«الرقص مع بشير» يعيد مجزرة صبرا وشاتيلا إلى الأضواء
في عام 1982 قال مناحيم بيغن في كلمته أمام الكنيست الإسرائيلي مدافعاً عن حكومته المتهمة بالاشتراك في مذبحة صبرا وشاتيلا: «في شاتيلا وصبرا، أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصاً غير يهود، ففي أي شيء يعنينا ذلك؟» وبعد أكثر من 26 عاماً على المجزرة، قدم المخرج الإسرائيلي آري فولمان «المولود في وارسو –بولندا 1962» فيلم الرسوم المتحركة «الرقص مع بشير» الذي يعارض محتواه الفكري والفني ما حاولت الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة أن تضلل عبره الرأي العام العالمي كلما أثيرت قضية المجزرة التي هزت العالم على الرغم من إثارته للعديد من إشارات الاستفهام أكثر من تقديمه إدانة واضحة أو مثبتة للكيان الصهيوني، أما فوز فولمان بجائزة أفضل فيلم رسوم متحركة في مهرجان كان السينمائي 2009 فما تزال مثار جدل واسع في الأوساط الثقافية والسينمائية وحتى السياسية إلى الآن.
يحكي الفيلم تفاصيل عاشها فولمان نفسه إثناء الغزو الإسرائيلي للبنان واجتياح بيروت عام 1982، عندما كان جندياً يافعاً في الوحدات الغازية، معتمداً على تقنية الخطف خلفاً «فلاش باك» وعدد من الحوارات مع أصدقائه وزملاء السلاح الذين بحث عنهم طويلاً بعد أن أصيب بفقدان الذاكرة لأسباب بقيت مبهمة لم يفصح عنها الفيلم، لذلك نصحه طبيبه النفسي أن يبحث عن أصدقائه القدامى ويحاورهم عن تلك المرحلة من ذاكرته المفقودة كأحد أساليب العلاجية المتبعة، مما أعطى الفيلم شكل الفيلم الوثائقي في كثير من مشاهده.
قسم فولمان فيلمه إذاً إلى مجموعة حكايات عاشها مع أصدقائه في لبنان، من اجتياح الجنوب والمواجهات الضارية مع المقاومة التي قضت على عدد كبير من جنود الاحتلال بعكس ما كانت تشيع الحومة الإسرائيلية عن جيشها الذي لا يقهر وحكاية 26 كلباً الذين قتلهم بقناصته خشية إيقاظ السكان ليلاً وصورتهم التي ظلت تداهم نومه سنوات طويلة، إلى المواجهات مع أطفال الأر بي جي الذين لم تتجاوز أعمارهم 14 عاماً لكنهم استطاعوا بتصديهم للمدرعات الإسرائيلية الكشف عن حقيقة جيش الدفاع الصهيوني وخوف وتقهقر عناصره، وصولاً إلى المواجهات على خطوط التماس بين شطري العاصمة بيروت ونوبات الهستيريا التي كانت تصيب فولمان وزملائه عندما حمل أحدهم بندقيته مطلقاً النار منها بشكل عشوائي وهو يرقص بجنون على أنغام الفالس السابع لشوبان غير مكترث بزخات الرصاص التي تهطل عليه من كل جانب وفي خلفية المشهد صورة كبيرة لبشير جميل قبيل اغتياله، من هنا أتت تسمية «الرقص مع بشير» الذي قدم بعض خفايا الحرب اللبنانية بجميع تناقضاتها وجنونها وعبثيتها، وكون «الرقص مع بشير» ينتمي للرسوم المتحركة، جعل التعامل مع التفاصيل الحقيقة والمتخيلة لينا وسهلاً، كذلك التنقل عبر الشخصيات المختلفة والزمن المتغير معها ممكناً ويسيراً على الفهم والمتابعة دون فقدان السياق الدرامي للأحداث، عن ذلك قال فيلمان للصحافة في كواليس مهرجان كان: «لم تكن هناك طريقة أخرى صالحة لإنجازه» .
يأخذنا الفيلم زمنياً ومكانياً في رحلة مع فولمان وأصدقائه نتعرف عبرها على مأساة الشعب اليهودي التي أراد الفيلم تضخيمها وإعطائها أبعاد كثيرة لدرجة توازي مجزرة صبرا وشاتيلا حتى يجعل المشاهد الغربي يتقبلها وكأنها حدث عابر إذا ما قيست بمعاناة الشعب اليهودي مع المحرقة النازية المزعومة التي عرج عليها الفيلم بذكاء ولغاية مقصودة من قبل صناعه! نصل إلى صبرا وشاتيلا ووقائعها التي خصها مخرج الفيلم بالجزء الأخير منه مع تغير واضح في إيقاع الإحداث التي بقيت بطيئة ما لبثت أن أخذت بالتسارع والتصاعد مع نهايته. الجنود الإسرائيليون بمن فيهم فولمان كانوا يلهون في إحدى الفلل الفخمة القريبة من العاصمة بيروت، وقائدهم مشغول بمتابعة أفلام البورنو، إلى أن يأتيهم خبر اغ تيال بشير الجميل، هنا تصدر الأوامر بالاجتياح السريع لبيروت، تظهر بعدها عناصر ميليشيات الكتائب بملابسهم العسكرية وصور بشير المتواجدة في كل مكان وهم يعدون العدة للانتقام والجنود الإسرائيليون وقادتهم يتابعون كل ما يجري، يرفع الجنود شكواهم وتخوفاتهم إلى قادتهم من وقوع المجزرة، فيرفعها القادة إلى الجهات الأعلى حتى تصل إلى بيغن الذي يتصل بدوره بوزير دفاعه شارون الغارق في صحن بيض واللحم حيناً والغارق في نومه في حين آخر، لكنه يرد على سؤال بيغن قائلاً: هل رأيت أنت؟ والمقصود هنا دعهم وشأنهم فإن لم تشاهد بعينك ما يحصل فكأن شيئاً لم يكن، حتى لو كنا على يقين تام بما يجري.
ذبح الفلسطينيون إذاً والإسرائيليون على معرفة تامة بتفاصيل المذبحة ومجرياتها، حتى أن شارون نفسه أمر بإضاءة مخيمي صبرا وشاتيلا بالقنابل المضيئة ليسهل مهمة السفاحين، لذلك بقي فولمان وأصدقائه يعيشون ذنب الذكرى فقلة الذكريات أو انعدامها، يبقى المشهد الأخير من الفيلم عالقاً بالذاكرة من الصعب نسيانه، مشاهد واقعية من المجزرة دمجها فولمان مع رسومه المتحركة، ربما لجأ إلى استخدام صور المجزرة الحقيقة لأنه لم يرد أن يشاهد الناس فيلمه ويخرجون معجبين بتحريك الرسوم المتحركة أو بالموسيقا فقط يقول فولمان: «هناك الآلاف قتلوا، أحيانا، يجب أن تواجه العين بالواقع. المجزرة وقعت، ويجب أن تراها كما هي لتبقى محفورة في ذاكرتك» إنها مجزرة صبرا وشاتيلا لكن هذه المرة بعين إسرائيلية شاهدتها وعايشتها عن قرب، على الرغم من الضجة الإعلامية الكبيرة التي تلت العرض ا لأول للفيلم، تبقى هناك نقاط عدة وأسئلة كثيرة مثار جدل حول الفيلم، لماذا يتم ربط وتقديم صورة قاتمة عن محرقة أوشفتيز المفترضة في أغلب الأعمال الفنية الإسرائيلية التي تتحدث عن العرب؟ لماذا لم يظهر وجه عربي واحد من مطلقي النار أو غيرهم في الفيلم؟ هناك من هلل وتقبل الفيلم في الأوساط الثقافية العربية على أنه اعتراف رسمي من قبل الإسرائيليين بتورطهم بالمجزرة، لكن علينا أن لا ننسى ما عودتنا عليه معظم التجارب الإبداعية الإسرائيلية وأصحابها التي لا تخلو من رسائل مبطنة تخدم قضيتهم وممارسات حكوماتهم الإجرامية المتلاحقة.
أنس زرزر
نشرت في مجلة الأزمنة السورية
إضافة تعليق جديد