تفكّك الإسلام السياسي
لم يكن سقوط «المشروع العربي» مسألة تتعلق بالجغرافيا أو بالحدود أو بالإمكانات العسكرية والمادية. هناك عطب أساسي حاصر الإنسان العربي وحجزه عن ارتياد سبل التقدم في بيئته السياسية والثقافية. هذا واقع تاريخي وليس واقعاً جوهرانياً أو طبيعياً.
فلم تكن أحوال العرب واحدة في كل الأزمنة والعصور. ولم يكن العرب كما هم اليوم في أزمة وجودية تتعلق بمفاهيمهم وقيمهم وسلوكياتهم، وكذلك في مستوى نظرتهم إلى هويتهم وثقافتهم أو في تطلعاتهم السياسية، لم يكن ما نراه اليوم دينهم ولا كانت هذه المذاهب مؤسسات سياسية يقوم عليها كيانهم السياسي. نحن في أزمة تاريخية قد يصح وصفها بالحضارية نتيجة تراكمات من الفشل السياسي. فشل القيادة والأفكار والمشاريع التي تضافرت لاستيلاد ما نراه الآن من انحلال للدولة والمجتمع. هذه الموجة من التديّن المسيّس ومن التمذهب المطيّف لم تكن موجودة من قبل وليست في أسبابها خارج الأزمة الراهنة لمجموعة من النزاعات المركبة.
خلال نصف قرن من الاستقلال ومن التوازن الدولي لم يستطع العرب بناء سياسات مستقلة ولا توظيف طاقاتهم لما يمكن اعتباره المصالح العليا والأمن القومي كمنظومة إقليمية أو كدول مستقلة. انخرطوا في صراع المعسكرات والحرب الباردة وخاضوا حروباً لم تستثمر في الاتجاه الصحيح.
أن يكون العالم العربي كله في دائرة التجاذب والمشاريع الدولية فهذه حقيقة لا تحجب المخاض الداخلي الذي كشف عن قضايا ومشكلات وتصدعات خطيرة داخل المجتمعات وفي ما بينها.
كشف عدوان الخارج وضغوطه هشاشة الوطنيات أو بالأحرى انتكاساتها وتحلّلها بعد عقود من تناميها وتطورها. العراق الذي حارب إيران ثماني سنوات انفجرت وحدته بعد توقف الحرب. ولبنان الذي حقق إنجاز التحرير من الاحتلال الإسرائيلي انقسم على نفسه بعده. وسوريا التي اجتازت مرحلة الحصار الدولي وذروتها في 2005 انفجرت حين كان الأميركيون ينسحبون عسكرياً من المنطقة. كانت المواجهة مع الخارج في هذه الأحوال تزيد من افتضاح الخلل البنيوي لأنظمة أو لقوى سياسية عاجزة عن استئناف مشروعها الوطني ببناء اندماج طوعي لا قسري أو إخضاعي ينطوي على معاني الغلبة والتمييز في المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية. كيف لنا أن نحتمل وجود أنظمة أو ننسب لها أية شرعية أو أي إنجاز طالما هي التي قادت إلى هذه النتائج الكارثية؟ هذا المسخ السياسي أو هذه الظواهر الظلامية التي انبعثت من جوف المجتمعات المحكومة بالاستبداد هي ثمرة أوضاع سابقة على المخططات الدولية التي تتلاعب بها وتستخدمها لأغراضها ومصالحها. نحن لا نواجه غزوة صليبية ولا غزوة صهيونية ولا استعماراً أوروبياً بل نواجه إسلاميات سياسية كلها مسؤولة عن ثقافة المسلمين الراهنة، عن شكل تديّنهم وطقوسهم وعداواتهم وانقسامهم وتنابذهم واقتتالهم.
الإسلام السياسي هو الذي يجلد نفسه هذه المرة، وهو الذي يكشف ضعفه ومطاعنه ويتصرف بقواه وأدواته ويقدّم لنا نموذجه، بل نماذجه المشوّهة. كيف حصل ذلك هو أمر يتصل بالمشروع السياسي للإسلام الإيراني والتركي والخليجي والمصري والمشرقي والمغربي وليس بأي استشراق أو تصدير غربي. كانت العروبة والقومية والليبرالية واليسارية والديموقراطية والعلمانية مشتقات من ثقافة غربية كما هو مفترض، لكن الإسلام السياسي الذي يحاول إخضاع المجتمعات العربية الآن ليس ثقافة مستوردة.
يمارس الإسلام السياسي حجماً من العنف والإكراه والتسلّط أكثر بكثير من الإيديولوجيات الأخرى. بل هو لا يلغي فقط الهويات الأخرى قومية أو دينية بل يلغي بالأساس كونه ثقافة حياة وثقافة عيش إنساني وثقافة حضور في تاريخ الحضارة والعالم ويعتدي أول ما يعتدي على جمهوره وعلى تراثه وعلى حيويته الفكرية. في حروب المسلمين على المسلمين المتقابلة تسقط فكرة صراع الأديان، وتسقط فكرة صراع الشرق والغرب، وينهار المشروع الإسلامي على افتراض وجوده موحداً للمسلمين ونموذجاً لهوية تميزهم عن الآخرين لمصلحة إسلام سياسي يتشظى ثقافياً ويقطر عنفاً وعصبيات وينفصل بالمطلق عن حياة الناس ومعاشها ومتطلباتها وطموحاتها. وهو فوق ذلك كله يسلس قيادة المنطقة، المكان والجغرافيا والسكان والاقتصاد للخارج الدولي الأقوى ويقدّم نفسه بطوعية غير مسبوقة لأشكال الوصاية والحمايات والاستعمار. هذا هو المأزق العربي الذي يلقي اليوم بفلسطين وبجميع الكيانات وبجميع الدول، بما فيها الإقليمية المتكابرة، على مائدة تفاوض يلغي إرادة الشعوب ويصادرها ويقودها إلى عبودية في شكل جديد تحت عناوين ولافتات المشاريع الخلاصية الدينية. هنا الوردة ويجب أن نرقص هنا إزاء المشهد العربي البائس.
سليمان تقي الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد