الياس الزيات: الفضائل الصوفية النائمة
لم يكن الارتباط بالفن حالة متجسدة بالتجانس مع الذات، كما هو الحال في الزمن الآني، فهذا الغنى المتغير والمتنامي للذائقة الإنسانية يعكس ما تقتضيه حساسية الفن من مسؤولية لم تكن ملحة كما هي عليه الآن، بمعنى انحياز الفن للذاكرة البصرية ذات العلاقة بالمكان الذي يشكل السلوك الوحيد الذي سيؤهله إلى موقع متقدم على كل المفاهيم.
إلياس الزيات، أحد المحدثين فيما يمكن تسميته بتجربة التشكيل السوري، هو أيضا أحد مؤسسي أكاديمية الفنون الجميلة في ساحة التحرير إبان خمسينيات القرن الماضي، كذلك بالامكان القول أنه صاحب طريقة ومذهب في التعبيرية الصوفية التي لها حواريون ومريدون ربما، دون أن يعني ذلك تعاليا على روح المشهد بأمثلته وعرافيه.
تعبيرية كانت قد غلفت الضفاف الغنية التي كان فن الأيقونة السوري قد عبر إليها بسلام عبر الزيات الذي عاد بها إلى فضائلها النقية و أصولها السريانية المشرقية، محررا إياها من هجانة التناول التي بعثرت قيمها التشكيلية بإملاءات من تعاليم الكنيسة الأوروبية، تحت عين وسقف البابوية اليقظة التي استمالت ثراء الفن وعلو كعبه الجمالي في عصر النهضة، وماتلته من السكونية المطبقة التي هيأته فيما بعد للاكتشافات الحديثة على أيدي الانطباعيين وأبحاث المدارس الباريسية التي استقطبت المعلمين الكبار في التشكيل الحديث.
فعل ذلك إلياس الزيات ويفعله باستيحاء من فهم عميق و سلطة ريادية مزمنة، اهلتة فيما بعد ليكون احد المحاور التأسيسية الأولى في التشكيل السوري الحديث إضافة إلى «فاتح المدرس ولؤي كيالي ومحمود حماد ونذير نبعه» فضلا عن كونه بقي محصناً من سلطة اطلاعه الغربي على اكتشافات التعبيرية الثرية بحكم تحصيله الغني والمنوع، والموزع بين بلغاريا وهنغاريا ومصر.
ثقافة المحترف، مجازفة الحديث الأولى مع إلياس الزيات لمناسبة وثائقه البصرية الأخيرة في غاليري أتاسي دمشق. إثارة تكاد تكون محفوفة بالمخاطر وبالتحديد مع تشكيلي يعرف عنه اهتمامه الشديد بدقه المفاهيم وتأكيده على خصوبة المعرفة الدلالية في التصوير والفنون عموما، ومنها إلى شفافية المعنى الذي يقصد إليه دائما.
يقول الفنان السبعيني ما معناه: إن فكرة المحترف وإن تمت الاستنارة بها في بداية التأسيس في ساحة التحرير فإنها لم تأخذ شكلها النهائي إلى اليوم، سابقا كانت هناك مصداقية عالية في تمرير المعرفة إلى الدارسين وكان هناك أساتذة غربيين ومجموعة من الغيورين على الأكاديمية وضرورة وضعها على الطريق الصحيح.. أذكر جيدا ذلك المزيج المتجانس الذي كان يضم كل من فاتح المدرس ولؤي كيالي ونصير شورى ومحمود حماد ونذير نبعة وخزيمة علواني وآخرين إضافة للعدد المحدود والموهوب من الطلاب.
منذ ذلك الوقت حتى بداية الثمانينيات تم تكريس معرفة الخبرة ومفهوم البحث والتجريب أو أصول المحترف بمعنى من المعاني الأمر الذي أفرز تشكيليين يقف معظمهم اليوم في الصف الأول،من وزن يوسف عبدلكي وإدوار شهدا وأحمد معلا وأسعد عرابي ونزار صابور وآخرين، وشكل هذا الفرز أيضا منعطفا في السبعينيات مع ظهور جماعة العشرة التي تضم من سميتهم بالمحدثين.
في ضوء ذلك ومع انحراف الأكاديمية إلى تدخلات كثيرة ووجود أسماء غير مؤهلة في مفاصل تحريكها ذاب مفهوم المحترف لمصلحة الكثير من الفوضى، وذهبت تجربة التشكيل السوري، إلى غنى التجارب الذاتية والفردية على حساب منظومة المحترف - إن صح التعبير طبعا، لأنه في يقيني هذه الاطلاقية فضفاضة إلى حد، فبالأساس لا يوجد في حقيقة الأمر فن سوري صرف- مع التأكيد هنا على ثراء الإرث البصري المشرقي، تحديدا بلاد الشام، والذي ألهم الكثير من المحدثين في الغرب، لكن ربما القول بإمكانية وجود تجربة تشكيلية عراقية، لها سمات وملامح، إلا أن العراقيين منغلقون كما تعلم، ولهم وجود أفقي كبير كذلك لديهم موروث حضاري تاريخي قوي مترجم بشكل واضح في مذاهبهم الفنية، وربما لأن لديهم شيخ طريقة تاسيسة في الرسم والتصوير هو «الواسطي» أو هكذا يعتقد العراقيون في مسألة حيازة الإرث التصويري الذي حققه هذا المصور.
كذلك الأمر بالنسبة للمصريين، لكنهم أيضا فراعنة واعتداديون بامتياز. هناك اشتراك معرفي وبصري في التشكيل السوري واللبناني وامتيازات بصرية مهمة في هذه التجربة التي تشكل نسيجا واحدا، وتنفصل بروحها وسلوكها إلى حد عن التجربتين العراقية والمصرية.
قلت للياس الزيات: أنت أحد العرابين الذين تحدثوا عن محترف تشكيلي سوري ظهرت ملامحة مع بدايات القرن العشرين ، كان ذلك ضمن المشروع التوثيقي الذي تبناه غاليري أتاسي، الكتاب الذي أثار ثائرة الكثيرين، وأغفل حسب آراء بعضهم أسماء كثيرة توازيها مع احتوائه على أسماء أقل ما يقال في تجاربها أنها تزيينية.
ـ أنت تقصد بالتجارب التزيينية تجربة حمود شنتوت ربما لكنه مصور دقيق وبارع.
على كل حال التوثيق الوارد في الكتاب الذي تبناه غاليري أتاسي، وقد حاز جهدا مضنيا ودراسات كثيرة وطويلة لم يطل كل مراحل التشكيل السوري هناك تتمة وجزء آخر من الكتاب وهو اقتصر على مرحلة التأسيس مع بدايات القرن الماضي وحتى بداية الثمانينيات وبعد هذا التاريخ لمعت تجارب كثيرة وسجلت حضوراً أفقياً ليس بالقليل لكن في بعضها جانب إعلامي كبير وهي في الغالب تفتقر إلى التأصيل اذكر هنا على سبيل المثال ما يثار حول سبهان آدم .
أعود فأقول: من الطبيعي أن لا يضم الكتاب كل التجارب، نحن اعتمدنا معايير إبداعية بحتة وكل من وردت تجاربهم في التوثيق هم مؤثرون وأبحاثهم محورية في خارطة التشكيل السوري، أنظر إلى أبحاث أحمد معلا في خوان ميرو بثلاثة أبعاد، ومشهد التنصيب الذي استحضر فيه سعد الله ونوس بحثين كانا في غاية الأهمية. كذلك الأمر بالنسبة إلى « إدوار شهدا، نزار صابور، نذير إسماعيل،أسعد عرابي. وآخرين».
وقف الكثيرون ممن تابعوا وثاثقك البصرية في غاليري أتاسي مؤخرا ـ هذا سؤال قلت للزيات فابتسم ـ وقفوا وفي رؤوسهم إشارات استفهام وقد أحدث المعرض فروقات في قراءة النخب لما أرادة الياس الزيات، أو إن شئت تباينات، تحديدا تلك الاعمال التي عكست تأملات خاصة في الكف.
ماذا عن تلك الأعمال، ماذا عن التعبيرية الصوفية التي توشح النسيج الأكبر من تجربتك، كذلك الحضور الخفي لعلاقاتك الروحية مع مريم المجدلية وجبران والحلاج وابن عربي ومع التراث الروحي المشرقي وانتصارك الدائم لقيمه البصرية.
ـ سبق أن أثير مثل هذا الجدل في النخب المتابعة التي ذكرتها حول تجليات نذير نبعة والتي عرضت أيضا في غاليري أتاسي والتي عكست بدورها روح بحث لا تزال عالية عند نذير وشكلت منعطفاً محورياً في تأثيره الكبير. المعنى الذي قادت إليه أيضا دمشقياته السابقة والمهمة.
إذا هناك بحث دائم ورؤية تستجد وتأخذ قيماً بصرية مختلفة وهذا هو المحرك الأساسي في كيمياء التصوير، والأعمال التي تناولت فيها تأملات مختلفة للكف أصنفها ضمن الفهم السابق أي الرؤية المستجدة وهي خرجت على السطح الأبيض بالشكل الذي ظهرت عليه وقد لاقت حضوراً كبيراً لدى من تابع المعرض إضافة للأعمال الأخرى.ما أشرت إليه أنت في النهاية هو حالة صحية، مسألة القبول وعدم القبول، أو اختلاف الذائقة ونسبيتها.
فيما يتعلق بالتعبيرية فهي أيضا رؤية بصرية أحتكم إليها في الغالب أو ربما هذا ما تقوم به أعمالي، وهي محصلة بحث تشكل منذ البداية أثناء دراستي في أوروبا الشيوعية على يد أساتذة كبار ومنهم بشكل أساسي إيليا بتروف 1956 ـ 1960 مع العلم أنني أعتبر نفسي تلميذاً لأستاذ وانطباعي كبير هو «ميشيل كرشة» في فترة من الفترات كانت لدي أبحاث تجريدية ونتجت عنها أعمال كثيرة، لكنني لم أستكملها وغادرتها من جديد لأبحاث تعبيرية لها علاقة بالموروث البصري المشرقي. انظر إلى الأيقونة المشرقية فهي تحمل قيماً تعبيرية وبصرية كبيرة لانجدها في الرسوم الكنسية الغربية،هناك فرق كبير، الأمر ذاته ينطبق على الخط العربي، كذلك المنمنمات والزخارف الإسلامية القديمة وكلاهما يملك جماليات أخاذة. هناك أيضا الأثر التصويري الغني الذي تركه لنا الواسطي وأمثلته في عهود التوثيق الأولى في التاريخ العربي والفارسي، وهذا برأيي مواز للإرث الفني العريق الذي يمتلكه الغرب.
في معرضك الأخير بورتريه لابن عربي وحالات إنسانية لمريم المجدلية وبورتريه آخر للنبي يحيى، أيضا لك عمل كبير سابق لجبران وماتيس والكثير من الأعمال التي تجاذبت فكرة النبوءة والبشرى.
في البورتريه أنت ترسم أرواحاً أثيرية مسكونة بالسمو والحكمة، لا تلبث أن تخرج من اللوحة لتسبح في فضاء المكان، لديك معادل لوني يغوي الذائقة، تحديدا في المائيات التي تحمل جرعة عالية من الشفافية، التي تترجم قيادة ماهرة لحركة اللون على السطح الأبيض.
ـ ربما، وهذا جيد،علاقتي مع الرموز الروحية التي ذكرتها هي علاقة وجدانية بالمطلق تحديدا مع مريم المجدلية التي رسمت لها عدة بورتريهات وعرضت في المعرض، كذلك الأمر بالنسبة للحلاج وابن عربي وجبران.. فقراءاتي عن هؤلاء كثيرة وكلهم من الرموز التي تثري التراث الروحي المشرقي، أنظر إلى شفافية جبران فهي مثل، حتى رسومه الواقعية تحمل الكثير من العمق على عكس ما يروج.كل هؤلاء علاقتي معهم عميقة وهذا ما ينعكس في تأملاتي البصرية واللونية الخاصة بهم.
قلت للياس الزيات: كنت غائبا عن الحفل الذي كُرم به فاتح المدرس ونذير نبعة وإن كان هذا التكريم ـ لناحية فاتح المدرس ـ متأخرا وجاء بعد سبع سنوات من رحيله..وربما يعود ذلك لتمرده الدائم على الوصفات الكثيرة للأيديولوجيا الشمولية والتي حاولت استقطابه، أيضا لم تشأ الحديث في الندوة التي ناقشت تجربة أسعد عرابي على هامش معارضه الثلاثة في دمشق، في غاليري مصطفى علي والثقافي الفرنسي وغاليري عشتار.
كيف تعلق لي على رمزية كل من فاتح المدرس ونذير نبعة وتجربة اسعد عرابي وهو كما تعلم ناقد وتشكيلي كبير.
بالفعل فأنا لم أستطع حضور التكريم لأنني لم أعلم بموعده بدقة، حتى أنني اتصلت بنذير معتذرا.
أنظر، فاتح المدرس قامة كبيرة لايمكن أن تتكرر على الأقل حتى الآن وهو صاحب مشروع تشكيلي وصل به إلى الذروة، كذلك هو قيمة معرفية هائلة لا يمكن أن تقاس في التشكيل العربي ككل وليس في التشكيل السوري فقط، هو أيضا إضافة لذلك رؤيوي كبير ومنظر في اللون وغاياته الحسية والجمالية. فاتح كان يجب أن يكرم منذ زمن لكن هو، كما قلت أنت، متمرد من الطراز الأول.
نذير أيضا تشكيلي وباحث كبير وهو من المؤسسين للحداثة البصرية السورية ودمشقياته المؤثرة شاهد كبير على ذلك، كان مفاجئا وقويا في التجليات، أبحاثه التجريدية الأخيرة، هناك حراك مخبري وبصري شديد الأهمية عند نذير مع العلم أنه في سن متقدمة وهذا فريد كما تعلم.
فيما يتعلق بالندوة التي تناولت تجربة أسعد عرابي. كان هناك إصرار من أسعد، لكن هناك أيضا من تحدث «عفيف بهنسي» لم أشأ الحديث لأنني سبق أن تحدثت عن تجربة أسعد في ندوة سابقة في الثقافي الفرنسي بعد أن تمالكت نفسي طوال الندوة، أيضا أسعد يريدك دائما أن تناصر طروحاته النظرية، وأنا لدي تحفظات كثيرة حول ذلك. لكن هذا لا يؤثر على كون أسعد عرابي تشكيلياً وملوناً مهماً وباحثاً مثيولوجياً رفيعاً.
لم اشا أن أقف عند هذا الحد مع الياس الزيات وهو من الباقين الكبار, فنان يقصد إلى ما يريد دون تردد، وتخبرك عيناه بالكثير من الهدوء والسكينة، وعمق يستأثر به وبك، كاد يملي عليك رؤية معرفية ماهرة واحترافية في آن.
وأنت تتجول في مرسمه الدمشقي، غادر إلى تفرد غير اعتيادي، تفرد يغشي دماغك بذاكرة تعلن عن الكثير من الإجابات، شيء من رائحة الأرواح التي تقرر في كيمياء اللون وارتياداته في الحس والرؤية والفكر، الكثير من الجاهزية والموهبة القديمة والمثقفة، مزيج سيميائي من الأساطير والغبار التدمري وأرسطو ويوحنا المعمدان وابن عربي، والطرق الجانبية التي يمكن أن تودي بك إلى ما يشبه السكون، شيء مما يمكن أن تراه أو لا تراه من روحك أمامك ومن عقلك أمام عينيك، ترف معرفي وفلسفي يكاد يلقي بظلاله على كل شيء، على الطاولة اليمنى التي تتوسد اقتراب الهواء، يتكىء الزيات كمدينة مترامية بطرق وأشجار وارتياب مهذب، خزائن من ترف لغوي. وتدرجات البني والأحمر الداكن والأخضر المضاف إلى القليل من تعاليم الرؤية ، وخلف المشهد دائما، وكما يريد هو، موسيقا من النوع الكلاسيكي تملأ المكان.... وتتردد بتونات عالية.
متعب أنزو
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد