التلفزيون السوري يستغني عن خبرات رواده
ثمة وجوه وأسماء عريقة ستغيب عن شاشة التلفزيون السوري من الآن وصاعداً... وجوه طالما رافقت مسيرة هذا التلفزيون الذي يبلغ العام القادم نصف قرن من عمره الحافل بالإنجازات الباهرة في البدايات، وبالكثير من الإخفاقات والارتباكات التي ازدادت وتيرتها في العقد الأخير من عمره... حين انفض كثير من السوريين عن الارتهان لحاجة متابعة التلفزيون المحلي، بعد دخولهم عصر الفضائيات بخياراتها المتنوعة، وإغراءاتها اللا متناهية.
غياب الأسماء العريقة أو التخلص منها في التلفزيون بقنواته الثلاث، وفي إذاعة دمشق بموجاتها المختلفة، سيتحقق بفضل قرار صدر أخيراً بمنع كل الإعلاميين الذين بلغوا سن التقاعد من العمل في الإذاعة والتلفزيون السوري، بأي شكل من الأشكال... لا كمتقاعدين، ولا كعاملين على (البونات الانتاجية) وهي التسمية التي تطلق على من يعملون بـ (القطعة) من غير الموظفين من أجيال مختلفة.
القرار صادر عن وزارة الإعلام السورية، بتوقيع وزير الإعلام محسن بلال، بتاريخ الثامن من شهر حزيران (يونيو) الجاري، وينص على أنه:
(ينهى تشغيل جميع العاملين لدى المديرية العامة للإذاعة والتلفزيون، المدونة أسماؤهم أدناه، الذين استمروا بالعمل على البونات، بعد أن بلغوا السن القانوني، وأحيلوا على التقاعد، ويعتبر كل من لم يرد اسمه منهم، قد سقط سهواً ويعامل معاملة نظرائه) أما الأسماء التي شملها القرار، والتي تقارب المئة اسم أو يزيد في حال طبقت قاعدة (من سقط اسمه سهواً) فهي تضم أسماء مذيعين قديرين في التلفزيون والإذاعة، ومخرجين رواد، ومثقفين كبار في مجال مهنتهم واختصاصهم.
للوهلة الأولى، يبدو هذا القرار، محاولة لتجديد شباب التلفزيون السوري، وبث الحيوية في أثير إذاعة دمشق... فشعار إفساح المجال أمام الشباب للعمل، يبدو شعاراً براقاً ومثيراً للتعاطف وخصوصاً في الإعلام السوري الذي يعاني بالفعل من الترهل... لكن عندما ندرك أن ترهل الإعلام يكمن في العقليات، وليس في الخبرات... فسندرك أي فداحة ينطوي عليها هذا القرار الغريب من نوعه حقاً!
في سنوات مضت وعندما صدرت توجيهات عليا في سورية بمنع التمديد الوظيفي بعد بلوغ السن القانونية للتقاعد، أرعب القرار الكثير من عشاق التشبث بالمناصب والكراسي، ولجأ بعضهم إلى دوائر النفوس في مدينته أو بلدته، كي يطعن في سجلاتها بحجة أن والديه لم يكونا دقيقين عندما سجلا سنة ميلاده، وأنه تعرض لنوع من التكبير... وهو يطالب الآن باسترداد ما أضيف لعمره من سنوات إضافية زوراً!
يومها تحولت مثل هذه المحاولات إلى مادة للتندر، بل وأصبحت شائعة يطلقها بعضهم على بعض زملائه الذين بلغوا سن التقاعد، كي يرى ردة فعله وهو يقترب من فقدان مكتسباته الوظيفية التي أضاف عليها الفساد خبرة إضافية في تصريف وتسليك الأمور والمصالح... ويومها كان أكثر المتضررين هم إداريون متسلطون على مفاصل الإعلام، يسومون زملاءهم الشباب من الوافدين الجدد سوء العذاب، بحنكة بيروقراطية لا يجارون فيها!
لكن الحال فيما يتعلق بالقرار الجديد مختلف تماماً، فلا أعتقد أن أحداً يريد الاستعانة بالجيل القديم في إدارة مناصب، أو ترؤس دوائر، أو البقاء في السلك الوظيفي على حساب جيل شاب ينبغي أن يحصل على فرصته، بدل أن يقف في طوابير الانتظار يلوك بطالته بانتظار أن يقصي الموت لا سمح الله - من يصعب قلعه بقرار إداري... لكن بالمقابل، ما الذي يمنع من الاستفادة من خبرة الجيل القديم وهم خارج العمل الوظيفي الرسمي، وقد أنضجت السنوات خبرة هؤلاء وتجربتهم الإعلامية، وصقلت السنون مواهبهم، وجعلت من العديد منهم مراجع حقيقية في اختصاصاتهم الإعلامية؟!
ما الذي يمنع أن نرى الإعلامي القدير مهران يوسف يطل على شاشة التلفزيون لتقديم نشرة أخبار وفي قناة مثل (الجزيرة) هناك أكثر من مذيع أو إعلامي (جميل عازار مثلا) من هم أكبر منه سناً؟! وما الذي يمنع أن يرافقنا صوت الإذاعي المخضرم طالب يعقوب في برنامج من برامجه المميزة التي اعتاد أن يقدمها لإذاعة دمشق، وهو في سن التقاعد، وفي معظم الإذاعات العربية إعلاميون مخضرمون في مثل سنه أو أكبر، لا يزالون يواصلون عطاءهم؟! وأين يمكن أن تعثر إذاعة دمشق على مخرج دراما بثقافة وخبرة الأستاذ فاروق حيدر، الذي يعتبر من أساتذة الإخراج الإذاعي دون شك!
ولعل المثال الأكثر وضوحاً على مراعاة الخصوصية الإبداعية للمهنة، أن القوانين في كثير من الدول قد تمنع من تجاوز سن التقاعد من شغل منصب رئيس تحرير في صحيفة أو مجلة مثلاً، لكن هذه القوانين، لا تمنعه بالتأكيد من أن يستمر ككاتب في الكتابة والتواصل مع القارئ ومع زملائه الصحافيين من جيل آخر، يتعلمون من تجربته ومن كلماته، حتى وهم يختلفون معه في الرؤى وتقاليد العمل وخصوصية الزمن!
يعرف معظم العاملين في الإعلام السوري، أن خبرة الجيل الأوسط في الإعلام، محدودة وتفتقر للثقافة المهنية الحقيقية، وإذا كان من الطبيعي أن يأتي دور هؤلاء الآن لتسلم المناصب الإدارية أو الإعلامية بحكم الأقدمية لا أكثر، فإنه من غير الطبيعي أن نحرم جيلا شاباً بحاجة للتدريب والتعلم من تجارب الآخرين، من الاحتكاك بالبارزين من أبناء الجيل القديم والمخضرم، الذين لن يبقوا قادرين على العمل والعطاء إلى ما لا نهاية بالتأكيد، ويجب اغتنام فرصة وجودهم الآن، بل إصدار قرار جماعي بطردهم ومنعهم من العمل بأية صيغة والاستغناء عن خبراتهم بلا أي تقدير!
وبالطبع فليس كل أبناء الجيل القديم عباقرة وأساتذة، وليسوا جميعهم قادرين على تقديم خبراتهم للأجيال الشابة، وإثراء الشاشة وأثير الإذاعة بعطائهم في زمن النضج، وبالتالي فما ندافع عنه أصحاب الخبرات الحقيقية فقط، وهؤلاء يمكن تمييزهم لمن يستطيع أن يميّز... ولمن يرى العمل الإعلامي بعقلية منفتحة، تدرك إنجازات المبدعين والمتميزين، وما حققوه لمهنتهم خلال مشوار العطاء الطويل.
من المؤسف أن القرار تعامل مع الإعلام كعمل وظيفي، وتعامل مع مبدعين كبار باعتبارهم مجرد موظفين بلغوا السن القانونية وحسب... وعدا عما ينضح به هذا القرار من قلة وفاء وسوء تقدير، فإنه يشكل نموذجاً لسياسة التخبط في تطوير الإعلام السوري، الذي يتردى يوماً بعد آخر، رغم كل شعارات التطوير المرفوعة... لأنه باختصار يريد ممارسة التطوير بإتباع سياسات مرتجلة، لا تأخذ بعين الاعتبار الجانب الإبداعي والشخصي الذي يشكل جوهر الإنجاز الإعلامي لإعلاميين، يمكن تغييبهم عن الشاشة بقرار، لكن لا يمكن إلغاؤهم من الذاكرة بقرار بالتأكيد.. ولا يمكن وضع خبراتهم في سجن الإقامة الجبرية بقرار... إلا إذا كان هذا (القرار) يزدري تلك الخبرة ولا يعترف بها!
نيشان يقلب الطاولة في 'على طاولتي'!
عاد المذيع نيشان ديرهاروتنيان إلى الظهور مجدداً بعد ما قيل عن تعثر مشروع برنامجه الضخم مع الإم بي سي، بسبب الأزمة المالية العالمية المباركة التي نرحب بها إن كانت ستحد من ظهوره!
نيشان عاد إلى خيارات المحطات اللبنانية، وعبر شاشة (إم تي في) ليقدم برنامجاً حوارياً بعنوان (على طاولتي) يسرح فيه ويمرح بنفس المدة الزمنية الطويلة التي اعتاد أن ينتزعها لبرامجه، والتي لا يفتأ رغم ذلك - يعلن خوفه من انتهاء وقت البرنامج قبل طرح كل أسئلته على ضيوفه.
لكن بعيداً عن هذه الاعتبارات، لا بد من الاعتراف أن نيشان في برنامجه الجديد، قد بدأ يغير من توجهه المدائحي في تملق ضيوفه، بعد سلسلة الشتائم التي لاقاها برنامجه السابق (العراب) في عدد من الصحف العربية، وعلى الأخص في زاوية (فضائيات وأرضيات) في 'القدس العربي' حيث قال فيه كتاب هذه الزاوية جميعاً، ما لم يقله الإمام مالك في الخمر!
نيشان في (على طاولتي) يسأل أسئلة مختلفة، يدخل مع ضيوفه في سجال، يحاول أن يحاورهم من موقع المختلف معهم لا المصفق لإنجازاتهم، رغم أنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من التصفيق بالكلمات بين الحين والآخر... وهو يراعي في هذا التوجه الجديد، برامج حوارية أخرى على المحطات اللبنانية لزملائه الإعلاميين، تشد مشاهديها بسخونة أسئلتها، وكشف جوانب من شخصيات وفكر ضيوفها من خلال الاختلاف أو الاشتباك معهم، وليس تأليههم كما كان يفعل صديقنا نيشان في (العراب) غير المأسوف على غيابه.
نأمل أن يكون التوجه الجديد لدى (نيشان) نابعا من قناعة وإيمان بأهمية هذا التوجه... فما من شيء يا سيد نيشان سيخلصك من سماجتك سوى الابتعاد عن المجاملات والنفاق وفرش البساط الأحمر أمام ضيوفك، كي يتحفونا بأكاذيبهم عن أمجادهم فيما أنت تبارك هذا المسار!
نتنياهو المدهش!
ما يدهش في خطاب بنيامين نتنياهو الأخير، ليس ما قاله بالتأكيد... فكل ما قاله عن الاعتراف بيهودية إسرائيل والاستيطان وحق العودة وتوطين الفلسطينيين يعبر عن فكره وسياساته بوضوح، وكل ما قاله يعبر تالياً عن إدارة الناخبين الذين أعادوا انتخابه... المدهش حقاً، هو ردة فعل بعض أجهزة الإعلام العربي، وبعض السياسيين العرب الذين اندهشوا مما قال، وأعربوا عن قلقهم إزاء عملية السلام!
فكأنهم كانوا يتصنعون الدهشة، أو كأنهم يحملون ذاكرة مثقوبة، لا تسعفهم لرسم صورة أمينة لتطرف هذا الرجل المزمن، الذي لا يتوقع أي عاقل بالتأكيد أن يعود بأي فكر جديد أو خطاب جديد... والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تحتاج ما يسمى (عملية السلام) إلى تصنع كل هذا الكم من الدهشة؟! أم هل نتوقع أن يخجل نتنياهو من خيبة أمل بعض العرب من خطابه، كي يداوي خيبة الأمل هذه بقليل من حسن الظن؟! سؤال لا يجيب عنه سوى المثل الشعبي المأثور: من يجرب المجرب عقله مخرب!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد