إسرائيل في كنعان
"فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين" - القضاة 3: 5
في سفر القضاة الذي يلي مباشرة سفر يشوع، لدينا نظرية توراتية ثانية عن دخول الإسرائيليين إلى كنعان تناقض نظرية الفتح العسكري الصاعق، ومحرر السفر يصرف نظرنا منذ البداية عن تصديق كل ما ورد في سفر يشوع. فبعد عبور الأردن لم يشرع يشوع بن نون بغزو الأرض على رأس القبائل الموحدة، وإنما وزعها نظرياً على الأسباط وترك لكل سبط مهمة الاستيلاء على نصيبه بوسائله الخاصة. أما يهوه الذي كان في سفر يشوع يهدم الأسوار أمام الإسرائيليين، ويرسل من السماء برداً وناراً على الكنعانيين، ويبطئ حركة الشمس حتى ينتقم الإسرائيليون من أعدائهم، فقد وقف موقف المتفرج في سفر القضاة لأن بني إسرائيل لم يسمعوا لصوته ولا حفظوا العهد الذي قطعوه أمام يشوع:
"وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وقال: قد أصعدتكم من مصر وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت: لا أنكث بعهدي معكم إلى الأبد، وأنتم فلا تقطعوا عهداً مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم. ولم تسمعوا لصوتي. فماذا عملتم؟ فقلتُ أيضاً لا أطردهم من أمامكم بل يكونون لكم مضايقين وتكون آلهتهم لكم شَركاً. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا صوتهم وبكوا. فدعوا اسم ذلك المكان بوكيم (= موضع الباكين) وذبحوا هناك للرب. وصرف يشوع الشعب فذهب بنو إسرائيل كل واحد إلى مُلكه لأجل امتلاك الأرض." (القضاة 2: 1 – 6). "فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعاً ولم يدفعهم بيد يشوع." (القضاة 2: 23).
"فقال يهوذا لشمعون أخيه اصعد معي في قرعتي لكي نحارب الكنعانيين فأصعد أنا معك في قرعتك. فذهب شمعون معه… وكان الرب مع يهوذا فامتلكوا الجبل أما سكان الوادي فلم يطردوهم لأنهم كانت لهم مركبات من حديد… وصعد بنو يوسف أيضاً إلى بيت إيل والرب معهم… فضربوا المدينة بحد السيف… ولم يطرد منسي أهل بيت شان وقراها ولا أهل تعنك وقراها ولا سكان دور ولا سكان يبلعام وقراها ولا سكان مجدو وقراها. فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض. وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية… وأفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر. وزبولون لم يطرد سكان قطرون ولا سكان نهلول، فسكن الكنعانيون في وسطه وكانوا تحت الجزية. ولم يطرد أشير سكان عكوا ولا سكان صيدون وأحلب وأكزيب وحلبة وأفيق ورحوب. فسكن الأشيريون في وسط الكنعانيين لأنهم لم يطردوهم. ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس ولا سكان بيت عناة بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الأرض، فكان سكان بيت عناة وبيت شمس تحت الجزية.
وحصر الآموريون بني دان في الجبل لأنهم لم يدعوهم ينزلون إلى الوادي، فعزم الآموريون على السكن في جبل حارس وفي أيلون وفي شعلبيم." (القضاة 1: 3 – 35).
"وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم()، وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب. تركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروت. فحمي غضب الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم، ولم يقدروا بعدُ على الوقوف أمام أعدائهم… فضاق بهم الأمر جداً. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم، ولقضاتهم أيضاً لم يسمعوا وزنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها… وحينما أقام لهم الرب قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من يد أعدائهم كل أيام القاضي، لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم وزاحميهم. وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراء آلهة أخرى… فحمي غضب الرب على إسرائيل وقال: من أجل أن هذا الشعب قد تعدوا عهدي الذي أوصيت به آباءهم ولم يسمعوا لصوتي، فأنا أيضاً لا أعود أطرد إنساناً من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته، ولكي أمتحن بهم إسرائيل أيحفظون طريق الرب ليسلكوا بها كما حفظها آباؤهم أم لا." (القضاة 2: 11 – 22).
"فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والآموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساءً وأعطوا بناتهم لبنيهم، وعبدوا آلهتهم." (القضاة 3: 5 – 6).
ويطرح وضع مدينة حاصور واحدة من أبرز نقاط التناقض بين سفر القضاة وسفر يشوع. فقد كان القضاء على مدينة حاصور المنيعة في الجليل، في سفر يشوع، إيذاناً بانتهاء حروب الفتح والبدء بتوزيع الأرض على الأسباط: "ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف… وضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرموهم ولم تبقَ نسمة، وأحرق حاصور بالنار." (يشوع 11: 10 – 11). ولكننا في سفر القضاة نجد أن حاصور لم تُدمَّر وتُحرق على يد يشوع، وأن ملكها يابين حي يرزق، بل إنه بسط سلطانه على بني إسرائيل مدة عشرين سنة: "وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب بعد موت القاضي إهودَ، فباعهم الرب بيد يابين ملك كنعان الذي مَلَكَ في حاصور ورئيس جيشه سيسرا وهو ساكن في حروشة الأمم. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب لأنه كان له تسعمئة مركبة من حديد. وهو ضايق بني إسرائيل بشدة عشرين سنة." (القضاة 4: 1 – 3).
وكانت النبيَّة دبورة قاضية في تلك الأيام. فدعت باراق بن أبينوعم من سبط نفتالي وقالت له: "اذهب وازحف إلى جبل تابور وخذ معك عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون، فأجذبُ إليك إلى نهر قيشون سيسرا رئيس جيش يابين بمركباته وجمهوره وأدفعه إليك. فقال لها باراق: إن ذهبتِ معي أذهب وإن لم تذهبي معي فلا أذهب. فقالت: إني أذهب معك… فأزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق، فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه… وسقط كل جيش سيسرا بحد السيف ولم يبقَ واحد… وأخذت يد بني إسرائيل تتزايد وتقسو على يابين ملك كنعان حتى قرضوا يابين ملك كنعان." (القضاة 4: 4 – 24).
يبدو سفر القضاة لقارئه أكثر أسفار الكتاب تفككاً وافتقاراً للحبكة الأدبية. فهو عبارة عن قصص وأحداث غير مترابطة وقعت على مدى قرنين من الزمان، عندما لم يكن لبني إسرائيل سلطة سياسية تجمعهم. وهذه الأحداث تصدر عن ذاكرة شعبية مشوشة وحكايات مغرقة في القدم مُنتزَعة من سياقاتها التاريخية. وقد انتقاها ورتبها محرر السفر من أجل ملء الفترة الزمنية الفاصلة بين دخول كنعان وقيام المملكة الموحدة. وكل ما يجمع هذه الحكايات إلى بعضها هو انتظامها ضمن إطار إيديولوجي يجعلها تتحرك في الدارة المغلقة نفسها: عهد – فوعد – فعصيان – فتوبة – فاستجابة – فتخليص. وقد ساهم في إسباغ هذا الشكل المهلهل على السفر غياب الشخصية المركزية فيه. فهنا لا توجد لدينا شخصية درامية متكاملة مثل يوسف، أو شخصية كارزمية مثل موسى أو يشوع أو داود.
وعلى الرغم من المنظور الإيديولوجي الذي فرضه المحرر على هذه الحكايات، إلا أنها بقيت تسبح في أجوائها الوثنية القديمة. ويبدو لنا من سلوك القضاة أنفسهم أنهم لم يسمعوا بشريعة موسى، ولم يكونوا أكثر محافظة على تعاليم يهوه من بقية الشعب. فمنهم من تزوج بنساء كنعانيات أو فلسطينيات متعدين وصية الرب بعدم التزاوج مع سكان الأرض، ومنهم من قتل إخوته في نزاع على السلطة، ومنهم من عاش حياة ماجنة في أحضان الزانيات. ولسوف نتوقف فيما يلي عند أخبار أربعة منهم، وهم الذين أفاض المحرر في الحديث عنهم وفصَّل في سيرتهم إضافة إلى النبية دبورة
بعد وفاة دبورة عاد بنو إسرائيل فعملوا الشر في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد المديانيين سبع سنين. فكانوا يصعدون بجمالهم الكثيرة ويتلفون غلة الأرض ولا يتركون لإسرائيل قوت حياة. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فسمع لهم. وجاء الرب وجلس تحت شجرة البطم في حقل رجل يدعى يوآش الأبيعزري، حيث بنى يوآش هذا مذبحاً للبعل وغرس عنده شجرة مقدسة، جرياً على عادة الكنعانيين في مقاماتهم الدينية. وهذه الشجرة تُدعى بالعبرية «عشيرة»، وفي الترجمة العربية للكتاب «سارية»(). وظهر الرب لجدعون ابن يوآش وقال له: "اذهب بقوتك هذه وخلِّص إسرائيل من كف مديان فإني قد أرسلتك. فقال له: أسألك يا سيدي بماذا أُخلِّص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذُّلّى في منسي وأنا الأصغر في بيت أبي. فقال له الرب: إني أكون معك وستضرب المديانيين كرجل واحد… خذ ثور البقر الذي لأبيك وثوراً ثانياً ابن سبع سنين واهدم مذبح البعل الذي لأبيك واقطع السارية التي عنده… وأصعِد محرقةً على حطب السارية التي تقطعها. فأخذ جدعون عشرة رجال من عبيده وعمل كما كلَّمه الرب. وإذ كان يخاف من بيت أبيه وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهاراً فعمله ليلاً. فبكر أهل المدينة في الغد وإذا بمذبح البعل قد هُدم والسارية التي عنده قد قُطعت… فسألوا وبحثوا فقالوا إن جدعون بن يوآش قد فعل هذا الأمر. فقال أهل المدينة ليوآش: أَخرج ابنك لكي يموت لأنه هدم مذبح البعل وقطع السارية التي عنده. فقال يوآش لجميع القائمين عليه: أنتم تقاتلون للبعل أم أنتم تخلصونه… إن كان إلهاً فليقاتل لنفسه لأن مذبحه قد هُدم." (القضاة: 6). واجتمع المديانيون والعمالقة ونزلوا في وادي يزرعيل. فلبس روح الرب جدعون فضرب بالبوق وجمع كلمة القبائل وخلص إسرائيل من مديان. فاجتمع رجال إسرائيل إلى جدعون وعرضوا عليه الملوكية قائلين: "تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك قد خلصتنا من مديان. فقال لهم جدعون: لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم. الرب يتسلط عليكم." (القضاة: 7 – 8).
وكان لجدعون سبعون ولداً لأنه كانت له نساء كثيرات بينهن امرأة كنعانية من مدينة شكيم ولدت له ولداً فسماه أبيمالك. وكان بعد موت جدعون أن بني إسرائيل رجعوا وزنوا وراء البعليم وجعلوا بعل بريث إله مدينة شكيم إلهاً لهم:
"وذهب أبيمالك بن يروبعل (الاسم الآخر لجدعون) إلى شكيم إلى إخوة أمه وكلمهم وجميع عشيرة بيت أبي أمه قائلاً: …. أيما خير لكم، أَأن يتسلط عليكم سبعون رجلاً جميع بني يروبعل أم أن يتسلط عليكم رجل واحد؟ واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم. فتكلم إخوة أمه عنه في آذان كل أهل شكيم بجميع هذا الكلام، فمال قلبهم وراء أبيمالك لأنهم قالوا أخونا هو… ثم جاء إلى بيت أبيه في عفرة وقتل بني يروبعل سبعين رجلاً على حجر واحد… فترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين. وأرسل الرب روحاً ردياً بين أبيمالك وأهل شكيم فغدر أهل شكيم بأبيمالك." (القضاة 8: 29 – 35، و9: 1 – 25).
"وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب… فحمي غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون… فاجتمع بنو عمون ونزلوا في جلعاد واجتمع بنو إسرائيل ونزلوا في المصفاة." (القضاة 10: 6 – 17).
وكان يفتاح الجلعادي جبار بأس وهو ابن جلعاد من امرأة زانية. وقد تزوج جلعاد بعد ذلك وأنجبت له زوجته بنين. فلما كبروا طردوا يفتاح وقالوا له: لا ترث في بيت أبينا لأنك ابن امرأة أخرى. فهرب يفتاح وأقام في أرض طوب حيث اجتمع إليه رجال بطالون وصار يفتاح قائد مرتزقة. ولما حارب بنو عمون إسرائيل ذهب إليه الشيوخ ليأتوا به من أرض طوب وقالوا له: تعالَ وكن لنا قائداً فنحارب بني عمون. فقال لهم: إذا أرجعتموني لمحاربة بني عمون ودفعهم الرب أمامي فأنا أكون لكم رأساً. فقالوا: الرب يكون سامعاً بيننا إن كنا لا نفعل حسب طلبك." (القضاة 11: 1 – 11). ويبدو هنا أن شيوخ إسرائيل في عصر القضاة لم يسمعوا بوصية الرب القائلة: "لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب." (التثنية 23: 2). فما بالك برأسٍ وقاضٍ على إسرائيل؟
"فكان روح الرب على يفتاح فعبر… إلى بني عمون. ونذر يفتاح نذراً للرب قائلاً: إن دفعتَ بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأُصعده محرقة. ثم عبر يفتاح إلى بني عمون لمحاربتهم فدفعهم الرب ليده فضربهم… فذُلّ بنو عمون أمام بني إسرائيل. ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيته وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص، وهي وحيدة لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها. وكان لما رآها أن مزق ثيابه وقال: آه يا بنتي قد أحزنتني حزناً وصرتِ بين مكدري، لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. فقالت له: يا أبي هل فتحت فمك إلى الرب؟ فليُفعل لي هذا الأمر. اتركي شهرين فأذهب إلى الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي… وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعت إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذر." (القضاة: 11).
هذه القصة الهمجية التي قدمها لنا محرر سفر القضاة دون أي تعليق، تدل بوضوح على أن القرابين البشرية كانت أمراً معتاداً في عبادة إله إسرائيل. ولسوف نرى عندما نأتي إلى عرض المشهد الديني لعصر الملوكية، كيف أن العديد من ملوك إسرائيل ويهوذا قد قدموا أولادهم قرباناً على مذبح يهوه.
تبدو سيرة شمشون وهي الأخيرة في السفر أعجب ما سبقها من السِّيَر. وفيها نرى مثالاً مُعبِّراً عن كيفية استعانة المحرر بالحكايا الشعبية القديمة وتوظيفها إيديولوجياً بشكل ساذج ومصطنع، ودون مجهود تحريري يجعلها في توافق مع عقيدة يهوه. فبعد أن عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، ودفعهم ليد الفلسطينيين أربعين سنة:
"كان رجل من صرعة من عشيرة الدانيين اسمه منوح، وامرأته عاقر لم تلد. فتراءى ملاك الرب للمرأة وقال لها: ها أنتِ عاقر لم تلدي، ولكنك تحبلين وتلدين ابناً. والآن فاحذري ولا تشربي خمراً ولا مسكراً ولا تأكلي شيئاً نجساً. فها أنتِ تحبلين وتلدين ابناً لا يعلوا موسى رأسه (أي لا يحلق شعر رأسه بموسى)، لأن الصبي يكون نذيراً لله من البطن وهو يبدأ يخلص بني إسرائيل من يد الفلسطينيين… فكبر الصبي وباركه الرب وابتدأ روح الرب يحركه." (القضاة: 13).
بلغ شمشون سن الشباب وبدت عليه علائم قوة جسدية خارقة كان مصدرها شعر رأسه الطويل الذي لم يعلوه موسى حلاقة. وكان أول عمل لهذا المنذور من البطن لكي يُخلِّص إسرائيل من الفلسطينيين هو السعي إلى الزواج من امرأة فلسطينية رآها في بلدة تمنه وأعجبته فأخبر بذلك أباه وأمه ونزل معهما إلى تمنه لخطبة الفتاة. وعندما وصلوا إلى كروم تمنه خرج عليهم أسد مزمجر، ولكن روح الرب حل على شمشون فأمسك الأسد وشقه إلى نصفين بيديه العاريتين من أي سلاح. في تمنه وافق أهل الصبية على إعطائها لشمشون، ولكن سوء تفاهم وقع بينه وبين شباب المدينة قاد إلى عراك فقتل منهم ثلاثين وانصرف غاضباً إلى بيت أبيه. وكان بعد مدة في أيام الحصاد أن شمشون افتقد امرأته وجاء إلى بيت أبيها بجدي معزى، ولكن الأب لم يدعه يدخل وقال له إنه قد زوجها لرجل آخر. فقال لهم شمشون: إني بريء الآن من الفلسطينيين إذا عملت بهم شراً (القضاة 14، و15: 1 – 3).
وهكذا شرع شمشون في صراعه مع الفلسطينيين، ولكن لا من أجل قضية شعبه وإنما لثأر شخصي، ولذلك بقي هذا الصراع يحمل الطابع الفردي يقوم به مشاغب متطرف راغب في الانتقام وتصفية الحسابات. فشمشون لم يكن زعيماً أو قائداً عسكرياً مثلما كان بقية القضاة الذين كانوا يدعون إلى مقاومة المضطهدين وينظمون تلك المقاومة، وإنما عاش حياته مثل خارج على القانون سواء بالنسبة إلى الفلسطينيين أو بالنسبة إلى مواطنيه أنفسهم الذين لم يكونوا راضين عن أفعاله وسعوا أحياناً إلى تسليمه إلى أعدائه. وعلى صعيد حياته الشخصية فقط سلك كبطل مقدام ماجن ومتهور، أما على الصعيد الديني فلم يسلك كنذير للرب وإنما كوثني متوحش لا يقيده قانون أو شريعة.
كانت حرب شمشون مع الفلسطينيين حرباً بلا جنود ولا جيوش، طرفاها البطل الخارق الذي يقاتل وحيداً على طريقة حرب العصابات وجماعات الفلسطينيين المسلحة التي كان يفاجئها في الأماكن والأوقات غير المتوقعة ويقتل منهم المئات بغير سلاح أو باستخدام أدوات بسيطة، كما فعل في إحدى المرات عندما ضرب ألف رجل بفك حمار ميت. وكان يغير على حقول الفلسطينيين ويتلف محاصيلهم. وفي إحدى المرات أمسك ثلاثمئة ابن آوى وربط في أذنابها المشاعل ثم أطلقها بين زروع الفلسطينيين وأحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون. وعندما خاف مواطنوه من انتقام الفلسطينيين منهم جراء أفعال شمشون خرج ثلاثة آلاف رجل من يهوذا وجاؤوا إلى الكهف الجبلي الذي كان يبيت فيه وقالوا له: ماذا فعلت بنا؟ أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا؟ ثم أوثقوه بحبلين ثخينين وساقوه إلى موقع يدعى لحي حيث كان الفلسطينيون يبحثون عنه. ولما وصلوا به صاح الفلسطينيون للقائه، فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككتان أُحرق بالنار فانحل الوثاق ونجا شمشون بعد أن أحدث مجزرة بين أعدائه.
وكان من عادة شمشون أن يتردد على بيوت المومسات سراً دون أن يراه أحد. وفي إحدى المرات ذهب إلى غزة إلى عقر دار الفلسطينيين ودخل على إحداهن، ولكن أمره انكشف فأحاط الغزيون بالبيت وكمنوا الليل كله قائلين: عند ضوء الصباح نقتله. فاضطجع شمشون إلى نصف الليل ثم قام وتوجه نحو بوابة المدينة حيث اقتلع مصراعي البوابة ووضعهما على كتفيه وصعد بهما إلى الجبل دون أن يجرؤ أحد على اللحاق به بعد أن رأوا هذا المشهد العجيب.
أخيراً أحب شمشون امرأة فلسطينية ثانية اسمها دليلة وصار يتردد عليها خفية. فصعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها: تملقيه وانظري بماذا قوته العظيمة وبماذا نتمكن منه لكي نوثقه فنعطيك كل واحد ألفاً ومئة شاقل من الفضة. فراحت دليلة تلح عليه بكلامها في كل يوم سائلة عن سر قوته ومصدرها حتى ضاقت نفسه، فكشف لها كل قلبه وقال: لم يعلُ موسى رأسى لأني نذير لله من بطن أمي. فدعت دليلة أقطاب الفلسطينيين فجاؤوا والفضة بأيديهم وكمنوا له. وبينما هو نائم على ركبتيها دعت رجلاً وحلقت شعر رأسه ففارقته قوته ووقع بيد الفلسطينيين الذين أوثقوه بالسلاسل وقلعوا عينيه وأخذوه إلى السجن حيث ابتدأ شعر رأسه ينبت. وفي عيد الإله داجون عمل الفلسطينيون احتفالاً وراحوا يفرحون ويطربون، ثم دعوا شمشون ليلعب لهم. فجاؤوا به وأوقفوه بين أعمدة المعبد، وكان البيت مملوءاً رجالاً ونساءً وعلى السطح نحو ثلاثة آلاف إنسان. فقبض شمشون على العمودين المتوسطين وانحنى بقوة وهو يقول: لتمت نفسي مع الفلسطينيين. فسقط البيت على كل الشعب وكان الذين أماتهم شمشون في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته. (القضاة: 15 – 16).
وائل سواح
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد