البحث عن مساحات جديدة للسرد الحرّ
نبيل سليمان علامة ثقافية فارقة في السجل الروائي العربي المعاصر. ناهيك عن كونه روائياً يصنع في كل نص عالماً جديداً يضعنا وجهاً لوجه أمام تاريخنا المخفي، الفردي والجماعي، فهو ناقد متميز يضع يده في كل لحظة تاريخية على الإشكاليات الحية التي يتوجب علينا الاهتمام بها جدياً.(...)
«حجر السرائر» (دبي الثقافية 2010) رواية عربية في امتداداتها وإشكالياتها المثارة، لكنها دمشقية بامتياز. دمشق الخمسينات. تتداخل فيها الوقائع والأحداث في علاقات وشيجة بالتاريخ الخفي الذي يقربنا من الحاضر أكثر مما يقذف بنا نحو ماض ميت حتى ولو كانت الوقائع بعيدة نسبياً، وكأن الحاضر نفسه لا يتحرك إلا وفق اللحظة الخمسينية التي ثبت فيها: مقتل الغزي عام 1930، الانقلابات العسكرية المتتالية، نكبة فلسطين، سلسلة الخيبات المتتالية والرهانات الفاشلة التي أنهكت المجتمع السوري بين الأربعينات والخمسينات. فقد تحول المشروع القومي إلى مجرد حلبة للصراعات والاقتتال المتواتر في آلية مقيتة.
قوة نبيل سليمان الروائية تكمن في كونه لا يتوقف عند أي حد من الحدود. بل إن الممنوعات والمتداول خطأ، يصبح مادة أدبية مساعدة لتحرر النص الروائي من أسر أسئلة المنع والتاريخ، ما يمنحه قوة كبيرة في القول وتوسيع مساحاته بتفتيش الزوايا الأكثر ظلمة في ميراثنا السياسي والثقافي. كل ذلك يتم وفق لعبة زمنية ومكانية يتحكم فيها نبيل بحرفية الروائي الكبير. فالماضي في «حجر السرائر» لا يأتي إلا ليضيء تاريخاً فردياً أو جماعياً مطموراً. الشخصيات الروائية داخل هذا السياق، ليست مفرغة من الحياة بل هي في صلبها وحاملة لتاريخها وأساطيرها. إهداء الجدة الأحجار الكريمة لحفيدتيها نديدا وابتهال بنتي درة حفظي، هو استمرار لهذه الحياة التي تخترقها جراحات التاريخ وأساطيره. إضاءة حياة رمزي من خلال سرد أخيه الدكتور عبدالواسع الكهرمان الذي يبين كيف أن أخاه عاد من باريس بعد أن ظل وفياً حتى الموت لزوجته، قبل أن تنفيه السلطات الفرنسية بعد عودته إلى الحسكة، ولم تشفع له، لا ثقافته الفرنسية ولا تحضره، كلها علامات عن عالم تخترقه الرغبات الدفينة والجرائم المعطلة والمظالم القاسية.
لا يتوقف نبيل عند حدود السياسي في «حجر السرائر»، ولكنه يدخل في عمق شجن المجتمع السوري الذي لم يحل قضاياه الكبرى التي شغلت تاريخه وتشغل حاضره، وظل رهين أزمات تتكرر باستمرار، تحتاج إلى قراءات مجردة تخرج عن الفهم الجاهز والمسبق للتاريخ. فقصة الحب المأسوية التي جمعت مثلاً المحامي المسلم منذر كتو وزميلته المسيحية ميريل جميرا التي دفعت بهما إلى الهرب من دمشق إلى اللاذقية، بسبب التهديدات ورقابة عيون القتلة، هذه القصة وغيرها ليست إلا استعارة عميقة معبرة عن اختلالات مجتمعية بنيوية عمقها سلباً حاضرنا بدل أن يغنيها بحيث تستجيب حاجات مجتمع مدني في طور التكوين. هناك حالة تراجع كبيرة أمام مكاسب الماضي الذي لم يكن كله نوراً ولكنه لم يكن أيضاً ظلاماً دائماً.
ايحاءات متعددة
يتبدى المشروع السردي الذي بناه نبيل سليمان في «حجر السرائر» من عنوانه المملوء بالإيحاءات الكثيرة. الكهرمان الذي اصطبغت به كل الأسماء، يتجاوز الصفة المباشرة له والتسطيحية، ليتحول إلى خيط من النور متحكم في مسار الرواية وأحلام وأوهام الكثير من شخصياتها. فهو الذي ينظم شبكة القص ويتحكم بخيوطها المعقدة. ليس حجراً عادياً ولكنه حجر تتعلق به حيوات الناس وأوضاعهم وأحياناً حتى سيرهم ومساراتهم المختلفة التي يتحكم فيها الحظ أو سوء الحظ المرتبط بالحجر الكريم الناطق بالأسرار.
مصير أسرة رمزي الكرمان رهين العلاقة بالأحجار الكريمة التي تتحكم ليس فقط بتأويل عنوان الرواية ولكن بمصائر العائلة المتناقضة والمتجاذبة بين الفرح والخوف والخسارات والأمراض. داخل هذه الأحجار والمهنة المتوارثة، تنمو المصائر القلقة والتراجيدية. حجر الحظوظ الغريبة الذي يسمح بالنفاذ إلى السرائر الخفية، الارتباط به هو ارتباط بالحياة. بل إن أحياناً نشوء البلد نفسه ومسار ساسته محكوم بتجليات هذا الحجر السحري الذي يقول حاضراً ولكنه يعلن أيضاً عن مستقبل متشائم أو مفرح للأفراد والجماعات. سورية نهايات الأربعينات وبدايات الخمسينات ارتبطت بهذا المظهر التراجيدي المتناقض الذي تتحكم به من جهة الاغتيالات والجريمة السياسية، ومن جهة أخرى نشوء الأحزاب والتنظيمات النقابية والفنية على رغم المرض الاجتماعي والسياسي المستشري. فقد كان المجتمع على جنونه وحساباته، أكثر انفتاحاً مما نعيشه اليوم عربياً من مشكلة القانون واستقلالية القضاء وصيانة الحريات الفردية. هذه التراجيدية طبعت المجتمع أيضاً بمنظومة من التصورات جعلت التخلف ينتصر على العقل في كل المجالات الحياتية. (...)
رواية «حجر السرائر» أكثر من جريمة قتل الأب الأساسي للدستور السوري، وأكثر من صراعات وانقلابات ملأت نهايات الأربعينات والخمسينات، فهي اندثار لمشروع كامل بدأ قوياً حتى في صوره الأصعب، وانتهى هزيلاً داخل السم والقتل والمكائد المختلفة. وكأن الرواية تقضي من خلال هذه اللحظة البدائية بأن كل ما يبنى على الغلط مآله الانهيار والاندثار مهما بدا قاراً وثابتاً. الجريمة ليست إلا ذلك الفعل الذي أوقف المنظومة المدنية وعوضها بدوار لم يتوقف أبداً منذ الأربعينات إلى اليوم. نحن أمام جريمة سياسية محبوكة الخيوط تشابكت فيها مصالح الكثيرين: الزوجة درة حفظي المتواطئة مع عشيقها خطيب حفظي، وابنتا الضحية ابتهال ونديدا، وأخوه الدكتور عبدالواسع الأليف الطيب لدرجة الرخاوة. وارتباط مسارات هذه الشخصيات الحياتية بمسارات الشخصيات الحاكمة السياسية والعسكرية المتصارعة على الحكم. والغريب في الأمر أن القارئ بمجرد دخوله في صلب الرواية، يصيبه دوار الحاضر ومآزقه أكثر من تاريخ الماضي، وكأننا منذ أكثر من نصف قرن نراوح زمناً لم يتحرك إلا قليلاً ليتقهقر أكثر. فالذي يشغل نبيل سليمان حكاية نسجها وشيدها من علامات القلق لتحمل حاضراً هشاً وتاريخاً لم يبح بكل أسراره. مآلنا اليوم كعرب، صنعه آخرون ونتلقاه بيأس ودوران مفرغ من كل معنى. ولهذا ارتكزت الرواية في العملية السردية على شخصيات نعرفها من كتب التاريخ أو ربما عايشنا بعضها، صنعت تاريخ الشام والتاريخ السوري تحديداً: حسني الزعيم، أنطون سعادة، أديب الشيشكلي وغيرهم، ولكن الرواية لا تتوقف عند حدودها إذ تتداخل مع أسماء صنعها فعل التخييل الذي يلاقي مصائر الجميع في لعبة أدبية معقدة ومركبة في شكل جرائم تتناسل بلا توقف، وهزائم وإخفاقات تتوالد باستمرار من دون أن يبرز أفق ما يفتح بوابات الأمل المغلقة منذ أكثر من نصف قرن. ما يحدث اليوم في الوطن العربي، في تونس ومصر والجزائر واليمن والأردن وغيرها، من هزات عنيفة أعادت الأسئلة القديمة إلى الواجهة، يجعلنا بالضرورة نصغي إلى رواية «حجر السرائر» في شكل مخالف وعلى غير ما اعتدناه، فهي تقوله بامتياز.
واسيني الأعرج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد