التلفزيون الزاجل

01-06-2013

التلفزيون الزاجل

الجمل ـ بشار بشير: بدأت الخطوة الأولى بشخص يحمل رسالة ثم تسارعت الخطوت من الحمام الزاجل وإشارات الدخان والنار إلى التلغراف وإشارات مورس ثم الراديو و التلفزيون ثم الإستعانة بالأقمار الصنعية واخيراً وليس آخراً الأنترنت ووسائطها المتعددة . مسيرة طويلة وسريعة هدفها نقل الأخبار ونشرها بدقة أكبر و مصداقية أعلى وإنتشار أوسع عبر وسائل أصبحنا نسميها وسائل الإتصال أو وسائل الإعلام . ولعل الوسيلة الأهم والأكثر إنتشاراً وتأثيراً بينها حتى الآن هي التلفزيون لذلك سأعتمده كمثال ومرجع عن وسائل الإعلام . منذ بدء البث التلفزيوني لم يكن لدى أحد شك بمدى تاثير هذه الوسيلة على المجتمعات الإنسانية لذلك سعى الكثيرون للسيطرة على التلفزيون وكما نعرف كان أكبر نجاح من نصيب أميركا التي تعاملت مع الموضوع كعلم فحَشدت دارسي علم الإجتماع والأخصائيين النفسيين و خبراء الدعاية بالإضافة للفنيين والمخرجين والإعلاميين وأنشأت علماً يمكننا أن نسميه علم الميديا . استطاعت أميركا من خلاله وعبر التلفزيون ليس فقط التأثيرعلى المجتمع وإنما قيادته أيضاً . وعندما عَبَر التلفزيون إلى عصر الفضائيات أعطى للسيطرة الأميركية على الإعلام بعداً كونياً ( إذا جاز القول ) فقد فرَّخت الأقمار الصناعية آلاف القنوات التلفزيونية التي أتاحت لأميركا التلاعب بأفكار شعوب ومجتمعات . كما تدور كثير من الدول في الفلك الأميركي كذلك وسائل إعلام هذه الدول ومنها التلفزيون نجدهامطيعة وملتزمة بالتعليمات الأميركية , وأهم مثال على هذه القنوات هي الفضائيات الممولة من السعودية ودول الخليج وهي فضائيات استوردت وبالأحرى صُدِّر إليها علم الميديا الأميركي في محاولة لجعلها ركناً أساسياً في صنع أفكار المجتمع وفي توجيهه . لكن خطاً ما حصل فأثناء الإمتحان الأهم لهذه القنوات انكشفت عورتها وألاعيبها وفقدت جزأً مهماً من إمكانية تأثيرها فماذا حصل ؟ برأيي أن علم الميديا الأميركي تجاوز الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة أو إلى مرحلة السوريالية ( إذا جاز التشبيه ) تماشياً مع تطور مجتمعه المختلف تماماً عن المجتمعات العربية فالمجتمع الأميركي مجتمع صناعي إستهلاكي يفتقد لقضايا كبرى خاصة به و لا يؤرقه لا صراعات وجودية ولا مطامع دولية , وهو مجتمع نتيجة تركيبته الخاصة قد حول كل شيء إلى سلعة يمكن تسويقها بإعلانات تشبه الإعلان التجاري الضحل . كمثال : خلال الحملة الإنتخابية للرئيس الأمريكي الحالي وللترويج لترشيحه (لتسويق نفسه) دخل إلى استوديو تلفزيوني وهو يرقص على أنغام الموسيقى بخلاعة لا يقبلها المشاهد العربي من أي رجل فما بالك برئيس . علماء الميديا الأمريكيون يركزون على دراسة مجتمعهم وينقلون دراساتهم هذه للجهات المتعاملة معهم في مجتمعات أخرى التي يجب عليها أن تعتمد على هذه الدراسات ثم تعدلها بما يناسب مجتمعاتها وهذا مافشلت به الفضائيات السعودية والخليجية . فالسعودية مثلاً بالإضافة لفضائيتها المتخصصة بالأخبار أنشأت أو موَّلت مجموعة منوعة من الفضائيات تتبنى كل الأفكار من أقصى اليمين وهي الفضائيات الدينية سواء التعليمية و التبشيرية أو المتطرفة والمتعصبة و الطائقية إلى أقصى اليسار أي فضائيات الأفلام والموسيقى وحتى فضائيات الكليبات الخلاعية . كل الطيف الإعلامي استًعمِل على أمل إستقطاب أكبر جمهور ممكن ومن ثم التأثير على هذا الجمهور لكن ضحالة الأفكار وقلة الخبرة بالمجتمعات المستهدفة جعلوا الجمهور يضع هذه القنوات في خانة قنوات التسلية في أوقات الفراغ وهكذا فشلت ( إلى حد كبير) فيما كان مرتجى منها من توجيه للمجتمع وصنع لأفكاره . بالمقابل هل نجحت الفضائيات المستقلة عن الهيمنة الأميركية ولنسمها (الوطنية) سواء كانت رسمية أو خاصة أميل إلى القول أنها لم تنجح وإذا سألنا نفسنا لماذا, هل لقلة التمويل ؟ نجد أن لبعضها ميزانيات ضخمة ولكن سوء الإدارة أو روتين العمل الحكومي لم يسمحا بتوظيف هذه الميزانيات وهذا انسحب على سوية الكفاءات االعاملة بالإعلام الوطني وأنا هنا لا أقصد الإعلاميين والفنيين فقط , فحتى العامل الذي ينظف الأستديو له أهمية في مجال التلفزيون أي مجال الصورة المرئية . مثال على أهمية الصورة : أصر فريق عمل رئيس أميركي على معرفة لون ديكور الأستديو الذي سيجري فيه مقابلة وذلك لكي يلبس بدلة تتناسب ولون الخلفية فيعطي تأثيراً جيداً للمشاهد حتى لو لم يعي المشاهد ما يحصل فعلاً لكنه الإهتمام بالتفاصيل حتى التي تخاطب خلفية الوعي . لماذالم تحقق القنوات التي دعوتها وطنية ( التي لا تخضع للسيطرة الأميركية ) النجاح المرجو؟ لعدة أسباب بعضها خارج عن إرادتها فهي قد تبنت االقضايا الوطنية والنضالية , وفي منطقتنا لم تتغير هذه القضايا ولم تحقق أي تقدم فالوحدة العربية وأزمة الشرق الأوسط وقضيتنا المركزية أي فلسطين لا زالت على حالها منذ بداية التلفزيون وتماشياً مع بطء التغيير أوإنعدامه في هذه القضايا كان بطء التغيير في الخطاب الإعلامي (وهنا تظهر تبعية الإعلام للحدث لا ريادته , وهذا سيأتي الحديث عنه ) وهنا يتحمل الإعلام مسؤولية عدم تغيير شكل الخطاب على مر السنين إن سلمنا أنه غير قادر على تغيير مضمونه , وأنا هنا لا أنتقد بل أوصّف الواقع. أيضاً من الأسباب الخارجة عن إرادة هذه القنوات كثرة الجهات التي تعتبر نفسها وصائية عليها وهو أمرمفيد ومطلوب على صعيد رسم الإستراتيجيات ولكنه مُحبِط ومعرقل على صعيد التدخل بالتفاصيل . أما ما تقع مسؤوليته على الإعلام الوطني فهو أن هذا الإعلام على مدى سني عمره لم يستطع أن يكون رائداً أو قائداً أو صانعاً لفكر المشاهد ( المجتمع ) فهو قد ارتضى أن يكون ناقلاً لما يحصل ومتابعاً لما يحدث بأكبر قدر من الأمانة ( كي لا نظلمه ) ومدافعاً لا مهاجماً . لكن اللمعة الأهم للإعلام وهي تشكيل الرأي العام وصنع الأفكارلم يتنطح لها هذا الإعلام . بدأ الإعلام كناقل للأخبار وناشر لها وسرعان ما أصبح صانعاً لها وأنا هنا لاأقصد عبر فبركة الأخبار والصور بل عبر المشاركة المهمة في تشكيل الرأي العام وصناعة الأفكار وإستقراء إتجاه المجتمع والتدخل ليكون موجهاً لا تابعاً. في كثير من الأحيان نجح الإعلام في مهمته هذه وأكثر إعلام نجح في هذا هو الإعلام الأميركي الذي اعتمد على إمكانياته الضخمة وعلى الإختصاصيين وعلى العلم , ونجاحه الكبير هذا أعطاه سلطة كبيرة ونظراً للسياسات المتحكمة به فإن السلطة الكبيرة رافقها فساد أو إفساد كبير تجاوز مجتمعه ليؤثر على كثير من المجتمعات ومنها نحن ( العرب ). من نافلة القول أن الإعلام في الدولة أصبح بأهمية الجيش وخاصة أن الحروب الحديثة في قسم كبير منها هي إعلامية , وكما أننا كنا ولا زلنا نحاول أن نبني جيشاً قوياً قادراً على حمايتنا ( في سورية على الأقل ) فإننا يجب أن نبني إعلاما قادراً على التأثير وعلى صد تأثيرات غيره من الإعلام . وسورية بلد رائد إعلامياً في المنطقة فهي من أوائل البلدان التي دخلت إليها المطبعة فاستطاعت بواسطتها إصدار الجرائد والصحف وهي من أوائل بلدان المنطقة التي أمتلكت إذاعة كانت رائدة في إيصاال الأخبار و تشكيل الرأي العام وحتى صنع الشخصيات الإعلامية والفنية . وسورية هي أول دولة عربية قامت ببث تلفزيوني ( بالتزامن مع مصر أيام الوحدة ) وهي وعت أهمية التلفزيون كجهاز إعلامي فسعت لتحصيل أرقى الخبرات لتشغيله لذلك كانت الكوادر الأولى للتلفزيون تتدرب في أميركا ( ظل التعاون مع التلفزيونات الأميركية قائماً حتى حرب حزيران 67 ). حصل إنحدار بالتلفزيون السوري بعد 1967 ليس بسبب مقاطعة أميركا فقط وإنما بسبب سياسة الدولة في تلك الحقبة ثم عاد إلى الإنتعاش بعد الحركة التصحيحية لكنه بدل أن يستغل فترة الإنتعاش هذه ليتقدم فإنه على العكس ترهل فلم نعد نرى شخصيات إدارية مميزة في التلفزيون مثل صباح قباني مثلاً وصار التلفزيون بالكاد يُصنّع نجوم إعلاميين مثل مهران يوسف أو مروان صواف ونادراً ما يتعاون مع شخصيات مميزة كالبجيرمي ضمن إمكانياته وضمن بنيته قام الإعلام السوري بأفضل مايمكنه خلال الحرب العالمية التي لازالت سورية في خضمها وهو أبلى حسناً ولا شك , لكن هل من الممكن أن يفعل أفضل من هذا ؟ طبعاً . بالإضافة لما ذكرته سابقاً من أوجه القصور في الإعلام (الوطني ) والتي يجب عليه تلافيها أخص هنا الإعلام السوري الذي يجب علية أيضاً رفع مستوى التنسيق بينه وبين كل وسائل الإعلام التي من نفس توجهه لخلق كتلة إعلامية موحدة التوجه وواسعة التأثير . يجب عليه تعديل تركيبته الإدارية بحيث يصبح أكثر ديناميكية واكثر قدرة على الحركة والمتابعة فليس من المقبول أن يكون بعض الصحفيين و مراسلي الوسائل الإعلامية غير السورية أكثر حركة وأكثر متابعة للوقائع السورية من الصحفيين و مراسلي الإعلام السوري ( مع تقديري الكبير لكل من يعمل بالإعلام السوري وبالتضحيات التي يقدمها هؤلاء العاملين والتي وصلت إلى بذل الدم والإستشهاد أثناء عملهم ).يجب على الإعلام أن يكون واسع المعرفة واسع الصدر بحيث يعرف كل الكفاءات في مجتمعه ولا يتوانى عن التعاون مع المناسب منها , على الإعلام السوري أن يعمل على أساس أن سورية مركز إقليمي أي أن إعلامها يجب أن يخاطب مشاهدين من كل الدول التي حولنا وأن يستطيع عبر مخاطبتهم إستقطابهم وتشكيل آرائهم بما يتناسب مع ما تريده سورية ( عندنا تجربة ناجحة في هذا المجال فقد أستطعنا تسويق شكلنا المجتمعي " وأنا هنا لاأقصد البيئة الشامية " إلى كل محيطنا الإقليمي وذلك عبر الدراما السورية ويجب علينا الآن تسويق أفكارنا وسياساتنا عبر إعلامنا ) . خلال العقد الماضي استطاع الرئيس بشار الأسد بواسطة شخصيته الكاريزمية المحببة أن يُقرب كثير من الشعوب نحو سورية و سياساتها وذلك عبر جهد منظم جزء منه كان يجب على الإعلام القيام به , فعلى الإعلام السوري أن يقتنع ويؤمن أن سورية دولة إقليمية عظمى وكما أن للدولة العظمى سياستها العظيمة و جيشها العظيم كذلك يجب أن يكون لها إعلامها الذي يستطيع مواكبة هذه العظمة وإظهارها والمشاركة بصنعها .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...