إنعاش «إقليمي» لـ«النصرة»: استعادة أحلام «الإمارة»
بدت «انتفاضة النصرة» الأخيرة مفاجئة للكثيرين في توقيتها كما في نتائجها. لم يكن ظاهر الأمر يوحي بأن «جهاديي الجولاني» قادرون على قلب موازين السيطرة في أيام معدودة، وتصفية عدد من المجموعات المسلحة، بما فيها واحدة كانت تُصنَّف من بين «الأقوى». لكن حقيقة الأمر أن الأحداث الأخيرة لا تستحقّ صفة «المُفاجئة»، فخطط اجتياح الريف الغربي كانت حاضرة في طموحات «النصرة» منذ شهر نيسان/ أبريل الماضي . وقتذاك، حال «فيتو تركي» دون السعي إلى تنفيذ المخطط، لتفرض أنقرة واقعاً ميدانياً يضبط مناطق التماس بين «الفصائل» عبر خلق «خطوط فصل» انتشر فيها عناصر تابعون لـ«الحزب الإسلامي التركستاني».
لم تُنسف الفكرة من أولويات الجولاني، وسرعان ما تحولت إلى «إجراء مؤجل لا بدّ منه»، كما أبلغ الزعيم المتطرف عدداً من «القادة الشرعيين والعسكريين» الفاعلين في اجتماع عقده قبل خمسة أشهر، على ما تؤكده مصادر «جهادية» واسعة الاطلاع وكان الاجتماع المذكور حلقة في سلسلة كثّفها الجولاني عقب تشكيل «الجبهة الوطنية للتحرير»، والذي جاء بمثابة فاصلة بين مرحلتين في ما يخص العلاقة بين «النصرة» ومعظم المجموعات، وهو ما أشارنا إليه في السادس من آب/ أغسطس الماضي. واستلزم الأمر شهوراً من التقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوراق داخل «تحرير الشام» قبل أن تتكفّل تطورات الملف السوري في خلال الشهر الأخير بتوفير كلّ ما كان ينقص «النصرة» لوضع طموحات «أميرها» موضع التنفيذ، لا سيما «الغطاء الإقليمي» والتمويل المفتوح.
المشهد الإقليمي
حتى وقت قريب، كان المناخ العام يوحي بأن الساعة حانت للشروع في «تصفية النصرة» بموجب التوافقات الروسية ــــ التركية. لكن أنقرة نجحت في المماطلة بوضع الأمر موضع التنفيذ، من دون أن يحدث فارقاً إعلان موسكو في وقت سابق أن عام 2018 سيكون عام «القضاء على النصرة».
ويبدو أن القدرة التركية على تجميع كثير من الخيوط في يدها، وحرص موسكو على الإفادة من موقع أنقرة في المعادلات الإقليمية والدولية، قد أفرزا قفزاً روسياً على ما سبق. وبرز أخيراً عامل إقليمي جديد منح «النصرة» فرصة «عودة الروح»، وخلاصته بحث الدوحة عن نافذة تعيد الدخول عبرها إلى الملف السوري. وعلى رغم التحالف الوثيق بين أنقرة والدوحة، إلا أن الأخيرة باتت طرفاً هامشياً في المعادلات السورية، ميدانياً وسياسياً.
وتفيد معلومات متقاطعة بأن «الجولاني تلقّى أخيراً إخطاراً قطرياً بتخصيص اعتماد مالي مفتوح، بعد أن كان الدعم قد تدنى إلى مستويات غير مسبوقة». وعلاوة على ذلك، «تكفّل وسطاء بإعادة تصحيح العلاقة بين أنقرة والجولاني، وبرفع الفيتو التركي الموضوع على تحرّكات النصرة»، كما تقول المعلومات. ولا يصعب الوقوف على أسباب «الرضى» التركي المضاعف، ويُرجّح ارتباطه بتطورات «الملف الكردي» وعودة الحرارة إلى خط دمشق ــــ «قسد». والواقع أن الخطط التركية ظلّت حريصة على ادّخار «النصرة» لاستثمارها عند اللزوم. ولا يعني هذا بالضرورة انعقاد رهان تركي ـــ قطري على قلب المعادلات الميدانية اعتماداً على «الرايات السود»، لكنّه يؤشر على أقل تقدير إلى مسعى لفرض «شروط تفاوض» جديدة في المراحل القادمة.
ولا يبدو اختيار «حركة نور الدين زنكي» للتضحية بها فصيلاً مستعصياً على الفهم، فالجماعة المذكورة واحداً من التنظيمات التي «نامت في فراش الجميع». وعلى رغم الصلات الوطيدة التي جمعتها بأنقرة حيناً والدوحة حيناً آخر (وبكليهما في كثير من الأحيان)، إلا أنها انفتحت أيضاً على السعوديين، كما سبق أن وُضعت على لوائح «الاعتدال»، ما أهّلها لتلقّي دعم أميركي كبير. كذلك، يرتبط بعض مراكز الثقل داخل «الحركة» بخطوط اتصال خفية مع الأجهزة الأمنية السورية. وأدت هذه الارتباطات المتشعّبة إلى تنقّل «الزنكي» بين تحالفات كثيرة، من دون أن يكون استمرارها تحت راية أي «كيان جامع» أمراً مضموناً.
وتشي المعطيات المتوافرة بأن المشهد السوري على موعد مع فصل جديد من فصول «هيكلة المجموعات»، في صورة تضمن تقليل «الرايات» ما أمكن. وأثبتت «النصرة» سابقاً أهليتها لتولي مسؤولية «تصفية الكيانات»، سواء كانت «وازنة»، مثل «جبهة ثوار سوريا» و «حركة حزم»، أو أقلّ تأثيراً مثل «الفرقة 13» وغيرها. وعلاوة على تصفية «الزنكي»، أضافت «النصرة» إلى رصيدها أخيراً كلّاً من «كتائب ثوار الشام» و«لواء بيارق الإسلام».
المشهد كما تراه «النصرة»
يعي قادة «النصرة»، وعلى رأسهم أبو محمد الجولاني، أن المتغيرات الإقليمية قد تسير ضدّهم في مرحلة لاحقة، لكنهم يسعون إلى استثمار الظرف الراهن لإعادة ترتيب الأوراق بما يضمن تحقيق أهداف عديدة. وعلاوة على تحقيق حلم «وصل ريفَي حلب وإدلب تحت راية واحدة»، والذي لم تتمكن «النصرة» من تحقيقه منفردة في أي وقت، يطمح الجولاني إلى استثمار المتغيرات في رفد فصيله المتطرف بمنتسبين محليين جدد، أو «مهاجرين» متمرّسين في «الجهاد».
وأثبتت التجارب السابقة أن استقطاب العناصر يتطلّب توافر عاملين أساسيين: الانتصارات، والملاءة المالية. وأتاحت التحولات الإقليمية عودة التمويلات الخارجية، وهو أمرٌ «استثمرته النصرة في شراء ذمم عدد من قادة الزنكي»، كما تؤكد مصادر محلية واكبت التطورات في ريف حلب الغربي.
في الوقت نفسه، تشكل السيطرة على الريف الغربي في حدّ ذاتها مصدراً تمويلياً شديد الأهمية في حسابات «النصرة»، سواء من خلال ما يمكن تنفيذه من مصادرات ونهب للمنطقة التي راكم بعض وجوهها أموالاً طائلة، أو من طريق الهيمنة على «عدد من المعابر الحيوية». وتُعدّ مناطق سيطرة «الزنكي» (سابقاً) ممراً مهماً بين مناطق سيطرة المجموعات ومناطق سيطرة الحكومة السورية، تُجبى عبره أموال وفيرة. كما تَعِد السيطرة على دارة عزّة والأتارب بتكرار الأمر بين منطقة عفرين وبين إدلب من جهة، وحلب من جهة أخرى. كذلك، ثمة هدف «جهادي استراتيجي» شديد الأهمية يَعِد الجولاني نفسه بتحقيقه في المرحلة المقبلة، وهو إعادة الهيبة إلى «الإمارة الشرعية» من خلال بدء تجربة جديدة من تجارب «إدارة التوحّش».
وفيما يتركّز اهتمام الجولاني راهناً على تثبيت السيطرة على أكبر بقعة جغرافية متصلة ممكنة، يعكف «شرعيّوه» على رسم ملامح المرحلة التالية، وعنوانها «حكم الشريعة» في المناطق «المُحرَّرة» حديثاً.
مبادرة صلح «جهادية» وتصدعٌ في «الوطنية»
أطلق عدد من التنظيمات «الجهادية»، أمس، مبادرة لـ«الصلح» بين «الإخوة الأعداء» في سوريا. ودعت التنظيمات إلى «تحكيم الشرع لحل النزاعات»، وحثت «العلماء وطلبة العلم» على تبني المبادرة. وحملت الدعوة توقيع «غرفة عمليات (وحرّض المؤمنين)»، التي تضمّ عدداً من الجماعات «الجهادية»، وعلى رأسها تنظيم «حراس الدين» و«جبهة أنصار الدين» المرتبطان بـ«القاعدة». اللافت أن التجهيز لهذه المبادرة كان قد اكتمل فعلياً قبل ثلاثة أيام ، لكن مطلقيها انتظروا إكمال «النصرة» مهمات ابتلاع ريف حلب قبل إعلانها. إلى ذلك، أعلن «الفوج 111» (ينشط في ريف حماة الشمالي)، أمس، عزمه على الامتناع عن مقاتلة «النصرة»، ليردّ «فيلق الشام» بإعلانه «إنهاء عمل الفوج» التابع له. يأتي ذلك برغم أن «الفيلق» لم يدخل فعلياً في صدام مع «النصرة»، بل اتّهمه بعض الأطراف بـ«التواطؤ معها».
وتزامن ذلك مع إعلان «الكتائب التابعة للجيش الثاني» في ريف حماة الشمالي موقفاً مشابهاً لموقف «الفوج 111». ويرتبط جميع المذكورين (الفيلق والفوج والكتائب) بـ«الجبهة الوطنية للتحرير». ومن شأن هذه المستجدات أن تشكّل تقوية لموقف «النصرة» في ريف حماة، فيما تتهيّأ لبسط سيطرتها على عدد من مناطق ريف إدلب، وتطمح إلى تصفية مجموعات جديدة على رأسها «ألوية صقور الشام».
الأخبار- صهيب عنجريني
إضافة تعليق جديد