«بـراءة المسلميـن» فـي صورتيـن

20-10-2012

«بـراءة المسلميـن» فـي صورتيـن

1ـ بين الفني والسياسي

أثار فيلم براءة المسلمين المسيء الى النبي محمد موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية في العالمين العربي والإسلامي. وترافقت الاحتجاجات مع مواقف متباينة اتخذتها نخب فكرية وسياسية من الفيلم. وقد تراوحت مواقفها بين من قدح العمل فنياً ونعته بأوصاف تحقيرية ورأى تالياً أنه لا يستدعي أي احتجاج او تحرك. ومن أدان الفيلم بأقذع العبارات واعترض على التحرك، وأدان اشكاله العنفية في الوقت عينه. ومن ذهب الى تسييس الواقعة ودعا الى الاحتجاج ومواصلة التحرك ودرء «الاعتداء الغربي» على المسلمين.
وجاء هذا التباين المؤمثل يعبر عن وجهيْن في السياسي. فالقدح والادانة المزدوجة يخفيان تبعية أصحابهما الى اميركا، والتابع يتوسل رضا المتبوع، ولا يبغي ازعاج خاطره «الامبراطوري». والحضّ على التحرك يستبطن مناهضة دعاته لاميركا ولسياستها الكولونيالية في المنطقة. والداعية قد يستثمر الحدث ويحمّله ما لا يحتمل بذاته. ومع تينك الحاليْن يكون السياسي قد انزاح بالفيلم وبما يشاكله من أعمال فنية الى ما ليس يحمل اليه في الأصل. فـ«براءة المسلمين»، هو لا مراء براء من أي قول فني فيه. ذلك أن طبقته التحتية لا ترتكز على المستوى الفني أياً تكن طبيعته، كما لا تتأسس على السياسي المباشر الذي أظهرته ردود الفعل كأنه العمق الكامن وراء إنتاجه وإخراجه...

2ـ نظر حفري

والحال، فإن النظر الحفري في الفيلم، يجد أن طبقته التحتية تحمل الى قضية ثقافية موصوفة، ما زالت حاضرة في جعبة أوساط غربية واسعة من أهل الفكر والصحافة والفن والأدب. وليس عسير المنال هنا، ان يكشف الوصف الظاهراتي أن هذه القضية تضرب جذورها في تربة الفكر الاستشراقي، وأن فروعها تعانق السياسي الكولونيالي في الغرب. وفي نطاق هذا وذاك توّلدت الانوية الغربية من حيث كونها رؤية في جوهرانية الأنا عند الغربي وعرضية ذات الآخر غير الغربي.
وعلى هذا، بنى الاستشراق مقولاته في الزمن الحديث. ومما ورد فيها: إن الغرب هو ذات التاريخ او فاعله المحوري، وإن العقل يحقق غاية صيرورته في رحابه. وهذه الغاية تتبدى في جوانب منها في الحرية والعلم والتقدم. فيغدو الغربي في ضوئها متميزاً بعقل تحليلي تركيبي- يجيد التجريد في ابواب المعرفة كلها، ومنطبعاً بالمبادرة العلمية وملكة التنظيم والقدرة على التراكم...
وفي المقابل أوردت: ان الشرق هو موضوع التاريخ، وهو منفعل بالمجرى الذي يصنعه الفاعل، وان العقل فيه لا يتوافر على صيرورة غائية، بل هو أشبه بعابر سبيل في ديار الله! وبذلك كان الشرق يتخلّق بالاستبداد والغيب والزمن التراوحي، وكان الشرقي يتميّز بعقل انطباعي سردي لا يحسن التنظير والتعميم، بل يغرق في المحسوس والجزئي، ويخضع الى الغريزة والانفعال، ويلجأ الى الغيب ويجانب التنظيم ويعجز عن مراكمة الخبرة والعمل.
وهكــذا، إذا كان الغرب أن التاريـــخ وفاعله، والــشرق موضوعه؛ فقد حق لهذه الأنا أن تعيـــد تشكيل موضوعها وفــاق هيئتها الحضارية. أو بتعبير آخر، لقد امتــلك الغربي «حــق التفوق الابدي» على الموضــوع. فأجازت له طبيــعته المتفوقة أن يستعلي على الشرقي وان يســيطر عليه ابتغاء تمدينه او تحضيره، أو للدقة ابتغــاء ترويضه في خدمة مصالحه العــليا. ولعــل هذا ما يحــيل الى الأرومة الايـديولوجية للاستعمار الكلاسيكي الذي صنع التدمير في بلادنا باسم التمدين وأثقل علينا بعقل عنفـي تحـت عنـوان التحضـير...
تلك هي النمطية التي بناها الاستشراق عن الإنسان الشرقي وتحديداً عن العربي والمسلم. وهذه الصورة حفظت في خزانة الفكر الاستشراقي من ارنست رينان الى برنارد لويس... ثم مرّ زمن اعتقدنا فيه بصدق أن تنميط غير الغربي في فكره وسلوكه، أصبح من الماضي أو أن مرحلة الاستشراق الكلاسيكي قد انطوت الى غير رجعة بعد أن شهد العالم وبخاصة في الطور الراهن للعولمة، نتاجات نوعية في منظومات الفكر والثقافة من مثل: التواصلية، والتبادلية، والنسبية الثقافية واحترام خصوصية الآخر المختلف في دينه وثقافته وعرقه، والوحدة من داخل التنوع، والتنوع من داخل الوحدة، والمشتركات الحضارية بين الشعوب، وغنى البشرية في المشترك والمختلف بينها، والجدل الواسع والغني بين الكوني والمحلي... لكن يبدو أن اعتقادنا صدر عن شرقي صدّق أن ماء الاطلسي أصبحت صافية بين ضفتيه. ثم ما لبث ان وجد أن عكرها ما زال ينسرب في الأعماق. وبلغه أخرى، أن التنميط الاستشراقي للعربي والمسلم ما فتئ حياً في ملامحه العامة، وقد أضيفت اليه قسمات ما بعد حداثية جديدة. فُصنّفت شعوب الشرق في المنطق الما بعد حداثي، قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وإثنيات، وقرّت صورة العربي والمسلم في خلد دوائر ثقافية وسياسية غربية، على صفات الحسي والغرائزي والعدواني والفوضوي والمتطرف والإرهابي والعنفي..
إنها الملامح والقسمات التي استقى منها الفيلم ثقافته النمطية في علاقته مع العربي المسلم. وهذه الثقافة هي التي تسوّغ امتهان مقدسات الأخير وتحقيرها، مثلما تسوّغ السيطرة المعولمة أمنياً وعسكرياً عليه. والطريف في هذا الباب، ان الغرب الكولونيالي أدان الفيلم ودافع عن حرية التعبير في بلاده في آن. لكن ما فوّته عن قصد أن ما يفاخر به من حريات لا يعدو عن كونه انتقائياً عندما يتعلق الأمر بالعربي والمسلم. ذلك ان انتقائيته تصدر عن الثقافة نفسها التي طبعت مضمون «براءة المسلمين». فمن ينظر في محيّا بعض حكّام الغرب، يجد ان برنارد لويس رسم على وجوههم أمارات التفوق والاستعلاء على غير الغربي. ثم ترك عليها مسحة عميقة من غبار الحروب الصليبية...

3ـ صفحة مقابلة

وفي صفحة مقابلة، لم يقدّم البعض من الحركات الاسلامية المعاصرة، او ما بات يعرف اصطلاحاً بالاسلام السياسي، صورة زاهية عن الاسلام. إذ إنه انتج اسلاماً بكيفية منمطة في الفكر وفي السلوك. وهي كيفية تمتلئ بالتمذهب والإقصاء وفوضى الفتاوى ومسالك التشدد والتطرف، فإذا كان المذهب قولاً تأويلياً في الدين، وهذا قول مشروع يتأتى عن جدل المجتمع والفكر، وينفتح على الاعتراف بالآخر، فإن التمذهب عند ذاك البعض هو قول منغلق على حرفية النص الديني، لا يأخذ بجدل او يقف عند صيرورة، بل يسكن في القشرة ويدعي أنه في اللب؛ الأمر الذي يجعله اقصاءً على المطلوب للآخر المختلف في الفكر والدين والمذهب. ومما قاد اليه التمذهب في المعيش: ان يُستظهر الحديث النبوي دوغمائياً، بأن ثمة اسلاماً صحيحاً تحتكره الفرقة الناجية، واسلاماً منحرفاً تُرمى به الفرق الأخرى. وان تنتعش «فرقة» فسطاطية تشطر الخلق الى ثنائية الكفر والإيمان وتُدخله في ديناميات التحارب. لذا، لا يعود مستغرباً ان يتحول الشهرستاني والبغدادي الى مرجعية دينية معاصرة، وأن تبقى صفين حيّة في أوساط ليست قليلة من المسلمين، وأن يظل تقذيع بعض الشخصيات الاسلامية التاريخية جارياً على ألسنة أوساط أخرى.
أما مؤدى الانغلاق الدوغمائي، فهو انحطاط فكري وأخلاقي في ضروب «الإفتاء» وموضوعاته. ففي عصر التواصل الالكتروني وزمن الثورة المعرفية، ينشغل بعض الاسلام السياسي في فتاوى الإرضاع واشكال النكاح، وعلاقة المرأة بالمذكر من الأشياء، وبالمؤنث منها...الخ. والغريب بعد «افتاء» كهذا ان ينبري مفتٍ مفوّه يحدثك عن حرية المرأة في الاسلام، ويعظك بأن الغربي مادي وحسي وشهواني، وان الشرقي روحاني، وهو على حشمة وزهد بالغين. ثم تراه يمتدح شهوة القتل التي فتكت بالحلاّج والسهروردي.. إنها الحرفية البائسة والشكلانية الفارغة التي تستكين الى منطق الكهف وأوهام القبيلة...
إذن، العربي أو المسلم الذي يشمله التنميط أعلاه يتميز بصفات المتمذهب والفسطاطي والإقصائي والحسي والغرائزي. وهذه الصورة وجدت رواجها غير المسبوق في الغرب تحت مسمى «الاسلاموفوبيا». وقد أمكنها أن تزيح او أن تهمّش كل صورة مغايرة لها عن الاسلام، وبخاصة صورة الاصلاح الديني منذ أعلامه النهوضيين حتى أعلامه المعاصرين. فكان أن أزاحت محمد عبده وعبد الله العلايلي ...الخ الى الخلف، وعرضت بن لادن والظواهري شبه وحيدين عن المشهد المشرقي... وفي الجهة الأخرى كان الغرب الكولونيالي يستدعي صورة الاسلام التنميطي ـ الانغلاقي، لكي يبرّر سيطرته على العرب والمسلمين. إذ أنه لا يستطيع ان يحقق اشباعاً كاملاً لذاته من غير اخضاع الآخر والسيطرة الكولونيالية عليه. كما كان الفكر الاستشراقي يتشوق اليها لكي يرسّخ صورته عن العربي والمسلم ويسوّغ طروحاته حول ذات التاريخ أو انويته الحضارية.
وهكذا، تظهر صورتا الاستشراق ما بعد»الحداثي» والاسلام التنميطي ـ الانغلاقي متكاملتين . فكل صورة منهما تشكل القفا الحقيقي للأخرى. ذلك أن مصدريهما يحملان الى العنف سواء الرمزي أم المادي، ويتماثلان في نمط التفكير الذي يتأسس على مسبقات أيديولوجية تقطع في الصدق واليقين. فيزعمان امتلاك الحقيقة، ويرشقان كل مخالف لهما بالزيغ والضلال. ومن يغره هذا الزعم يتجرأ على المعتقدات الدينية للآخر ولا يتورع عن قذف انبيائه ومحرماته. ما جعل ثقافة الاستشراق «الحداثية» ومن ثم ثقافة الفيلم ما بعد الحداثية، تنطويان على امتهان نبي العرب والمسلمين. لكن هذه الإساءة جاءت في ظل تقاطع الاسلام التنميطي المعاصر مع الاستشراق ما بعد الحداثي، وبعد ان قدّم هذا الاسلام «ابداعاته الفكرية في علم التمذهب والجنسانية»! أو بمعنى آخر، بعد أن عرّض مقدساته نفسها للتقذيع والامتهان...
أخيراً، إذا شاء أحدهم ان يتعرّف الى الملموس إزاء ما سبق، فما عليه إلا ان يشهد حول العلاقة مع الآخر المختلف، حواراً لغربي استشراقي وآخر لإسلامي انغلاقي. فمع كليهما لن يجد أي منطق متسق في الحوار، بل يستمع الى لغة الاعتداد الأجوف بالنفس والاستعلاء المرَضي على الآخر، وأفضلية كل منهما في فهم الحق والحقيقة واجتراح الحلول النهائية لمشاكل الخلق في الدين والدنيا...
الإثـنان يعـرضان عن اي منطـق بنائـي مفتوح، ويقيمان في كهف فكري مظلم لا ينـتج سوى التهيئة الدورية للحرب المتبادلة بين الشعوب.

فؤاد خليل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...