أساطير التمويل الإيراني والدعم السوري لحزب الله
تتعمد الكثير من الدوائر الدولية تشبيه حزب الله بلعبة الدمى المتحركة التي يتولى السيطرة عليها بالتساوي كل من أيران وسوريا فهل الأمر صحيح ؟
لا شك بأن الغايات السياسية في عالمنا الحاضر هي التي تشكل التسميات والألقاب . على سبيل المثال تستعمل وكالة رويتر تسمية "حزب الله الشيعي الموالي لإيران " بينما تسمي الوكالة نفسها الثوار الإيرلنديين بالـ" الجيش الإيرلندي السري" أي تشير إليه بإسمه دون ذكر إنتمائه الديني . مع أن الحرب التي دارت منذ عشرينات القرن الماضي في إيرلندا الشمالية وحتى وقت قريب ، هي حرب دينية بين البروتستانت الموالين لبريطانيا والكاثوليك المدعومين من الفاتيكان ولو بالرعاية والإحتضان .
إن جذور حزب الله كمقاومة ضد الإحتلال وكتنظيم سياسي لبناني تعود إلى ما قبل ظهور إيران الإسلامية بسنوات . فالكثير من قادته وكوادره هم في الإساس من كوادر حركة المحرومين التي أسسها السيد موسى الصدر لحماية الجنوب من الإعتداءات الصهيونية في وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي . إضافة إلى كوادر أخرى من مريدي السيد محمد حسين فضل الله وحزب الدعوة وجمعية التعليم الديني وحركات شيعية متدينة أخرى . وكلها تنظيمات لبنانية صميمة إستضافت وساعدت المعارضين لنظام الشاه من أتباع الإمام الراحل روح الله الخميني ( روح الله إسمه العلم مثل عبد الله أو فضل الله أو ماشاء الله وليس لقبا للفخامة كما يعتقد البعض ) .
إنه لمن سخرية الأزمان على سبيل المثال أن يتهم حزب الله بأنه ينفذ السياسات الإيرانية في الوقت الذي كان إعلام الشاه الإيراني يتهم معارضيه الناشطين ضده من لبنان بأنهم عملاء للعرب (يقصد أنهم عملاء لموسى الصدر وياسر عرفات اللذان توليا تدريب الكثير من كوادر الثورة وأشهرهم وزير الدفاع السابق مصطفى شمران ) .
في صيف العام 1982 وبعد رفض قيادة حركة أمل المشاركة في التصدي للإجتياح الإسرائيلي حفظا للقرى والمدن اللبنانية من التدمير في حرب معروفة النتائج سلفا، خرج قسم من الجسم الحركي عن طوع القيادة المركزية وأسسوا ما عرف لاحقا بـ"حركة أمل الإسلامية" .
و قد تولى فصيل منها التصدي للقوات الإسرائيلية في المعركة الحقيقة الأولى على ابواب بيروت في منطقة خلدة الساحلية ، وقد خسرت إسرائيل وقتها دبابات إستعرض المقاتلون أحداها في شوارع برج البراجنة حيث أسروها فارغة من طاقمها الذي أنقذته الطائرات العمودية من قتل محتم .
كانت تلك البذور الإولى لما عرف فيما بعد بالمقاومة الإسلامية التي تأسست من تجمع قوى أمل الإسلامية بقيادة حسين الموسوي الرجل الثاني في حركة أمل قبل الإنشقاق، ومن مجموعات حزب الدعوة – فرع لبنان
ومن مجموعة متدينة ومثقفة كانت تأتلف تحت إسم إتحاد الطلبة المسلمين وهؤلاء كانوا من ألمقاومين الأوائل في القرى الواقعة تحت الإحتلال .
القصة التي ركبت تفاصيلها المخابرات الغربية تقول أن حزب الله هو فرع إيراني للحرس الثوري أسسه السفير السابق لإيران في دمشق علي محتشمي . حسنا إن هذا القول فيه خلط وتشويه .
القصة الحقيقية للكيان التنظيمي الأول للمقاومة الإسلامية تمثلت في فتوى دينية أصدرها الإمام الخميني كمرجع تقليد ( يتبعه الملايين من المؤمنين خارج إيران كما يتبع الكاثوليك توجيهات البابا مع فروقات هامة في التفاصيل ) السؤال وجهه ممثلون عن تجمع العلماء المسلمين المختلط من السنة والشيعة في لبنان وكان يرافقهم لزيارة الخميني الراحل ممثل حركة أمل في طهران السيد المعمم الشاب حسن نصرالله ومن ضمن الوفد كان الشيخ الشهيد راغب حرب وآخرين .
كان السؤال الموجه كالتالي " إسرائيل قوى عظمى ونحن قلة فما الحكم الشرعي وما واجبنا كمؤمنين تجاه إحتلال بلدنا " ؟
الخميني أذهل الموجودين حين قال " التقية سقطت وتحرم ممارستها ، هذا زمن الحسين وكربلاء ، عليكم أن تقاتلوا ما أستطعتم وسنساعدكم على قدر ما نستطيع "
وصلت الفتوى إلى لبنان فأنقسمت أمل بين فتوى المهادنة و عدم رمي النفس في التهلكة وبين القتال بدون إنتظار .
كلف المرشد الروحي للثورة الإسلامية الحرس الثوري بتقديم المساعدة اللوجستية والتسليحية للمقاتلين ففتحت مراكز التدريب في البقاع اللبناني حيث توجد سيطرة كاملة للمنشقين عن أمل .
كان الدور الذي أنيط بمحتشمي هو التنسيق مع السلطات السورية لتأمين مرور المدربين الإيرانيين من سوريا إلى لبنان وهي للمناسبة الطريق الوحيدة برا وبحرا وجوا .
ولكن هذا العمل البدائي سرعان ما أتسع بإلتفاف شيعة البقاع حول العلماء المعممين الذين أخذوا يحرضون أهل البقاع المعروفين بالشدة والحمية على مقاومة إسرائيل . وبرز من بين المحرضين في المساجد والحسينيات أربعة من القادة أشهرهم وقتها كان الشيخ صبحي الطفيلي ثم السيد عباس الموسوي فالسيد إبراهيم الأمين والسيد الشاب حسن نصرالله ...هذا في البقاع المحرر ، ماذا عن المناطق الواقعة تحت الإحتلال ؟
في منطقة الجنوب بشكل عام يكذب من يقول أن المقاومين الأوائل من كل الإتجاهات الفكرية بدأو القتال بناء لقرارات حزبية كما يدعي بعض الإستعراضيين .
في بلدة الدوير على سبيل المثال كانت تتواجد على تلالها قاعدة للحزب الشيوعي دمرها الطيران ولم تدخلها الدبابات بعد إحتلال المنطقة فتسلل العشرات من الشبان والأهالي ليلا وسحبوا كل ما سلم من سلاح ودفنوه في أماكن عشوائية . وهكذا حصل في كل القرى ومن هنا بدأت النواة الأولى للمقاومة اليسارية والقومية والإسلامية . لقد كانت المجمعات المقاتلة تضم فيما بينها خليطا من التيارات الفكرية ولكن ما يجمعها هو إنتمائها لقرية أو مدينة واحدة ما يجعل ترددهم على بعضهم البعض أمرا طبيعيا ولا يثير الشبهات .
في بداية العام 1983 بدأت الأتصالات تنتظم بين الجزء المحتل والجزء المحرر من لبنان وبدأت الإمدادات تصل بالسلاح والمال والتدريب . هنا ظهر على ساحة المقاومين عدو شرس جدا للجيش الإسرائيلي إسمه إتحاد الطلبة المسلمين ( إحدى الوية حزب الله التي أندمجت به منذ الدقيقة الأولى ) هؤلاء تخصصوا في العمليات النوعية المحكمة التنفيذ خصوصا التفجيرات بالعبوات المجوفة التي تدمر مدرعات الإحتلال العصية على القذائف الصاروخية .
ثم كانت الثورة الشعبية ضد الجيش المحتل حين حاولت قوة مدرعة المرور عنوة في مكان إقامة إحتفال عاشوراء في النبطية التي كانت تضم جموعا تزيد عن المئتي الف من أهالي الجنوب فثاروا ضد المحتل وأحرقوا المدرعات وشردوا القوة ركضا على الأقدام .
ثم جاء إعتقال الشيخ راغب حرب الذي أشعل ثورة عفوية أسست للمقاومين بالسلاح ملجأ وحضنا شعبيا متعاطفا وغير خائف ولا وجل . خصوصا أن خطب ومواقف الشيخ راغب كانت مسموعة من كل تيارات المجتمع حتى من الملحدين الذين ربطت بينهم وبين الشيخ الشعبي والقريب من سكان القرى المحتلة علاقة حوارية جيدة .
ولعل موقفه الذي هز حاجز الخوف ونزعه من قلوب الناس هو ذاك الموقف البطولي حين قطع طريقه على مقربة من منزله وعلى مرأى من القرويين في بلدة جبشيت قائد وحدة المخابرات في منطقة النبطية .
وكان ذو سمعة مرعبة ، فتجاهله الشيخ واكمل طريقه فقال له الظابط وهو يمد يده ليصافحه جئتك لأشرب معك فنجان قهوة فرد الشيخ :
" المصافحة إعتراف لكم بشرعية وجودكم وليس لكم مني إلا العداء " ثم أكمل طريقه .
وتابع الشيخ القاء الخطب المحرضة على القتال والمستخفة بالمحتلين فإغتيل وأشعل موته ثورة عارمة جذرت رفض الإحتلال شعبيا وفتحت الباب واسعا لقيام حركة مقاومة مسلحة سرعان ما إمتدت في كل الجنوب على الأخص وفي لبنان كله بشكل عام .
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل ما قام به الناس في النبطية وما قام به الشيخ راغب هو خدمة للفرس ؟ ام قيام بواجب مقاومة العدو ؟
وإذا علمنا أن السعودية وغيرها من الدول العربية ساعدت المحتلين وسهلت وغطت جرائمهم كالعادة تبييضا لصفحتهم مع ولي نعمتهم الأميركي ، فهل يتصور عاقل أن يرفض اللبنانيون مساعدة تدريبية وتسليحية من سوريا وإيران ؟
إنه السخف بعينه .. فمهما كان الموقف من النظامين السوري والإيراني على المستوى الشعبي فإن اليد التي تقاوم إحتاجت لمن يرفدها بأسباب الحياة لتستمر وتحرر الأرض . وقد كانت سوريا وإيران في ساحة الفعل فهل على المقاومين شتمهم أم شكرهم ؟
حتى ولو كان لهم مصالح وغايات ككل الدول التي تبحث عن مصلحتها . فكيف و إن كانت مصلحة سوريا وإيران تلتقي مع مصلحة المقاومين في كسر التفرد والسيطرة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة ولبنان فهل كان مطلوبا قصف طهران ودمشق بدلا عن مقاومة المحتلين؟
وقتها أيضا إنخرطت حركة امل بقيادة بري في العمل المقاوم السري ما رفد المقاومة النخبوية وقتها بمد شعبي هائل أحكم السيطرة شعبيا على قرى بكاملها وجعل منها مناطق محررة .
في ذلك الوقت ذاع في الجنوب صيت الحرس الثوري الإيراني الذي يخرج المقاتلين النوعيين في معسكرات التدريب التي اقامها في البقاع ليس لنشر النفوذ الفارسي كما يدعي البلهاء بل تنفيذا لأمر ولي الفقيه المنطلق من قاعدة دينية بوجوب نصرة المظلوم . على الأقل كان الوضع كذلك في زمن الراحل الخميني ولم يتغير مع خليفته الخامنئي مع العلم أن علاقة حزب الله الدينية بإيران تماثل علاقة البطريرك صفير بروما وبالتالي السيطرة على القرار السياسي تعود للقيادة المحلية ضمن معطيات الشرع والفقه الإسلامي . بينما العلاقة مع الدولة والحكومة الإيرانية مرت بأزمات متعددة ومشكلات ظلت تحت الرماد . وحسمت لمصلحة علاقة مميزة وحصرية لحزب الله مع أيران الثورة اي القيادة الدينية للمرشد والمؤسسات التابعة له مباشرة والبعيدة عن سيطرة العقلية البيروقراطية للدولة .
أما عن التمويل الإيراني فهو أيضا يخضع لاساطير لست صحيحة بتاتا ، على سبيل المثال فأن المساعدات التي تقدمها المؤسسة الدينية في إيران هي نتاج مال المسلمين الذين يدفعون واجبا ما قيمته عشرين بالمئة من أرباحهم للولي الشرعي وهو عند الشيعة كل مرجع تقليد مشهور بالعدل والورع والأعلمية في الفقه وإستباط الأحكام .
وعلى سبيل المثال فرجل مثل الخوئي وبعده السيستاني تتبع لهما مؤسسة مالية يصرف منها على المشاريع الخيرية تبلغ قيمة موجوداتها عشرات المليارات من الدولارات وهو مرجع واحد من عدة مراجع . والخميني أفتى قبل رحيله بتقديم أموال الخمس للمقاومة وللعلم فقط فأن خمس أحد رجالات الكويت المتدينين يبلغ سنويا ستة وعشرين مليون دينار كويتي وهو المرحوم حسين بهمن فما بالك بملايين المريدين .
بالطبع يحصل حزب الله على دعم ساحق ومؤثر من إيران ولكنه ينحصر في المؤسسة الدينية فقط ومشاكله مع المؤسسات الحكومية معروفة للأوساط المطللعة .
على سبيل المثال تلك الأزمة الحادة التي حكمت علاقة حزب الله بالرئيس الإيراني خاتمي الذي صرح نائبه عطاء الله مهاجراني لصحيفة أميركية قبل إنسحاب إسرائيل من لبنان بأن المقاومة ستسلم سلاحها وتتخلى عن حماية الحدود فور إنسحاب إسرائيل من الجنوب في وقت كان كل العالم يتحزر عن الموقف الحقيقي الذي سيتخذه السيد نصرالله والذي رفض البوح به حتى يبقي الأمر ورقة بيده ضد الإسرائيليين . هذا التصريح تسبب بعلاقة غير مريحة بين دولة إيران ومقاومة لبنان وهو موقف يبين أن القرار اللبناني مستقل عن الفقه الديني العام الذي يربط ما بين المرجعية والمريدين والمقلدين في لبنان .
فهذا نائب رئيس إيران يقرر وحسن نصرالله يقرر شيئا معاكسا فمن كانت له المصداقية في التنفيذ ؟
هذا المثال يبين إستقلالية القرار اللبناني الحزب اللهي .
وبالتالي إن سلاحا متقدما تقدمه إيران للمقاومين ليس مطلوبا بالمقابل أن يستحصل على أذن خاص لإستعماله وليس له مقابل سياسي مفروض وبالتأكيد يقدم حزب الله مصلحة لبنان على مصلحة أي دولة أخرى بما فيها إيران وقد أثبتت التجارب ذلك . ولكن لو إستفادت سوريا وأيران من موقع قوة لحزب الله فهل المطلوب منعهم من ذلك ؟ تماما كما تتعاون دول العالم على تبادل المنافع والمصالح ولكن ليس على حساب أوطانها القطرية .
خضر عواركة
المصدر: مجلة الوطن الأمريكية
إضافة تعليق جديد