«ولادة أمة بغالبية مسلمة في أوروبا»
في الربع الأخير من القرن العشرين، ومع التطورات التي شهدها البلقان من ظهور جديد للماركسية بمسحة قومية وبروز نزعة دينية قومية جديدة وانهيار الأنظمة الحاكمة باسم الايديولوجية الماركسية وظهور موجة جديدة من القومية الاثنية التي لجأت الى العنف للتخلص من الآخر(التطهير الاثني)، ظهر لدينا جيل جديد من الباحثين الأوروبيين والأميركيين الذين تخصصوا في البلقان وأوضاع المسلمين فيه مثل المؤرخ البريطاني نويل مالكوم والمؤرخة الفرنسية ناتالي كلير والمؤرخ الاميركي روبرت دنيا وغيرهم.
ومن بين هؤلاء تخصصت كلير مديرة مركز الدراسات التركية والعثمانية في باريس بألبانيا باعتبارها أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة تمخضت في 1912 عن الوجود العثماني الطويل في البلقان الذي استمر حوالى 500 سنة، وبالتحديد في وضع الاسلام والمسلمين فيها، ونشرت في هذا المجال دراسات مرجعية عدة في الوقت الذي كان العالم لا يعرف الا القليل عن ألبانيا الخوجوية المعزولة عن العالم. فقد نشرت في 1990 كتابها «ألبانيا بلد الدراويش» وأصدرت في 2001 بالاشتراك مع هافير بوغارل «الاسلام البلقاني الجديد» بينما نشرت في 2003 كتابها «الدين والقومية عند الالبان خلال القرنين 19-20». وفي هذا السياق فقد عملت كلير في السنوات العشر الاخيرة على انجاز كتابها الجديد الذي صدر أولاً بالفرنسية خلال 2007 بينما صدر الآن بالالبانية في تيرانا عن دار نشر «بربييكيا» التي يديرها الكاتب والناشر الالباني المعروف فاتوس لوبونيا.
وفاتوس لوبونيا من ضحايا النظام الخوجوي السابق في ألبانيا الذي كان يحتكر الحقيقة والسلطة، وقضى في سجونه 17 سنة، ولذلك فقد آل على نفسه من خلال مجلته الرائدة «بربييكيا» ودار النشر التي أسسها أن يعرّف الألبان على تاريخهم في شكل مختلف عما عرفوه خلال نصف قرن من حكم النظام الشيوعي (1944-1992).
وكان نظام أنور خوجا (1908-1985) قد تطرف في موقفه من الدين أكثر من أي نظام آخر في العالم الشيوعي وأصدر في 1967 «مرسوم منع الدين» التي أعلنت بموجبه ألبانيا «أول دولة إلحادية في العالم». ومن هنا فقد كان من الطبيعي أن يقدم التاريخ الرسمي، الذي تستلهمه الكتب المدرسية والجامعية، صورة أحادية وغير موضوعية عن الاسلام ودوره في التاريخ الألباني الحديث والمعاصر.
وعلى اعتبار أن ألبانيا كانت أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة (70 في المئة مسلمون سنّة وبكتاشية، 20 في المئة اورثوذكس و 10 في المئة كاثوليك) فقد اهتمت المؤرخة بهذه الظاهرة الفريدة (ولادة أمة بغالبية مسلمة في أوروبا)، واعترفت بأن اهتمامها بالبكتاشية في ألبانيا هو الذي قادها الى هذا الموضوع نظراً للدور الذي لعبته هذه الطائفة في الحركة القومية الالبانية. فقد تأخرت الحركة القومية عند الألبان بالمقارنة مع الجوار البلقاني الى أن استوعبت الغالبية المسلمة المستجدات وشاركت مع الاقلية المسيحية في صوغ مشروع قومي مشترك يقوم على ما هو مشترك (الارض واللغة والثقافة) وليس على ما هو مختلف عليه (الدين).
ولأجل انجاز كتابها، اشتغلت كلير سنوات في مراكز الوثائق العثمانية والاوروبية المعنية بألبانيا والالبان (النمسوية والايطالية والفرنسية) واستفادت من كتب الرحالة الاوروبيين الذين زاروا ألبانيا خلال الحكم العثماني ومن الصحافة الالبانية الناشئة التي أخذت تعبر عن المتغيرات الجديدة، كما اعتمدت على مؤلفات النخبة الالبانية الصاعدة التي تآلفت حول المشروع القومي الالباني واشتغلت على صوغ هوية قومية متميزة للالبان بغض النظر عن الدين المشترك الذي كان يربطهم بالعثمانيين (الاسلام).
وبالمقارنة مع التاريخ الشائع عند الالبان الذي يأخذ عام 1878 كبداية لتبلور الحركة القومية الالبانية (رابطة بريزرن الالبانية) تفضّل كلير أن تؤجل هذه البداية الى نهاية القرن التاسع عشر، الذي شهد الحرب العثمانية - اليونانية وتصاعد المعارضة ضد السلطان عبدالحميد الثاني وصدور الكتاب المهم «ألبانيا في الماضي والحاضر والمستقبل» لشمس الدين سامي فراشري الذي أصبح يعتبر «منظّر القومية الالبانية». ومن ناحية أخرى تعترف كلير بدور العامل الخارجي في ذلك الوقت، الذي لم يكن يقرّ به التاريخ الالباني الرسمي، وبالتحديد انخراط النمسا وايطاليا في تشجيع الالبان على بلورة هوية قومية ألبانية لأن ذلك كان يخدم مصالحها في المنطقة (شبه جزيرة البلقان).
وفي ما يتعلق بالهوية القومية الالبانية ترفض كلير الصورة الشائعة في التاريخ الالباني الشائع الذي يوحي بأنه كان هناك خطاب واحد لا مكان فيه للدين كما يبدو في بيت الشعر المعروف لفاسكو باشا «دين الالباني هو الالبانوية»، بل تعتبر أنه كان هناك اشكال مختلفة للخطاب القومي الالباني وفي بعضها كان «الدين أو المكون الديني مهماً».
وتعترف كلير أن «الاسلام لم يكن مقبولاً في أوروبا» ولذلك فقد سعت النخبة الالبانية الجديدة الى التركيز على أن الالبان هم من أقدم الشعوب في أوروبا وعلى أن «الالبان هم بغالبيتهم من المسلمين ولكن اسلامهم يختلف عن الاسلام التركي». وبعبارة أخرى تقول كلير انه كانت هناك محاولات ألبانية باستمرار للتأكيد أن «اسلام الالبان ليس هو الاسلام العنيف»، وحتى أن قادة الدولة الالبانية الجديدة التي أعلنت استقلالها في 1912 كانوا «يحاولون تفسير أن هذه الدولة الجديدة في البلقان ليست مسلمة» لكي تكون مقبولة أكثر.
وفي هذا السياق تصل كلير الى أن ما يميز حكام ألبانيا في القرن العشرين هو اجماعهم على نفي أو تجاهل أهمية الاسلام، وفي ذلك لا يختلف نظام الملك أحمد زوغو عن «نظام الدكتاتور أنور خوجا» الذي تعتبره العهد الابرز لـ «الهوية القومية الالبانية» مع أنه كان يحكم باسم الماركسية. وتعي أخيراً كلير الى أن ما في هذا الكتاب سيصدم بعض القراء في ألبانيا الذين نشأوا على «حقائق» أخرى بحسب التاريخ الالباني الشائع وتتوقع أن يثير كتابها نقاشاً في ألبانيا، ولكنها تتمنى أن يكون هذا النقاش «علمياً وليس سجالياً لكي تزيد بعض الصحف مبيعاتها».
ومن المأمول أن يساهم كتاب كلير في النقاش الذي بدأ مؤخراً في ألبانيا مع نشر بعض الكتب المترجمة عن التاريخ الالباني التي تقدم للالبان صورة مختلفة لتاريخهم عما هو معروف لديهم، وبخاصة حول بعض الشخصيات التي بنيت عليها الهوية القومية الالبانية (جورج كاستريوت المشهور باسم اسكندر بك وعلي باشا يانينا الخ). واذا كانت ترجمة هذا الكتاب مفيدة للالبان فإن ترجمته الى العربية مفيدة للقراء العرب لأنه يعبر عن تجربة تاريخية مهمة كانت معروفة لدى النخبة العربية الجديدة (شكري العسلي وساطع الحصري الخ) التي سعت الى هدف مماثل في مطلع القرن العشرين.
محمد الأرناؤوط
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد