أزمة الدراما أم أزمة الأيديولوجيا؟!
في فترة ما اكتشفت من خلال تتبع الصحافة الرسمية في سورية، أن البلد تحفل يومياً بالعديد من المهرجانات واللقاءات والمؤتمرات العلمية والأدبية والسياسية والفكرية، فأنت تقرأ في كل يوم عن مؤتمر أو ندوة لمناقشة أمرٍ مهم أو طارئ في شتى مجالات حيواتنا اليومية، والتي تعجز عن توقع وجودها، كما تعجز عن القيام بإحصاء دقيق لها حتى لو عرضت الأمر على أي برنامج كمبيوتر أو 'حاسوب' وفق التعريب الذي تطالب به جهات رسمية لغاية يعجز الحاسوب نفسه عن إدراكها.
وكي لا نتهم بالمبالغة استطيع قراءة بعض 'مانشيتات' الصحف التي تتوزع فوق مكتبي مثلاً: انطلاق المهرجان الطفولي للتوعية المائية، مؤتمر الصحة الفموية، ندوة البيئة والتنوع الحيوي، اجتماعات منظمة المرأة العربية، ورشة عمل حول حماية المستهلك، آفاق الصراع العربي - الصهيوني، ندوة 'مرصد اللغة العربية وآفاق التعريب'، تمكين المرأة وحماية الأسرة، الاستطبابات الجديدة في الجراحة النسائية، الاجتماع السنوي لاتحاد هيئات الأوراق المالية العربية، ملتقى رجال الأعمال السوري - التركي، مشروع قانون دعم الصناعات الناشئة، وأخيراً وليس آخراً 'ملتقى الدراما السوري الأول'.
ومع أنني لا أريد أن أبخس هذه العناوين والموضوعات شيئاً من أهميتها، إلا أننا نكتشف شكلانية هذه الظاهرة المهرجانية، إن صحّ التعبير، حيث لا يبدو عقد المؤتمر أو المهرجان دليل صحة وعافية، ولا يبدو محاولة لتقصي جوانب المسألة بغية تجاوز سلبياتها، بقدر ما هي - أي الظاهرة المهرجانية- آلية لرفع العتب عن كواهل بعض الإدارات المتقاعسة أصلاً، فيأتي المهرجان لتبادل بعض الخطب العصماء، في أمّة تهوى الإنشاء والبيان، وكفى الله المؤمنين شرّ العمل.
أسوق هذه المقدمة الطويلة لأبرّر توقفي مع ملتقى الدراما السورية الأوّل، ليس من باب التشكيك بالنوايا، بقدرما هي محاولة توطين نفسي على خفض التوقعات المرجوة من أي لقاء أو مهرجان، مهما دبج منظموه من نعوت علمية أو عملية في توصيفه وفي تأطيره، فالعلم في بلادنا يكاد يقتصرعلى علم الغيبيات، ومن هنا تبرز أهميّة ماغي فرح وأخواتها من العالمات في علم الفلك والأبراج، وهو سيد العلوم، مع الاعتذار منهنّ سلفاً لما يمكن أن تشي به لفظة 'العالمات' في اللهجة المصرية كجمع مؤنث سالم للفظة 'العالمة' والتي تجمع عادة جمع تكسير فتصبح 'عوالم'.
أعود إلى ملتقى الدراما السورية الأول والذي قلت في حينها أنه: 'خطوة مهمة للتفكير بصوت مرتفع وبموضوع طال انتظاره' إذ خرج بمجموعة من التوصيات والاقتراحات التي قد نتفق أو نختلف بشأنها، لكنني في كلا الحالتين لا أستطيع أن أكون متفائلاً في أن تتجاوز تلك التوصيات عتبة الصياغة الإنشائية التي اشتغل عليها بكثير من الحماس وحسن النيّة مدير الإنتاج في التلفزيون السوري المخرج فراس دهني، باتجاه أي خطوة ملموسة أو برنامج عملي لتحقيق ما نصّت عليه توصيات الملتقى أو الاقتراحات النهائية. رغم أنّ السيد وزير الإعلام الدكتور مُحسن بلال، وهو طبيب في الجراحة العامة، لمن لا يعرف مجال اختصاصه، يؤكد على وجود استعداد لتقديم كل ما يُطلب لخدمة الدراما في سبيل ارتقائها لتصبح صناعة، مُشيراً إلى أنّه يتم الآن دراسة تشريع قانون لإحداث مؤسسة عامة للدراما السورية.
وقد فاجأنا حديث السيد وزير الإعلام بداية حين اعترف أنّ الدراما السورية لم تصبح صناعة بعد، فيما أعادنا في الشق الآخر من حديثه والمتعلّق بإحداث مؤسسة عامة للدراما السورية إلى المربع الأول للإشكالية التي نحن بصددها، والتي دفعت كلاً من الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون والمؤسسة العربية للإعلان، وكلاهما تابعتان لوزارة الإعلام، بالتعاون مع لجنة صناعة السينما والتلفزيون في غرفة الصناعة إلى عقد هذا الملتقى، الذي أكدّ في توصياته الختامية وفي الفقرة التاسعة تحديداً على:
- الدعوة إلى إنشاء مؤسسة حكومية مُتخصّصة في الإنتاج الدرامي ومستقلة عن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، بمعنى الاستقلال الإداري والمالي، إذ أنّ اللوائح المالية الناظمة لعمل الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون كانت منذ سنوات طويلة أحد أسباب أزمة الدراما التي نتحدث عنها الآن، وقد يتساءل بعض العاملين في الإنتاج الدرامي الخاص بشيء من التحفظ: ماذا يحصل عندما تتحوّل مديرية الإنتاج في التلفزيون السوري إلى هيئة مُتخصّصة؟ حتى لو جاءت مستقلة مالياً وإدارياً، وحتى لو امتلكت قناة بث خاصة بها باسم قناة 'سورية دراما' التي حملت هذا المشروع جنينياً في لحظة ولادتها المتأخرة. والسؤال: ما الذي يمنع انتقال الإرث البيروقراطي الوظيفي من الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بكل أوجاعها وشجونها إلى الهيئة العتيدة المتخصّصة بالإنتاج؟!
الفنان أيمن زيدان هو أحد المشتغلين في الإنتاج الخاص يُعلن صراحة رفضه فكـــــرة إنشاء هيئة مستقلة للإنتاج الدرامي على غرار الحالـــة الموجودة في مصر، أي قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري، لأنّ الدولـة في مصر هيمنت على الإنتاج، مع أنّ هذا المثال قد يكون له إيجابياته الأخرى التي بقينا نتغنى ونحلم بها لعقود خلت، آملين أن تحل لنا إشكالية التوزيع بأقل تعديل، وهذه قضية أخرى تبدو مفاتيحها داخل الدراما السورية وخارجها بآنٍ معاً.
لكن مما هو واضح جداً أنّ رهاب المأسسة ما زال يشكل حالة 'فوبيا' لدى المبدعين، وأن تجارب الماضي الطويل لا تدفع على التفاؤل، وها هو نقيب الفنانين سابقاً أسعد فضة يبق البحصة أخيراً، محملاً تلك المؤسسات وزر ما آلت إليه حال الدراما السورية بسبب غياب المناخات الصحية التي تشجع على التقدم، قائلا 'ليس لدينا مؤسسة في القطاع العام ولا في الخاص في سورية، والصناعة تحتاج إلى مؤسسة، ومنذ 25 سنة ونحن نتكلم بهذا الخصوص ولم نصل إلى شيء' مضيفاً 'أن الإنتاج الدرامي في التلفزيون السوري يتراجع، وهو الذي كان يتصدى للأعمال الكبيرة التي ينصرف عنها القطاع الخاص'، وذهب فضة الى أبعد من ذلك في فضح الحالة المؤسساتية الراهنة بقوله: إن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ولجنة صناعة السينما 'من دون قوانين والعمل يتم بها بالعرف والتقاليد'
إشكالات أي مأسسة في مجتمعاتنا كثيرة،وليس أقلها إشكالية الرقابة التي فتح النقاش حولها السيناريست نجيب نصير باعتبارها 'متناقضة' تماماً مع المفهوم التغييري الذي يتنكبه الإعلام دوماً، فكيف إذا كانت وزارة الإعلام هي التي تمارس هذه الرقابة وتشرف عليها! وقد أضاف المخرج هيثم حقي أننا 'في عصر الحداثة والتكنولوجيا الرقمية، نواجه رقابة غير حداثية، تؤدي إلى هبوط تدريجي في جودة المنتج الدرامي'.
فإذا كانت وزارة الإعلام ما تزال تعتبر نفسها وكيلاً وحارساً للتابوهات الثلاث: الدين والجنس والسياسة، فإنها ستبقى دخيلة ومعوقة للذهنية المنتجة، وطالب نصير بإلغاء أي رقابة بعيداً عن التعقيم والبسترة، ولمن ينأى بنفسه عمّا يُصور في الدراما أو خارجها فإنّ جهاز الريموت كونترول بيده، يُتيح له أن يتحكم بما يُريد رؤيته أو لا يُريد.
الإشكالية الأخيرة التي أرغب بالتوقف معها في هذا الصدد هي مسألة تقع خارج حقل الدراما تماماً، إلا في رؤية القائمين على الإعلام السوري، إذ لم تكن مُجرّد صدفة أن تقيم صحيفة 'البعث' الرسمية ملتقى للحوار الفكري، استضافت فيه ثلاث نجوم في الدراما السورية هم: أيمن زيدان، جمال سليمان، جيانا عيد لمناقشة 'دور الدراما في المشروع القومي' قبل أيام فقــــط من ملتقى الدراما السورية الأول، لكن المفاجأة أنّ السيـد وزير الإعلام أراد أن 'يُطرنب' الجميع في افتتاح ملتقى الدراما السورية حين عبرعن تطلعاته: لتكون هذه الدراما مؤثرة ليس فقط على المستوى العربي، وإنما على مستوى القرية الكونية.
ومع أنّ السيد الوزير شرح مقاصده وأمانيه بأن نترجم هذه الدراما وتبث في فضائيات العالم ناقلة للشعوب قيمنا الثقافية والحضارية، إلا أننا لا نملك غير الدهشة والتساؤل إزاء هذه التطلعات، فهل كان منتجو مسلسل 'نور' التركي حالمين بترجمته إلى العربية بعدما ترجم إلى الروسية ولغات أخرى في العالم؟ وهل كان منتجو مسلسل 'دالس' الأمريكي مثلاً قاصدين أن يُترجم ويُبث في كل اللغات الحيّة والميتة، وهل كان صناع الدراما من تركيا إلى أمريكا راغبين بأقل القيم الحضارية والثقافية لشعوبهم، وتوزيعها هبات على شعوب العالم! مع أنّ ذلك الأمر قد يحدث، ولكنه في حال حدوثه يكون تحصيل حاصل وليس نتيجة قصدية، أو محصلة توصية لمؤتمر ماسوني أو لجماعة سريّة، خططت وأرادت، ثم فعلت ونجحت بتحقيق أهدافها، لأنّ أي رسالة إعلامية تحمل دلالتها أو الكود الذي سيصل إلى المتلقي، سلباً كان هذا الكود أم إيجاباً، فكيف بالعمل الدرامي وهو الأسهل توصيلاً بين كل أنواع الرسائل الإعلامية؟
هذا النزوع الأيديولوجي كاد يغطي على كل مناحي النشاطات الإبداعية والثقافية، فلا يجري احتفاء بمنظمة الطلائع إلا تحت شعار تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل، ولا يُعقد مؤتمر علمي إلا بغاية مقاومة العدو الصهيوني البغيض، ولا ينتدي الفنانون إلا لدحر الإمبريالية الأمريكية وأذيالها من الصهاينة والرجعيين، وقد كان السيد وزير الإعلام واضحاً في ملتقى الدراما بحديثه عن 'المحاولات الساعية لرفض الثقافة العربية' وتأكيده على 'دور الثقافة والفن والدراما في مواجهة هذه المحاولات بمسؤولية وبفكر مبدع وبتسامح حقيقي'.
المسألة أننا مُستهدفون أيديولوجياً ومستهدفون كثقافة وحضارة، وعلينا أن نحمي أنفسنا من شر العولمة وشر المستهدِفين، فنحصّن أنفسنا ضد الآخر باعتباره مُستهدِفاً ونصون أنفسنا بصيانة فصيح اللغة العربية، وتأكيد البُعد الأيديولوجي والقومي في كل نتاجنا الإبداعي والثقافي والفني. دون إن يتطرق أحد من منتدى ملتقى الدراما السورية إلى الشرط الفني والإبداعي لتلك الدراما، ودون أن يتذكر أحد منهم أنّ مسلسل 'أيام الولدنة' الذي فاز في مهرجان الإذاعة والتلفزيون في القاهرة كان وما زال ممنوعاً من العرض في سورية، وأنّ الكثير من الأعمال المهمة ما زالت الرقابة تحول بينها وبين المتلقي، فعن أي دراما يتحدثون؟!
أنور بدر
المصدر:القدس العربي
إضافة تعليق جديد