الانفتاح أكل المقاهي الثقافية وشرد المثقفين
الجمل ـ تحقيق ـ سعاد جروس : مشهد المقاهي الدمشقية أو السورية عموماً قد تغير، فلم يعد السياسيون من الحزبيين والوزراء الحاليون والسابقون من روادها، وكذلك المراسلون وصحفيو الشؤون السياسة من الواصلين إلى بواطن الأمور. باتت المقاهي تقتصر على المتقاعدين والعاطلين عن العمل إلى جانب المثقفين والصحفيين المهتمين بالشأن الثقافي. ولم نعد نلمح في زوايا مقهى الهافانا مثقفاً مثل صدقي إسماعيل، الذي كان يكتب صحيفته(الكلب) الساخرة بخط اليد، ومن ثم يستنسخها الأصدقاء ليستمتعوا بالشعر الحلمنتيشي، وهو يستعرض أحوال البلد وأخبار السياسيين، فمقاهي شارع العابد آلت إلى زوال، سوى مقهى الروضة، الذي صار ملاذاً للمثقفين، يجتمعون فيه للثرثرة ولتقرير مكان لقائهم المسائي، حول كأس عرق أو بيرة في أزقة العابد، أو قصر البلور في باب توما أو نادي الصحفيين في العفيف، أو مطعم الريس في ساحة المحافظة، أو مطعم "رابطة المحاربين القدماء" في حال كانت الجلسة على قدِّ الحال، أما إذا كان الطموح لسهرة أو غداء عامر، فيذهب الاختيار نحو محل منزوٍ في شارع بغداد، وفي أحسن الحالات الى الربوة أو دمر أو محلات باب توما، وفي الوقت الذي يمتلئ فيه مقهى الروضة بالمثقفين والصحفيين وبالأخص وقت الظهيرة، يكاد مقهى الهافانا يخلو من زبائنه المعهودين، الذي تحول الى شبه مطعم يقدم الفول والفتة مع زيادة في الأسعار لا تناسب مستوى الخدمة، بينما يجذب مقهى الروضة بأسعاره الشعبية غالبية رواد المقاهي، كما هو أيضاً مقهى الكمال، مع فارق أن الأول يعتبر بؤرة للشلل الثقافية. بينما يذهب الميسورون من المثقفين وغالباً العاملون في مجال التلفزيون والسينما إلى مقهى البرازيل في فندق الشام الخمس نجوم، حيث تجري اللقاءات والحوارات الصحفية، كما يتم عقد اتفاقات العمل، بين الشلل الفنية التي تجمع النساء والرجال معاً. ولعل نادي الصحفيين في العفيف، الذي هو مطعم ومقهى، المكان الوحيد في دمشق الذي يجمع المثقفين بكافة شرائحهم فقراء وميسورين، رجالاً ونساء، شباباً وكهولاً، يجمعهم التواجد على ساحة الثقافة والفن أو هوامشها، وقد تزايد الإقبال عليه في السنوات الأخيرة بعدما تولاه متعهد وحوَّله إلى مطعم وبار شعبي، فقام بسد الفراغ الذي أحدثه منع تقديم المشروبات الروحية في صالة الرواق العربي التابعة لنقابة الفنون الجميلة، وكان يؤمه ولسنوات طويلة الفنانون التشكيليون وأصدقاؤهم. وهذان المكانان يشكلان استثناء في إقبال النساء من الصحفيات والمثقفات والكاتبات الشابات، إلا أن التغييرات التي طرأت على الرواق جاءت لصالح نادي الصحافيين، فاعتنى بأسعاره لتناسب رواده ممن يؤمونه لساعات طويلة في النهار والمساء.
ومهما بدا لنا مشهد تلك المقاهي مكتظاً بالمثقفين، فهي لم تعد فاعلة كسابق عهدها، في الحياة السياسية والاجتماعية ولا حتى الثقافية، وقاصرة عن تقديم الوجه الحقيقي لكواليس الاضطرابات ودرامات الصعود والهبوط والتردي في عالم بات مقبلاً على تغيرات باتت تجري بمعزل عن رواد كانوا يلمحون لما سوف يحدث، ولم يكن ذلك شغلهم وشاغلهم فقط، وإنما قد يلعبون دوراً فاعلاً فيه. لم يعد المقهى ذلك المكان الجميل المخصص لالتقاء الأصدقاء وإثارة النقاشات المتنوعة، إذ عاد وكأنما ليصبح مكاناً للترويح عن النفس بلعب الورق وطاولة الزهر وتدخين النارجيلة، ومأوى للثرثرة الرخيصة أو لأغراض أخرى على رأسها النميمة والحسد.
هل الحياة الثقافية الحقيقية تصنع في أمكنة أخرى؟ بالتأكيد، بعيداً عن الاستعراض والحذلقة والشللية. وبعيداً عن المقاهي الشبابية المنتشرة في كافة أرجاء المدينة، كمسارح لاستعراض آخر صيحات موضة الملابس وقصات الشعر والاكسسوار، والتي إن وفد إليها المثقفون، فسيبدون غرباء كلزوم ما لا يلزم، ربما لأن الثقافة باتت ضمن المظاهر المستحدثة غير لازمة.
فما أشبه اليوم بالبارحة؛ والبارحة فتعود إلى ما قبل مائة سنة خلت، عندما اعتبر ظافر القاسمي ارتياد المقاهي في دمشق عادة مرذولة، فقال عنها «لا يدخل القهاوي من كان به شهامة أو عقل أودين»، ومازال بعض الناس في بداية قرننا هذا يعتبرونها عادة غير محببة ومضيعة للوقت. ومع ذلك، هناك من الدمشقيين القدماء من رأى فيها مكاناً طبيعياً للقاء الخلان من العامة وتواضعاً في ارتيادها من قبل الوجهاء من الخاصة، إذ يذكر البديري الحلاق في أحداث 1757: أن الشيخ إبراهيم الجباوي «قد بلغ جاهاً عظيماً مع تواضع كلي بحيث يجلس بالقهاوي». اقتصر ارتياد المقاهي في ذلك الزمن، وحتى إلى ما قبل الأربعينات، على الحرفيين وأبناء البلدان العربية وأبناء القوميات غير العربية، المقيمين في دمشق، فكانت هناك مقاه خاصة بأبناء البلد أو الحي، ومنها ما هو خاص بحرفة دون سواها كمقهى اللحامين والنجارين، إلى جانب مقاه أخرى للانكشارية اليرلية والقابي قول والمقاهي الخاصة بالجنود المرتزقة التي توضع على عتباتها شاراتهم الخاصة، وبعض المقاهي كان ملاذاً لكل من يلجأ إليها، فيحميه روادها مهما كانت فعلته حتى لو أنها جريمة، وقد اشتهر منها مقهى "خبيني" الذي ظل قائماً حتى بدايات القرن العشرين في منطقة الحجاز.
مع بداية القرن العشرين والتطورات التي طرأت على المجتمع الدمشقي، راحت المقاهي تنتشر على ضفاف فروع نهر بردى المتغلغلة في الأحياء الدمشقية. فمنذ العشرينات وحتى الخمسنيات، كان شارع العابد وشارع بغداد وسط مدينة دمشق يغصان بالمقاهي وأشهرها "اللونابارك" الذي سمي فيما بعد بـ "الرشيد"، وظل هذا المقهى حتى الخمسينات، وكان مسرحاً صيفياً، يقدم أيضاً الأفلام السينمائية، وكثيراً ما تحول مسرحه إلى منبر للحفلات الخطابية السياسية والانتخابية؛ وأيضاً، مقهى "الفاروق" و"الزهور" و"الأزبكية" وغيرها، وعادة ما كان رواد تلك المقاهي من طلاب المدارس، فبعد أن يدخنون فيها الأركيلة ويشربون الشاي والقهوة يذهبون إلى نادي بردى لكرة القدم الموجود في الشارع نفسه.
وهكذا، في آواخر الأربعينات مروراً بالخمسينات والستينات، شهدت مقاهي دمشق مرحلة ذهبية، حيث تحولت من مجرد أماكن للتسلية والترويح عن النفس، إلى أماكن تجمع السياسيين والمثقفين والصحفيين ونخبة المجتمع الدمشقي. ولعب بعضها دوراً هاماً خلال تلك الفترة التي كانت تشهد تصاعد المد القومي والحراك السياسي بعد الاستقلال؛ فقد شهد مقهى الرشيد عقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث في جمع ضم حوالي مائتي شخص بين مثقف وأستاذ وطبيب وطالب، وأعلن في المقهى عن قيام حزب البعث العربي في نيسان 1947. أما مقهى الطاحونة الحمراء فقد كان يكتظ صباحاً بلفيف من صحافي الأيام والقبس والصحف الأخرى إلى جانب عدد من النواب. وفي المساء كان المشهد السياسي أكثر وضوحاً في مقهى البرازيل، حيث يجتمع السياسيون العتاة والوزراء السابقون واللاحقون وظرفاء مخضرمون يتندرون على الجميع دون استثناء.
وعلى الرصيف المقابل ينعكس المشهد ذاته في الهافانا، فيتقاسم الطاولات شباب من أحزاب مختلفة: الاشتراكي التعاوني، البعث العربي، والعربي الاشتراكي والشيوعي.. إلخ؛ وترسم الأحاديث المتناثرة في فضاءات تلك المقاهي الصورة الخلفية للأحداث الجارية سواء في وقائع الجلسات البرلمانية أو قضايا الجيش وأخبار الضباط والحكومة وأعضائها من رئيس الوزراء إلى الوزراء والأمناء العامين. وأكثر ما تمحورت حول قضية فلسطين وحرب الـ 48 والسياسات العربية، لتصاغ من هناك أهم المناشيتات الكبرى والمعارك الصحفية والزوابع والشائعات التي كانت تسبق كل انقلاب وتبشر به، بحيث كانت المقاهي أول من يتأثر من حدوثه، فتخلو من الزبائن. فكما البلد كلها تعيش ساعات من الصمت المنذر بالبلاغات العسكرية، يتحول صخب المقاهي إلى استكانة كتلك التي تعقب آلام المخاض، وما الانقلاب سوى احتمال تحقق بين احتمالات كثيرة تداولها الرواد من خلال تكهنهم بالمخططات والاتفاقات السرية والمؤامرات المشبوهة المحاكة في كواليس الحكومات والسفارات الأجنبية، وسوف تلمح لها الصحف الدمشقية التي تعود لمزاولة نشاطها بعد مرور العاصفة، ومعها يعود الأنس إلى المقاهي وتجتمع وجوه قديمة وأخرى جديدة يمثل حضورها صعود تيار وهبوط آخر. وهكذا، يتندر السابقون على اللاحقين من المخفقين، ممن يحلون ضيوفاً إما على السجون أو المقاهي، ويعودون من جديد إلى تحليل ما جرى وتنبؤ أسماء التشكيلة الوزارية القادمة. في تلك الفترة كان الدمشقيون يقولون عمن تمنح له حقيبة وزارية إن الحكومة تضع له في الحقيبة نفسها بيجاما وشحاطة وفرشاة أسنان، لوازم السجن، عند سقوط الحكومة، الذي كانوا يرونه وشيكاً دائماً، وأسرع من المتوقع.
مقاهي دمشق اليوم باتت تلوذ بالأسواق أو قريباً منها، تذهب الى حيث تكثر الأقدام المتعبة، فتتوسط ساحة الحريقة، لينهي المتسوقون جولتهم فيها، أو تتمطى على كتف سوق الشعلان، فتسحب الشباب والصبايا مع نفس أركيلة، أو تنبسط على رصيف الغساني حيث يحلو التشفيط بالسيارات، وتراشق كلمات الغزل المارقة. لم يعد للمقاهي المنزوية وجود يذكر، في ظل الانفتاح، كما لم يعد للمقاهي الثقافية هيبتها التي تجعلها حكراً على نخبة، للأسف لم يعد المجتمع يعتز بها كما كان.
الجمل
إضافة تعليق جديد