستر عليها أيضا.
ومن حقهم –وربما من واجبنا- أن يحصلوا اليوم على جوائز تقديرية تخلد إلى الأبد، لا ذكرى الاحتلال الأميركي للعراق وحسب؛ بل والأدوار التي لعبها كل منهم في سبيل استمرار جرائم القتل الجماعي.
لأجل ذلك سيبدو الاحتلال الأميركي، ومن منظور العمل الجنائي المحض الذي درست نتائجه جامعة هوبكنز، باعتباره أكثر الجرائم بشاعة على الإطلاق في السجل الإجرامي الحديث للإنسان منذ إبادة الهنود الحمر.
وحتى من منظور آخر، وهو منظور تصنيف الجريمة وتحديد نوعيتها؛ فإن اعتراف الرئيس بوش بقتل 30 ألف عراقي فقط (كما قال في بعض خطبه الأخيرة) سيكون، وبرغم تشكيكه بأرقام هوبكنز، بمثابة دليل اعتراف من الجاني وبملء إرادته، بأنه ارتكب بالفعل وبدم بارد جريمة قتل جماعي للسكان العزل، وأن المسألة برمتها سوف تدور في نطاق تحديد الرقم الحقيقي لأعداد الضحايا، وليس في نطاق "وقوع الجريمة" نفسها.
كل هؤلاء إذن وسواهم ولهذه الأسباب وسواها، يستحقون عن جدارة كل على انفراد أو مجتمعين، لقب الفائز هذا العام بالجوائز الافتراضية.
ويمكن لأي مؤسسة أو مافيا دولية تحترف القتل، أن تبادر إلى منحهم جوائز ثانوية أخرى وأن تقيم لهم حفلا خاصا وساهرا في المنطقة الخضراء.
إن دراسة جامعة هوبكنز حول أعداد الضحايا في العراق منذ احتلاله؛ والتي كتبها باحثون بارزون يتمتعون بمصداقية عالية، لا تفعل أكثر من إعادة التأكيد على أن الجريمة ارتكبت باسم الديمقراطية، وأن مرتكبيها لم يكونوا دكتاتوريين، وإنما كانوا دولا وحكومات وأحزابا وشخصيات طالما تشدقت بمنافع الحرية وقدمت نفسها كحارس أخلاقي للعالم.
لشد ما تبدو الديمقراطية، من منظور الجريمة الجنائية المرتكبة، وكأنها الوجه الآخر للدكتاتورية؛ ولشد ما تبدو كما لو أنها عقيدة سياسية وأخلاقية، يمكن أن تؤدي بمعتنقيها وبصرف النظر عن المبررات إلى منزلق التحول من أبطال إلى مجرمين، يستلزم إحصاء أعداد ضحاياهم، قيام مراكز بحث عالمية كبرى بجهود مضنية وشاقة.
وبالتالي لا فرق حقيقيا بين أن يكون المرء مجرما باسم الديمقراطية، أو مجرما باسم الدكتاتورية مادام الطريق نفسه يفضي إلى النتيجة نفسها.
ومع ذلك؛ فإن نتائج الدراسة سوف تثير من المنظور الأخلاقي، السؤال الأهم المتعلق بالغزو: هل كان هؤلاء أبطالا تحولوا إلى مجرمين، أم أنهم كانوا في الأصل، مجرمين تنكروا بأردية الأبطال من أجل خداع وتضليل الآخرين؟
أكتب هذا الكلام كمواطن عراقي غاضب وحزين، لا لأن الرئيس بوش لطخ سمعتي كديمقراطي-لأنني لم أقدم ادعاء من هذا القبيل عن نفسي- ولا لأنه خدعني مثل كثرة من مواطني بلادي والعالم بشعاراته وخطبه الركيكة والفجة حول جرة العسل التي ستندلق فوق أرض العراق ما إن تطأ أقدام المارينز أرضه، ولا لأن الحملة العسكرية أخفقت وتحطمت معها كل الأحلام والوعود الزائفة التي صاحبتها، لأنني على الأقل لم أكن على ثقة بأيٍ من هذه الترهات.
بل لأن الرئيس بوش وشركاءه لم يحصلوا بعد على الجائزة التي يستحقونها: جائزة المليون قتيل التي تليق بمجرمين محترفين.
ما لم تقله الدراسة أو صمتت عنه أو تحايلت عليه، أن العدد الحقيقي أكبر بكثير مما سجله الباحثون، وأن الأرقام ستقفز بسهولة، مع أي إحصاء نزيه إلى الرقم المخيف: مليون. فمن الذي قتل مليون إنسان من مواطني بلادي؟
إذا كانت دراسة جامعة هوبكنز من المنظور الأخلاقي هي مساهمة الغرب، تحت وطأة الشعور بالإثم، في فضح جريمة وقعت أمام أنظار الشهود؛ فإن هذا الأمر سيبدو قليل الأهمية لأن جرائم الولايات المتحدة منذ التدخل في كوريا وحرب فيتنام، غالبا ما كانت تقع أمام أنظار الشهود ومن دون أن يفعل أحد أي شي لوقفها.
ولكن، إذا ما نُظر إلى الدراسة من المنظور الجنائي القانوني المحض؛ فإنها ستكون مساهمة عظيمة القيمة لأنها قدمت ولأول مرة، الدليل القاطع على أن ما يدعى في الأدبيات الأميركية (بالسلطة الأخلاقية) على العالم، قد جرى تقويضه كليا، وأن الولايات المتحدة لن تستطيع بعد الآن، لا إنكار حدوث الجريمة ولا مواصلة خداع العالم بشأن حجمها وعدد ضحاياها.
ولنقل إن الدراسة كشفت الوقائع التي جرى التستر عليها بالتضليل والنفاق والأكاذيب، وأن أمر التسليم بوقوع جريمة كبرى بحق شعب أعزل أصبح إلى حد بعيد أمرا مفروغا منه.
كل ما يمكن للمجرم أن يفعله لتبرئة نفسه أو التقليل من شأن ما ارتكب -وهو يرى العالم من حوله يضج بالاحتجاج والغضب- إنما هو التلاعب بأرقام الضحايا، على غرار ما يفعل البنتاغون كل يوم بخصوص عدد قتلى الجيش الأميركي في العراق.
وذلك وحده ما يفسر لنا سلوك الفاعل ومسارعته إلى التشكيك في الرقم 655 ألف قتيل.
بيد أن الدراسة، على الرغم من تمتعها بالدقة والأمانة والنزاهة العالية، أغفلت بعض الحقائق بخصوص حجم الجريمة المتواصلة والمستمرة بقوة زخم الأدوات التي خلقها الفائزون بالجوائز.
فالإحصائيات لا تلحظ أعداد القتلى الذين يسقطون بصورة جماعية ضحايا القصف العشوائي، كما يحدث الآن للمدن التي يحاصرها الجيش الأميركي مع كل خطة أمنية فاشلة، وكما حدث في السابق أثناء قصف الفلوجة والقائم والرمادي طوال السنوات الثلاث الماضية (وللتذكير فإن ضحايا الأعراس والاجتماعات العشائرية ومجالس العزاء غالبا ما يسقطون بأعداد كبيرة).
كما لا تلحظ أعداد الضحايا الذين يسقطون في الهجمات المتواصلة التي تشنها الحكومة العراقية "الديمقراطية والمنتخبة" على المدن والقرى والبلدات الصغيرة، تماما كما سقطوا من قبل في الهجمات التي نظمتها على الأقل حكومتان مؤقتتان (علاوي والجعفري) على مدن مقدسة كالنجف مثلا.
وإلى هذا كله لا تلحظ الدراسة ارتفاع معدل الوفيات في صفوف العراقيين، وهو معدل يشير إلى أن معظم الحالات كانت نتيجة إصابات بالغة في المداهمات الليلية للمنازل في بغداد والرمادي وديالى وهيت وسواها من مدن العراق.
وفضلا عن هذا كله فهي تغفل أعداد الضحايا الذين يموتون كل يوم جراء عنف المليشيات المجرمة وعصابات الخطف والقتل على الطرقات السريعة.
وإذا ما أضيفت هذه الأرقام إلى أعداد الضحايا الذين سجلتهم دراسة هوبكنز؛ فإن العدد الإجمالي سوف يرتفع بسهولة إلى مليون قتيل.
لكل ذلك أدعو الأخلاقيين في العالم كله، إلى أن يمنحوا الرئيس بوش –وبالتضامن معه بلير وهوارد- الجائزة العالمية الكبرى للجريمة، وأن يعاملوهم لا بوصفهم زعماء تحولوا إلى مجرمين؛ بل بوصفهم مجرمين محترفين تحولوا إلى زعماء.
وحتى يتحقق هذا الأمل ربما بعد وقت ما، آمل أن يبادر الكونغرس الأميركي إلى سن قانون مماثل للتشريع الذي سنه البرلمان الفرنسي (قانون الأرمن) يجرم فيه كل من ينفي وقوع جريمة إبادة في العراق.
وأخيرا، آمل أن يكون الرئيس بوش أول مَنْ يتم تجريمه على تصريحاته التي تنكر وقوع جريمة إبادة بحق العراقيين.
إن أطياف مليون عراقي برئ هم ضحايا الاجتياح الجنوني، سوف تسهر كل مساء وحتى الصباح عند أسرّة نوم هؤلاء المجرمين.
وفي هذا بعض العزاء لكل الذين صدموا بالحقيقة، ولكنهم على الضد من التوقعات، أظهروا ما يكفي من التخاذل والعجز حيال إدانة المجرم، أعني حيال منحه جائزة الإجرام.
لشد ما تبدو أطياف الموتى والضحايا، في بعض الأحيان، أكثر شجاعة من أرواح الأحياء، على الأقل هي تسهر عند أسرّة القتلة لتغني أغنية حزينة تقضّ المضاجع.
فاضل الربيعي
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد