«الناتو» يتجهّز لـلتدخل بزعم «نشر الاستقرار وتنفيذ السلام الفدرالي في سوريا»
ستكون الحرب السورية قضيةً ساخنةً على طاولة زعماء حلف «الناتو»، خلال قمتهم المرتقبة في العاصمة البولندية وارسو.
تباشير العيار الثقيل لذلك الحضور بدأت بالظهور. قيادة «الأطلسي» تطرح التجهيز لنشر قوات كبيرة، اقتداءً بمهام قام بها الحلف بعد اتفاقات سلام دولية سابقاً، في حين تؤكد واشنطن الحاجة لدور «الناتو» في مهام إحلال الاستقرار بعد انتهاء عمليات عسكرية. كل ذلك، وسط تزايد حضور القدر «الفدرالي»، وحديث قيادات معارضةٍ عن مساعي واشنطن وموسكو لترسيم حدود نفوذهما السوري.
العبارات الأكثر ترداداً، خلال الاجتماع الأخير لوزراء خارجية «الناتو»، كانت «نشر الاستقرار» في جوار الحلف. كان يمكن عدم الاكتراث، وضع القضية في خانة التهويل، لو أن من يطرحها ليس الأمين العام لحلف «الأطلسي» ينس ستولتنبرغ. تصريحات الرجل واعلاناته تتحرك بحذر وتحفّظ شديدين، لدرجةٍ تجعل أخذ خبر منه مشقةً حقيقية للصحافيين. لكنه هذه المرة قال شيئاً نافراً، خارجاً عن كل سياق، ويتضارب مع النأي الأطلسي عن الحرب على تنظيم «داعش».
حينما سئل عن المساهمات العسكرية الممكنة للحلف، لمواجهة «داعش» كما طلبت واشنطن، شدّد على أن المسألة تتجاوز ذلك لتكون أحد المحاور الرئيسية لتحرك أوسع سيشغل «الأطلسي». لفت إلى أن «أحد محاور القمة المقبلة في تموز (لقادة دول الحلف) ستكون ما نسميه «نشر الاستقرار» ما وراء حدودنا، وهذا متصل كثيراً بالقتال ضد داعش»، ليكشف أن «الرسالة الرئيسية هنا هي أنه على الناتو أن يكون جاهزاً وقادراً على ارسال عدد كبير من القوات المقاتلة إلى منطقة عمليات أيضاً في المستقبل، كما فعلنا في البلقان، في البوسنة والهرسك وكوسوفو، أو في أفغانستان».
العمليات التي ذكرها ستولتنبرغ للمقارنة شهدت نشر عدد كبير من القوات الأطلسية، خصوصاً بعد التوصل لاتفاقات سلام أنهت حروباً في جواره. بداية العام 1995، قاد «الناتو» 60 ألف عسكري بوصفها «قوة تطبيق العقوبات» الدولية بعد حرب البوسنة، لتتحول بعد عام إلى قوة من 31 ألفاً لمراقبة تطبيق «اتفاقية دايتون» التي أنهت حروب انفصال جمهورية يوغسلافيا السابقة.
تكرر الأمر بعد حملة القصف الجوي الأطلسية ضد صربيا في 1999. قاد «الناتو» قوةً من 50 ألف عسكري لتنفيذ القرارات الأممية، حيث دخلت كوسوفو ثم جرى لاحقاً تقليل عددها لتعمل كقوة «حفظ سلام» مقيمة تعدادها 16 ألفا.
على كل حال، ليس مفهوم «نشر الاستقرار» جديداً على قاموس الحلف. سبق أن شدد عليه حينما نشر «أجندة الدفاع الجديدة» عام 2004، تحت عنوان التحرك الوقائي «للتعامل مع التهديدات» خارج دوله. الأمر يستعاد الآن تحت العنوان ذاته. تكرر في اجتماع وزراء الخارجية أنه «حينما يحلّ الاستقرار في جوارنا، تكون دولنا أكثر أمناً».
جعل الأمين العام للحلف من الواضح للجميع أنه يتحدث عن أداتين منفصلتين لـ «نشر الاستقرار»: تدريب القوات المحلية لتمكينها من محاربة الارهاب، كما يفعل مع القوات العراقية في الأردن، ويدرس نقل التدريب لداخل العراق، لكن إلى جانب ذلك التجهيز لنشر قوات كبيرة. هذا النهج سيضع المنطقة ملفاً رئيسياً في قمة وارسو أوائل تموز.
سياق نشر القوات الكبيرة يبقى محاطاً بغموض الأهداف، فطرحه لم يأت بمعزل عن إعلان الحاجة لمهام عملية متصلة تمت مطالبة «الناتو» بالقيام بها.
لو أن الأمر يتعلق بالتخطيط لنشر القوات، فذلك لا يعني بالضرورة عمليات مرتقبة. قرر «الأطلسي»، مثلاً، مؤخراً، الحاجة لقوات رد سريع عالية الجاهزية، تتقدمها قوات رأس حربة، ثم جرت مناورات لتحقيق جاهزيتها. تم الاعلان أنها وجدت للرد على التهديدات القادمة من «الشرق والجنوب»، أي روسيا والمنظمات الارهابية، لكن لم ترسل لمهام عملية. لكن الأمر في حالة طرح القوات الكبيرة لـ «نشر الاستقرار» مختلف.
قبيل خروج ذلك الطرح مفصّلاً، وقف وزير الخارجية الأميركي جون كيري على المنبر ذاته معلناً الحاجة لقيام الحلف بمهام محددة، خصوصاً لدعم «التحالف الدولي ضد داعش» بقيادة واشنطن، من بينها مرحلة ما بعد إنتهاء القتال. خلال استعراضه لتلك المهام، في إطار الدور «التكميلي» وليس القتالي، أشار خصوصاً إلى أنه «لدى حلف الناتو قدرات معينة تمكنه من القيام ببعض العمل في ما يتعلق بتخصيص الموارد، ونقلها ونشرها من أجل المساعدة في عملية إحلال الاستقرار في أعقاب تحرير المجتمع المحلي».
ليس واضحاً بالضبط حجم التقاطع بين مطالب كيري وإعلانات أمين عام «الأطلسي»، لكن الأمثلة التي طرحها الأخير ارتبط بعضها بمهمة معقدة لتطبيق فدرالية البوسنة والهرسك. أعطت اتفاقية «دايتون» لصرب البوسنة حكماً ذاتياً واسعاً داخل إطار الدولة، وحتى الآن يطلقون عليها تسمية «جمهورية صربسكا»، ولها ممثليات خاصة في الخارج.
هناك إحالات عديدة تقرب ذلك النموذج من الحالة السورية تحديداً. كثيراً ما تمت مقارنة الحرب في سوريا بالحرب اليوغوسلافية، خصوصاً لجهة التشابك العرقي والطائفي المتصل أيضاً بالتحالفات الخارجية. تتقاطع معطيات تنقلها قيادات معارضة، من تحالفات سياسية مختلفة، على أن المرحلة الحالية يطبعها سعي أميركي ـ روسي مشترك لتجميد خطوط تماس بين أطراف الصراع السوري.
يقول قيادي معارض، قريب من الخليج وتركيا، إن «ما نراه أن واشنطن وموسكو تسعيان لتجميد خطوط تماس يبنون الاتفاقات على أساسها. يتركون هامشاً لمعارك تؤدي لبعض الانزياحات، لكنهم يعودون لتجميد خطوط التماس». قيادي من تحالف سياسي آخر يذهب أبعد من ذلك. يقول إن «العملية التي نُحّس أنها جارية الآن هي أقرب لعملية ترسيم حدود النفوذ بين روسيا وأميركا».
الفدرالية السورية لم تعد مجرد فكرة حائمة فوق الصراع، بعدما باتت أقرب لقدر معلن على أقل تقدير. الأكراد السوريون أعلنوا «النظام الفدرالي» لمناطقهم في الشمال بحكم الأمر الواقع. موسكو أكدت أن الدولة «الفدرالية» مطروحة جدياً، ليؤكد ذلك ما تسرّب حول المشروع الروسي للدستور السوري، مع وضعه ما سماه «جمعية الأقاليم» كأحد الرؤوس المهمّة للحكم.
على كل حال، معظم الاتفاقيات التي تنهي الحروب المرعية دولياً، من نوع الحالة السورية، يجري تثبيتها بقرارات دولية. سابقاً، انطلق «الاطلسي» لتنفيذ مهام، كالتي يتحدث عنها اليوم أمينه العام، تحت مظلة تنفيذ تلك القرارات. هناك من يطرح دائماً التواجد العسكري الروسي في سوريا كتحدٍّ معطّل، لكن هذا التواجد لم يكن في السابق عائقاً أمام تلك المهام الأطلسية، إذ يبقى مثال كوسوفو نموذجاً للعمل المتزاحم بين الخصمين.
حينما دخلت قوات «الناتو» كوسوفو، سارعت روسيا لإرسال قواتها إلى هناك. كانت قوات «الناتو» تواصل انتشارها، لكن موسكو سبقتها لنشر قوة في مطار العاصمة بريشتينا. كاد الاحتكاك بين الوحدات في المطار يؤدي إلى صدام عسكري. جرى في النهاية عقد اتفاقات عملت بموجبها القوات الروسية كوحدة ضمن قوة حفظ السلام في كوسوفو، من دون أن تكون تحت هيكل قيادة «الناتو».
حتى الآن، أظهرت تركيا معارضة لدور أكبر لـ «الناتو» في الحرب السورية، الأمر الذي بدأ يظهر علناً باحتجاج كيري أن قدرات الحلف «يجب ألا يتم تنحيتها جانباً» في «معركة التزمنا جميعاً بالفوز بها».
تلك الاعتراضات التركية حاول تفسيرها الخبير أيان ليزر، المدير التنفيذي لمؤسسة «عبر الأطسي» ومسؤول سياسة الأمن والدفاع. تحدث في ورقة بحثية نشرها أخيراً عن «قلة حماس» انقرة تجاه دور أكبر لـ «الناتو» في سوريا والعراق، معيداً ذلك إلى «رغبة تركيا في إدارة هذه الصراعات الطويلة الأمد بشكل متخفف من الأعباء التي يفرضها صنع القرار في الحلف» الأطلسي، قبل أن يوضح أن ذلك «يعكس ببساطة» اعتقاد تركيا بأنها «ليست على نفس الصفحة» مع دول الأطلسي الأخرى حينما يتعلق الأمر بسوريا رغم كونهم كذلك حيال روسيا.
يعمل ليزر في مؤسسة تروج لأهمية دور «الناتو» والشراكة العابرة للأطلسي. حينما سألناه حول طرح أمين عام الحلف لمسألة «نشر قوات كبيرة»، مقتدياً بنماذج البوسنة والبلقان، قال بعد تأمّل إنه «من المستحيل التكهّن»، قبل أن يضيف «الناتو يتحرك بناء على الاجماع، وأخذ مبادرة من ذلك النوع سيتطلب اجماعاً فوق العادة داخل الحلف، وبالتأكيد الحالة ليست كذلك الآن. لكن أعتقد ان هناك نقاشا أكثر نشاطاً داخل الناتو، وفي دول الحلف، حول الحاجة لقدرات من أجل إدارة الأزمات والرد السريع ليس فقط في الشرق لكن أيضا في الجنوب».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد