البرابرة تطاولوا على أبي تمام، لقد «ذهب الحياءُ»
ليست التماثيل وحدها هي أهداف مقبلة لهذه الجماعة الإرهابيّة، بل هناك معلومات تفيد بتهديد «داعش» للكنائس هناك، وتوعّدها بأنّها ستحرقها جميعاً، ناهيك عن مصادر صحافيّة تؤكد أنّ عمليات التصفية بدأت فعلاً لمن تراه لا يتفق مع تعاليمها.
والمعروف أنّ تهديم التماثيل، لم تبدأ قصته في العراق. قبله شهدت سوريا تهديم الكثير منها، بحجة أنّها «أصنام ولا بدّ أن تهدم»، بدأت في شباط (فبراير) من العام الماضي مع تمثال أبي العلاء المعري الذي قطع رأسه مسلحون تابعون لجبهة «النصرة» في معرّة النعمان في محافظة إدلب السوريّة، وحطّمت «داعش» بعدها أشهر تمثال للخليفة العباسي هارون الرشيد في حديقة الرشيد في محافظة الرقة.
وأبو تمام (804 ـــ 846 م) المولود في إحدى قرى حوران السوريّة أيّام حكم هارون الرشيد، رحل إلى مصر واستقدمه الخليفة المعتصم إلى بغداد وفضّله على غيره من الشعراء، ثمّ أقام في الموصل بعد تولّيه بريدها. بقي لعامين فيها ليتوفى هناك. له من الآثار المكتوبة: «فحول الشعراء»، و«ديوان الحماسة»، و«مختار أشعار القبائل»، و«الوحشيات» وهو ديوان الحماسة الصغرى، وديوان شعره.
ربّما لم «يشفع» له لدى «داعش» أنّ أبي تمام أسلَم بعدما كان نصرانيّاً. لعلّه بقي مسجّلاً عندهم بكونه ابن «ثيودوس» الخمّار الدمشقي، ولم يصلهم منذ مئات السنوات أنّه أوصل نسبه بقبيلة طيِّئ، واستبدل اسم أبيه بأوس بن الحارث الطائي. على أي حال، لن يتغيّر شيء حتى لو أنّ التنظيم حدّث فعلاً سجلاته حيث يقال إنّه جرّد النساء من أسمائهن وعددهن ووضعهن الاجتماعي، وهدّد من يخالف الشريعة والثوابت التي وضعها في «وثيقة المدينة» (تضم أحكاماً وعقوبات لمخالفيه) وحذّر فيها من «تجارة الدخان والخمور»، وطالب نساء الموصل بـ «الحشمة والستر وترك الخروج من المنزل»، فهو في النهاية أكّد «طمس القبور والمزارات الشركيّة في العراق».
الخبر كان صاعقاً للشعراء أولهم عبدالزهرة زكي ومحمد مظلومالخبر كان صاعقاً لجموع الكتّاب والمثقفين العراقيّين. جملة من الاستنكارات جاءت على لسان شعراء البلاد، منهم عبدالزهرة زكي ومحمد مظلوم وعبدالعظيم فنجان وأحمد عبدالحسين، وكتب الصحافي مشرق عباس بالاستناد إلى شعر صاحب التمثال المغدور: «وَهَذا صَباحُ اليَومِ يَنعاكَ ضَوؤُهُ/ وَلَيلَتُهُ تَنعاكَ إِن كُنتَ تَشعُرُ». العظماء لايخلدهم تمثال، ومن هدم تمثالك لا يطاول أطراف
ردائك».
هذه حرب بلا أخلاق ولا ثوابت، الخصم فيها لا مجال لأي حوار معه. لغته القتل، وشعاره الأوحد تكفير الآخر ونسفه، وإن لم يتحقق له ذلك بالرصاص، فالديناميت موجود وصيحة «الله أكبر» حاضرة لتشظية الأجساد إلى ذكريات عن حياة ستلحق العار بتاريخها يوم كان بينها «داعش» وغيره من أسياد الظلام والإرهاب.
ولعل أبا تمام لم يواجه تمثاله رجال الدولة الإسلامية إلا ببيتين من شعره، وهما: «إذا جَارَيْتَ في خُلُقٍ دَنِيئاً/ فأنتَ ومنْ تجارِيه سواءُ.. فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ/ ولا الدُّنيا إذا ذَهبَ الحَياءُ..». تأتي هذه الجريمة بحق الحضارة بعد أيام على دقّ «الأونيسكو» ناقوس الخطر، معربةً عن خشيتها من تكرّر مشهد بغداد بعد الاجتياح الأميركي عام 2003 ونهب الآثار والكنوز، لكن في أماكن أخرى من العراق هذه المرة، إذ أعلنت خوفها «من تعرض إرث العراق الحضاري للتدمير والسرقة». وناشدت المنظمة الأممية جميع الأطراف من خلال بيان أصدرته قبل أيام بـ «الامتناع عن كل ما قد يضرّ بالإرث الثقافي، بما فيه المواقع الدينية، إذ إنه لا يمثّل الهوية العراقية وحدها بقدر ما هو إحدى أقدم الحضارات التاريخية».
حسام السراي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد