الديكتاتور في الأدب من الصورة الكاريكاتورية إلى التضخيم الأسطوري
ما الذي يجعل من الديكتاتور مصدر وحيٍ أدبي؟ إنها بلا شك طبيعته شبه الإلهية التي تتجاوز الحدود البشرية لتكتسب طابعاً أسطورياً راسخاً عبر القرون. فمن ديكتاتور غابريال غارسيا ماركيز الغارق في عزلته الى مزرعة الحيوانات الديكتاتورية في رواية جورج أُرويل، تتعدد الروايات وتختلف المقاربات. فما هي التقنيات الروائية التي يعتمدها الكتّاب لبلورة أسطورة الديكتاتور؟ وما هو الواقع التي تُستمد منه هذه الصور الأدبية؟
انتشرت الديكتاتوريات في العالم في القرن العشرين. منذ سنة 1918، عمّت الشمولية السياسية، فبرزت الأنظمة الديكتاتوية خاصّةً بين الحرب العالمية الأولى والثانية. وعلى الرغم من انهيار أهم ديكتاتوريتين، النازية والفاشية، ظلّت الأنظمة الشمولية تتوسّع في مختلف أنحاء العالم. فحكمت 132 ديكتاتورية في 169 بلد في العالم. في هذا السياق، شكّل موسيليني، فرنكو، هيتلر وستالين أساطير في عالم الفكر والفن، فاكتسبت السلطة السياسية طابعاً مقدساً. هكذا، تمازجت الديكتاتورية بالبعد الديني في رواية «الأفعى ذات الريش« Le Serpent à Plumes للكاتب د. ه. لورانس، حيث اقترنت شخصية دون ريمون كاراسكو بصورة المسيح -المعكوس. إذاً، تصحب أجواء الديانة المسيحية صورة الديكتاتور في بعض الكتابات الأدبية. إنما في روايات أخرى، تبرز شخصنة السلطة، أي أن السلطة ترتبط بإنسان هو الذي يتحكّم بالعقيدة وبالمصير الجماعي. تستمد هذه الصورة السياسية المستبدة قوّتها من فعل الإيمان. إذ ان الشعوب تتشبث بها، تضخّمها لترقى بها الى مستوى أسطورة تتجاوز الطبيعة البشرية. وهكذا، يخرج الديكتاتور من الحدود البشرية، يتخطّى المكان والزمان ليصبح صورة شبه جامدة راسخة الى الأبد في الخيال الجماعي.
إله أم مسخ
وبفضل هذا التضخيم يصبح الديكتاتور إلهاً، إنما سرعان ما يتحوّل الى مسخ. بالفعل، تفرض الديكتاتوريات نفسها في لحظة تاريخية معيّنة، وهي لحظة تتحرّر فيها الأفكار من الواقع ومن مرور الزمن، فتطغى صورة القائد الذي يجسّد الحقيقة المُطلقة. في تلك اللحظة، يظهر الديكتاتور كأنه صورة إيجابية بنظر شعبه، فهو الذي يحيمه، يمنحه شعور بالتفوق ويسمح له أن يسيطر على سائر الشعوب. تلك هي لحظة القوة الجماعية التي ترسّخ الإيمان في نفس الشعوب المحكومة من الديكتاتوريات. قد تكون تلك اللحظة التاريخية مجرد وهم، إنما هي بلا شك تؤثُر بعمق على مجرى الأحداث. وقد تجلّى ذلك في رواية ميشال راشلين «السعادة النازية» (1975) الذي يعرض تأثير انتصار النازية على مختلف بلدان العالم كالجزائر، الفيات-نام، إيرلندا، أفريقيا والشرق الأوسط. تناول هذا الكاتب الإجرام، الاضطهاد، الكراهية والعنصرية التي رافقت النازية. وبالفعل، غالباً ما تدين الشعوب الدماء التي تُسفك في ظل الديكتاتوريات. إنما لماذا سالت كل هذه الدماء؟ في الواقع، العقيدة تبرر نفسها، تبرر العنف والدمار. حين يؤمن شعب بحاكمه وبأيديولوجياته، يتهيأ له أن كل ما يقوم به هذا الحاكم هو الصواب. وفي الواقع، لا يسيطر الديكتاتور على شعبه بالقوة أو رغماً عنه. إذ انّه في معظم الأحوال، يستمد الحاكم قوّته من إيمان شريحة كبرى من الشعب المحكوم. وبالفعل، لا تقوم الديكتاتوريات دون إجماع شبه جماعي من قِبل الشعوب التي تسيّرها. لذلك، غالباً ما نتسأل: كيف تنقلب هذه الصورة المُمَجدة الى مسخ بشكل مفاجئ؟ وكيف يتحوّل الإله الى شخصٍ مُدان قد يُحاكم، يُسجن أو يُعدم؟
تفكّك الديكاتورية
في الواقع، يترافق انهيار الديكتاتوريات مع تفكّك العقيدة وفقدان الإيمان المُطلق بها. يعمّ الشك، تنطرح الأسئلة. وقد برز ذلك في الأدب. إذ ان إثر بروز «الأسطورة الستالينية»، بدأت أول شهادات لمنفيين تظهر على غرار ف. سيرج، أ. كوستلر، م. سباربير الذين تناولوا الناحية المخفية لشمولية ستالين «الله الأحمر». تلك الفضائح التي رُويت أظهرت حقيقة ستالين بنظر مناصري الشيوعية. ومن أهم الروايات الأدبية التي انتقدت النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي «مزرعة الحيوانات» Animal Farm لجورج أورويل. تبدأ الرواية بليلة يتجمّح خلالها الحيوانات وعلى رأسهم خنزير المزرعة، الذي راح ينمّي في خيالهم فكرة أن العالم لكان مكاناً أفضل لو تخلّص الحيوانات من الناس. وهو يشجعهم على الانقلاب على ملاكّي المزرعة ويعدهم أنهم سيستفدون من إيجابيات عديدة لو فعلوا ذلك. وبعد يوم كامل حُرم خلاله الحيوانات من الطعام، يثورون من الغضب، يهاجمون مالك المزرعة السيد جونز والمزارعين، ومن ثم يطردونهم من المزرعة. هكذا، يتم تعيين قادة المزرعة الجُدد، وهم الحيوانات الأكثر ذكاء. فيؤَسَّس نظام جماعي لتنظيم أمور المزرعة. هكذا، شيئاً فشيئاً، تتولى الحيوانات أمورهم بأنفسهم. وأخيراً، يرتدي الخنازير ثياب ملاكي المزرعة، ويدعون مزارعي المناطق المجاورة ليتصالحوا معهم. فيؤكد المزارعون للخنازير أنهم أبلوا بلاء حسناً على مستوى إدارة أعمالهم. وتنتهي الرواية بمقولة: «كل الحيوانات متساوون، إنما بعضهم متساوٍ أكثر من غيره». فما الذي تغيّر فعلاً؟ ظلّت اللامساواة تفرض نفسها على الرغم من أن الحيوانات حلّوا مكان البشر واستولوا على إدارة مزرعتهم. يجسّد هذا الانقلاب التحوّل الجذري الذي حصل في الاتحاد السوفياتي حين استأثرت الدولة بالملكيات الخاصة، وتحرّر العامل من سلطة ربّ العمل. ولكن نظام ستالين الديكتاتوري، الذي طوّر الاتحاد السوفياتي، كان عنيفاً وظالماً، فماذا نفضّل؟ وما هو الحل؟
وفي معظم الأحيان، تُدان الأنظمة الديكتاتورية عندما تُصبح عاجزة عن الدفاع عن نفسها. فما إن يُهزم الديكتاتور وتتفكك الهيكلية الحاكمة حتى تعيد الشعوب النظر بنفسها وبالعقيدة التي اعتمدتها. هكذا، تنهار صورة الديكتاتور بشكل تدريجي، وتساهم الجرائم والمجازر التي اقترفها بتحطيمه على مستوى الرأي العام. ينهار الإله لتظهر الحقيقية الردئية: رائحة الجثث العفِنة، معتقلات، بكاء أمهات فقدن أولادهنّ، مفقودين... ماذا فعلنا؟ انتهى الحلم الجميل، الذي تنمّيه الحاجة البشرية الجماعية الى الإيمان بالمثاليات، وحلّت محلّه الحقيقة التاريخية. في تلك اللحظة، يبدأ الروائي قصّته ليخبرنا حكاية الديكتاتور. في هذا السياق، يعتمد الروائيون تقنية التضخيم الأدبي تارةً، أو التسخيف والاستهتار طوراً. إذ ان الروائي يدرك أن تلك الصورة الأدبية التي سيعرضها للقراء ستصبح جزءا من التاريخ وستترسّخ في الخيال الجماعي لتجسّد صورة الديكتاتور عبر التاريخ.
عزلة الديكتاتور
في «خريف البطريرك»، اعتمد غابريال غارسيا ماركيز أسلوب النقد اللاذع في سياق تناول الديكتاتوريات. ولطالما تمتعت كتابته بنبرة أدبية يصف من خلالها عالم ديكتاتوريات أميريكا اللاتينية المُذهل. إنه عالم يطغى عليه الفساد، النميمة، الإبتزاز، الاغتيالات، التصفيات وتعطّش مرضي للسلطة حوّلته العزلة الى كبت. إن بطل «خريف البطريرك» هو ديكتاتور يتراوح عمره بين 107 و232 سنة. من خلال هذه الصورة المجازية، يعرض الكاتب إشكالية الترابط بين الحكم الديكتاتوري ومرور الزمن. الديكتاتور هو، على غرار التُحف الفنية، صورة شبه جامدة، يبدو كأن الوقت لا يطالها فعلياً. لذلك، غالباً ما يلقى الديكتاتور حتفه حين تنتهي فترة حكمه. وبالفعل، انتحر هتلر وموسوليني قُتل. هؤلاء القادة ارتبطوا بالأيديولوجية التي اعتمدوها، فباتوا يجسدّونها الى حدَ أنهم رافقوا تلك العقيدة في موتها. الديكتاتور، الذي يبرز في «خريف البطريرك»، هو حاكم متسلط مُرتاب ومُهتاج، يمارس العنف بسهولة: «خنقها بجلدة مهمازه الذهبي، بلا ألم أو تأوّه، وكأنه الجلاد السيّد، على الرغم من أنها الشخص الوحيد على سطح الأرض الذي مُنح شرف أن يلقى حتفه على يده في السلم أو في الحرب». يسيطر هذا الحاكم على بلاده ذات البنية المتخلّفة، فيغوص في عالم من الكوابيس والأحلام الذي يحوّله الكاتب الى مواقف مضحكة. وأجمل ما في الرواية هو غرام الديكتاتور بملكة جمال الفقراء مانوال سانشيز. يتداخل حب السلطة بافتتان الديكتاتور بتلك المرأة في رواية يسردها ماركيز برقّة ساخرة، مستخدماً جملاً ذات طول غير مألوف. فهل ينجح هذا الرجل الذي يتمتّع بسلطة مطلقة أن يُفلت من الفساد الذي تنتجه السلطة؟ غالباً ما يؤسر الديكتاتور في منطق السلطة. فيمارسها على الجميع بشكل غير متوازن أحياناً. وكيف لانسان، يتميّز عن غيره بقوّة شبه إلهية، أن يتحكّم برغبة ممارسة السلطة على الآخرين وإطلاق العنان لغرائزه؟ هكذا، يمارس الديكتاتور ما يحلو له من قتل، شتم واستبداد. وبهدف تحقير صورة الديكتاتور الظالم، يُبرز ماركيز صورة جسد الحاكم المُفكّك التي يستخدمها الكاتب ليدمّر جمالية تلك الأسطورة، كما يظهر في المقتطف التالي: «حين وجدناه للمرة الثانية كان في نفس المكتب، تتآكله العقبان في نفس ذلك المكتب، وفي نفس الموقع، يرتدي نفس البذّة، لم يكن أيّاً منّا مسنّاً كفايةً ليتذكر ما الذي جرى للمرة الأولى، إنما كنّا نعرف أن ما من إثبات لموته بما أن الحقيقة تخفي دائماً حقيقة أخرى». بالاضافة الى ذلك، يتناول الروائي عزلة الديكتاتور التي غالباً ما تظهر في روايات غابريال غارسيا ماركيز، فهو الإله المعزول الذي يتميّز عن سائر الناس. وبالفعل، إن تلك السلطة الخارقة التي تُمنح للديكتاتور تُدخله في عالم العزلة، إذ انه بات يتميّز عن غيره بكونه يتحكّم بمصير الجميع. لذلك، يبقى وحيداً وينفصل عن سائر المجتمع: «اقتصر احتكاكه النادر مع العالم الواقعي على بعضٍ من بقايا متقطعة لذكرياته الأكثر حضوراً، وهي التي أبقته حيّاً حين تخلّى عن شؤون الحكومة واكتفى بالغرق في براءة ليمبوس السلطة، ومع هذه الذكريات واجه عاصفة تجاوز العمر المدمّرة حين بات يطوف في البيت الخالي لدى هبوط الليل، واختبأ في المكاتب المُطفأة، ونزع أطراف مساند المقاعد وكتب عليها بخطّه المزخرف آخر الذكريات التي تقيه من الموت»، «في حقبة أخرى، لكان هذا التدمير البركاني أجّج شغفه بالمجازفة ولكنه يدرك الآن وأفضل من أي شخصٍ آخر ثقل العمر الحقيقي، وهو لا يجد بسهولة القوة لمواجهة خراب هذا العالم السري». وهكذا، تتحول تلك العزلة الى خراب عفنٍ يتأرجح بين الحياة والموت.
أما في «مئة عام من العزلة» فيتناول غابريال غارسيا ماركيز عائلة بوانديا التي تمتد على 6 أجيال في قرية ماكوندو الخيالية. تندلع الحرب الأهلية، فيشارك فيها معظم سكّان القرية من خلال جيش المقاومة الذي يقوده الكولونيل أورليانو بوانديا. في هذه الأثناء، يتم إعلان أركاديو قائداً مدنياً وعسكرياً فيتحوّل الى ديكتاتور عنيف. يبرع ماركيز في عرض تحوّل أركاديو الى حاكم متسلط. إذ انه مجرّد أستاذ مدرسي يتولّى قيادة ماكوندو إثر رحيل الكولونيل أوراليانو بوانديا. فيصبح ديكتاتوراً مخيفاً جعل من تلاميذ صفه جيشاً. ولدى بلوغ المحافظين السلطة، يلقى أركاديو نحبه قتلاً بالرصاص. يجسّد أركاديو نموذج الديكتاتور المعزول الحاضر في أدب ماركيز. إنما عزلته هي جزء من عزلة معظم أعضاء عائلة بوانديا الذين يعيشون في قرية بعيدة عن الحداثة. يُبرز لنا تحوّله من مجرد أستاذ مدرسي الى ديكتاتور الوحشية التي تولّدها الحرب في نفوس الناس، إذ ان الإفراط بالعنف قد يجعل من المرء كائناً مستبداً وسلطوياً. غالباً ما يتناول ماركيز الديكتاتور، لأن خياله تأثر بالأجواء السياسية بما أنه كان يسمع حكايات جدّه كولونيل الجيش الذي كان يخبره عن المجازر والملاحم الوطنية. كما أنه تعرّف في طفواته على قصص الزعيم الليبرالي الأسطوري الجنرال رافاييل أوريب أوريب وهو من أبطال حرب الألف يوم (1899-1902). وفي مسرحية «الديكتاتور» لجول رومان، يتحوّل الثائر الى ديكتاتور. في بداية المسرحية، ينجح الحزب الثوري بإسقاط حكومة المملكة الأوروبية الدستورية. إنما الملك، الذي يتمتع بالحكمة والدهاء، يضع على رأس الحكومة الجديدة، دُنيس قائد الثوار. منذ تلك اللحظة، نشهد على سيرورة تحوّل مناضل مثاليي يعشق العدالة الى طاغٍ مستبد. فيكافح الديكتاتور الإضراب العام الذي قام به رفقاؤه السابقون، ويقوم بتوقيف قائد المعارضة فاراول صديق الطفولة. في هذه المسرحية، يتداخل موضوعان؛ خيانة الصداقة ونكران الذات. يؤدي هذا التحوّل، الذي انقلب من خلاله الثائر على نفسه، الى عزلة. في هذا السياق، يتسأل الكاتب حول عقدة السلطة التي تعزل الحاكم عن الآخرين لأنها تســمح لهم بالتحكّم بمصيرهم.
الديكتاتور العربي
وتلك هي حالة الديكتاتور أبي علي منصور الخليفة الشيعي الإسماعيلي السادس من السلالة الفاطمية الذي واجه الجميع بمفرده. هذا الديكتاتور هو بطل رواية «خليفة الرعب» لبن سالم همِش التي ترجمها للعربية محمد سعد الدين اليمين. وقد حكم بيد من حديد، طيلة ربع قرن (996-1021)، على مصر، سوريا، فلسطين وتونس. يتميّز هذا الحاكم بطبعٍ متقلّب. فتارةً يقتل بلا سبب وجيه أُناس من كل الديانات، مسيحيين، يهود ومسلمين، وتارةً أخرى يتصرّف بكرم وحفاوة. فما هي شخصيته الحقيقية؟ وهل يمتلك الديكتاتور شخصيته الخاصة أو هو مُلتزم بتجسيد الصورة الأسطورية التي تمنحه إياه السلطة؟ يحترف الحاكم أبو علي منصور فنون التصنّع، ويتمتّع بحسٍّ فلسفي و روحي. وبما أنه مستبد، يصدر قوانين عجيبة على غرار إجبار النساء على ملازمة منازلهن، قلب الجدول الزمني لسكان القاهرة، استخدام العبد مسعود كأداة للضغط على التجّار الغشاشين، منع علم التنجيم، الموسيقى وبعض أنواع الأطعمة «السنية»، وأخيراً ارتكاب مجزرة الكلاب في القاهرة. بعض هذه القوانين مضحك وعبثي، خاصةً في ما يتعلق بنمع التنجيم والموســيقى وقــتل الكلاب. ففي بعض الأحيان، تصبح ممارسة الديكتاتــور للسلطة هدفاً بعينه. فهو يصدر القوانــين ليُثــبت أن له الحق بإصدارها، دون أن يكــون ذلــك ضــرورياً أو له منفـعة على الصعيد العام.
منيرة أبي زيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد