اغتيالات في سوريا واليمن: هكذا تخدم «خلافة داعش»
حصل في اليمن أمر مماثل، تقريباً، لما حصل في أفغانستان. فقد نجحت طائرات أميركية من دون طيار في قتل عدد كبير من قادة «قاعدة اليمن»، خلال العام الماضي، أبرزهم ناصر الوحيشي، وإبراهيم الربيش، وجلال بلعيد، وحارث النظاري، وناصر الآنسي، ومهند غلاب، وغيرهم. ومن الجدير بالذكر أنَّ نشاط الطائرات الأميركية مستمرّ فوق اليمن منذ حوالي عشر سنوات، ولم يؤدّ إلى إضعاف تنظيم «القاعدة» هناك، أو التقليل من خطره. كيف والتنظيم بات اليوم يسيطر على مدن كاملة ويطبّق فيها فهمه المتشدّد للإسلام؟
ومع التذكير بأنَّ الغاية، هنا، ليست توجيه اتهامات مبطّنة، بل دراسة مدى جدوى استراتيجية واشنطن في محاربة الإرهاب، وتسليط الضوء على أنَّ ما يبدو ظاهرياً كإنجاز كبير، قد يكون في الحقيقة كارثة أمنيّة ضخمة يدفع العالم ثمنها. ومن الضروري الإشارة إلى أنَّ غياب هذه القيادات خلال فترة قصيرة، ساعد تنظيم «داعش» في ترسيخ وجوده في اليمن وتقوية معاقله في بعض المحافظات. وهذا يحتّم التساؤل عمَّا إذا كان في ذلك فائدة فعليّة على صعيد محاربة الإرهاب، خصوصاً أنَّ مقتل هؤلاء جاء في الوقت الذي انخرطوا فيه، للمرة الأولى، في دحض دعاية «داعش» ومهاجمة خلافته المزعومة.
فحارث النظاري شنّ هجوماً على «داعش» واصفاً خلافته بأنها «غير شرعيّة» في تشرين الثاني من العام 2014، وقُتل في شباط من العام التالي. وناصر الآنسي هاجم «داعش» في كانون الأول من العام 2014 وقُتل في شهر أيار. وإبراهيم الربيش الذي استفتح حملة مناهضة «داعش» منذ تموز من العام 2014 عبر الإصدار المرئي المعنون بـ «مسؤولية الكلمة» بالاشتراك مع حارث النظاري، أصدر في أواخر العام نفسه فتوى واضحة ببطلان «خلافة داعش»، وقد قُتل في شهر نيسان. أمّا مهند غلاب (مصري الجنسية)، فقد كان من أكثر الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي في مهاجمة تنظيم «داعش» وتفنيد مزاعمه حول الخلافة والجهاد، وكان شديد القسوة في ذلك، وقُتل كذلك في نيسان من العام 2015.
ولكن هناك حادثة بالغة الدلالة قد تساعد في فهم ما يجري. إذ كان من المعروف أنَّ مأمون حاتم هو من أوائل قادة «أنصار الشريعة» في اليمن، تأييداً لتنظيم «داعش»، وكان حسابه على «تويتر» نشطاً في مناصرة التنظيم منذ أواخر العام 2013، من دون أن يعلن مبايعته له. لذلك، يغدو من المثير أن نعرف أنَّ حاتم لم يُقتل إلَّا بعد تغييره هذا الموقف وإصداره بياناً في 11 تشرين الثاني 2014 يؤكّد فيه أنّ أيّ مبايعة لـ «داعش» في اليمن سيترتّب عليها مفاسد كبيرة.
وفي خطوة غير مسبوقة، ورداً على هذه الاغتيالات التي طالت قادة صفّه الأوّل، قام تنظيم «القاعدة» في اليمن في شهر حزيران 2015، باعتقال اثنين من عناصر «داعش»، هما نايف المطيري، ومساعد الخويطر، سعوديي الجنسيّة، وأعدمهما بعد ساعات على اعتقالهما. وكانت التهمة الموجّهة إليهما هي التجسّس لمصلحة «آل سعود والأميركان»، ورمي الشرائح التي مكّنت الطائرات الأميركيّة من قتل قادة «القاعدة»! بالطبع، نحن هنا لا نرمي إلى تأكيد صحّة هذه التهمة، بل نرى فقط أنَّ تضافر هذه الملابسات أصبح أكثر من كافٍ لطرح التساؤلات حول حقيقة ما يجري.
يقودنا ذلك إلى مسألة تضخيم الولايات المتحدة لما أسمته «جماعة خراسان» في سوريا، وتركيز أغلب غاراتها الجوية لقتل عناصر هذه المجموعة. وقد نجحت في قتل عددٍ منهم، أبرزهم أبو يوسف التركي (القناص)، وعبدالمحسن الشارخ (سنافي النصر)، سعودي الجنسيّة، ومحسن الفضلي كويتي الجنسيّة، وأبو محمد الشامي. وكانت واشنطن قد ادّعت أنَّ هذه المجموعة تشكّل تهديداً للمصالح الغربيّة، وقد تكون في طور التخطيط لتنفيذ عمليات ضدّها. بل إنَّ رئيس الاستخبارات الوطنيّة الأميركيّة، جيمس كلابر، اعتبر «جماعة خراسان» أخطر من «داعش». وذلك بالرغم من تأكيد زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني، أكثر من مرّة، أنَّ جماعته لا تخطّط لاستهداف المصالح الغربيّة. وما يلفت الانتباه، أنَّ هذه الجماعة، برغم خطورتها المفترضة، لم تقم بأيّ ردّ فعل على الاستهداف الأميركي لكبار قادتها، بل لم يصدر عنها حتى بيان تهديد.
لكن الأمر الجوهري الذي تبيّن من خلال متابعة أعمال قادة هذه الجماعة، وأكَّدته بعض الشهادات الصادرة عن شخصيات مطّلعة، أنَّ نهج هذه الجماعة كان يهدف إلى منع «جبهة النصرة» من الوقوع في مستنقع الغلو الذي وقع فيه «داعش». بل إنَّ بعض الشهادات أكَّدت أنَّ قادة «جماعة خراسان» كانوا من أكثر الداعين إلى التقارب مع «الجيش الحر» الذي تصفه الولايات المتحدة بالاعتدال، كما ذكر حذيفة عبدالله عزام في ما يتعلّق بأبي أنس الجزراوي. وبحسب عزام، فإنَّ الخراسانيين هم عبارة عن سبعة أشخاص قُتل منهم خمسة، ولم يبقَ على قيد الحياة سوى أبو أسماء الكوبي الذي استقل عن «جبهة النصرة» إثر خلافات بينهما، وأبو أنس الجزراوي الذي عزلته «النصرة» من منصبه في الساحل السوري، وأحالته على المحكمة الشرعيّة.
وقد لاحظ عزام أنَّ التخلّص من الخراسانيين، كما يسميهم، مكّن التيّار الأكثر تطرّفاً في «جبهة النصرة» من الإمساك بزمام قيادتها، وجرّ زعيمها الجولاني إلى حظيرته بعدما كان وسطيّاً يحاول التوفيق بين التيارين داخل جماعته.
وقد كان هذا أحد الأسباب وراء التغيير الذي حصل في «جبهة النصرة» وسعيها، منذ أواخر العام 2014، إلى تقليد تنظيم «داعش» في العديد من خططه واستراتيجيّاته، لا سيما بخصوص إقامة إمارة وتطبيق الحدود وتنامي لهجة التكفير والتخوين بين قادتها.
وما من شأنه توضيح الصورة أكثر القيام بمقارنة بسيطة. إذ على الرغم من تفاخر واشنطن بقتل بعض قيادات «داعش»، إلَّا أنَّ أعداد هؤلاء أقلّ بكثير من أعداد من قتلتهم من قيادات «القاعدة». بل إنَّ التعمّق أكثر في أسماء القتلى ومهامهم ومناصبهم، يقود إلى أنَّ واشنطن نجحت في استهداف كبار القيادات العسكريّة والأمنيّة في تنظيم «القاعدة»، بينما لم تستطع قتل أيّ قيادي أمني أو عسكري من الصف الأول في قيادة «داعش»، بالرغم من أنَّها تقود تحالفاً ضخماً ضدّ الأخير، يشمل حوالي ستين دولة! وأبرز الأسماء التي قتلتها واشنطن من قيادات «داعش»، هي أبو سياف، وأبو علي الأنباري (برغم عدم ثبوت ذلك حتى الآن)، وأبو مغيرة القحطاني. وبالنسبة لأبي سياف، فهو مسؤول نفطي لا عسكري، أمّا الأنباري، فقد كان يرأس اللجنة الأمنيّة، ولكن واشنطن قالت إنّه أصبح مسؤولاً مالياً. وهذا يعني أنَّ طبيعة عمل بعض القيادات التي تتطلّب التواصل مع الخارج وترك بصمات لهم عبر تحويل الأموال وإجراء الصفقات، هي التي مكّنت واشنطن من ملاحقتهم واستهدافهم. أمّا القحطاني، فقد فشلت الطائرات الأميركيّة في قتله مرات عدّة في العراق، ولم تنجح بذلك إلَّا بعد انتقاله إلى ليبيا حيث من الممكن أنّه لم تتوافر له التدابير الأمنيّة التي كان يحوط نفسه بها في موطنه الأصلي.
فأين الحقيقة في كل ذلك؟ وهل لدى واشنطن رؤية واضحة لمحاربة الإرهاب تستحقّ لأجلها أن تتبعها دول العالم من دون أي اعتراض؟ أم سنضطرّ إلى مشاهدة حلقة جديدة من سلسلة الاعتراف الأميركي بالإخفاق الاستخباري، والتي كان آخرها على لسان الرئيس الأميركي نفسه عندما قال بعد شهرين من توسع «داعش» وإعلانه «الخلافة» في العراق وسوريا: «أخطأنا في تقدير قوة التنظيم وخطره».
ولكن، للأسف، دائماً ما يأتي الاعتراف بالخطأ، بعد أن تكون واشنطن قد راكمت الفوائد بسببه.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد