'السفر بعيداً' لعلاء الدين كوكش:تايلاند وماليزيا بعيني مخرج سوري!
رغم أن المخرج علاء الدين كوكش وهو من رواد الدراما التلفزيونية الأوائل في سورية، قد تجاوز السابعة والستين من العمر اليوم، ورغم أن مسيرته مع الفن تزيد على الأربعين عاماً؛ إلا أن هذا المخرج الذي يهوى الكتابة الأدبية بكافة أشكالها، استطاع على الدوام أن يتجدد ويتواصل مع كل ما من حوله من مستجدات وتقنيات ورؤى... ولهذا انضم علاء الدين كوكش إلى عالم الشباب المهووس بالانترنت، وأسس مدونة إلكترونية باسمه على موقع (مكتوب بلوج) منذ سنوات.. واستطاع بفضل هذه المدونة أن يتواصل مع جيل جديد يشاهد أعماله التلفزيونية التي تعرض على القنوات الفضائية بقديمها وجديدها بين الحين والآخر، ويتابع قصصه ومسرحياته ويومياته التي كان ينشرها على مدونته.. وكانت تحظى بأعداد مرتفعة من الزوار، وكم كبير من التعليقات.
ومن أهم اليوميات التي نشرها كوكش على مدونته، يومياته التي كتبها عن الرحلة التي قام بها إلى تايلاند وماليزيا في خريف عام 2006، والتي صدرت مؤخراً في كتاب عن دار كنعان بدمشق بعنوان: (السفر بعيداً يوميات رحلة إلى تايلاند وماليزيا).
يصدر علاء الدين كوكش كتابه عن الرحلة بعبارة مثيرة للتأمل، يقول: (قرأت ذات مرة: السفر فن لقاء الإنسان مع نفسه) ويعلق عليها بالقول: (أعتقد أن في هذه العبارة كثيراً من المعاني وشيئاً من الحقيقة). ومن الواضح أن علاء الدين كوكش كان يبحث عن كثير من المعاني والاكتشافات التي تتجلى وتبرز للإنسان حين يسافر بعيداً، أيا كانت دوافع السفر وأهدافه. ومن هنا يمكن اعتبار هذا الكتاب، نصاً أدبياً في ثقافة السفر... تلك الثقافة التي تحمل في طياتها الدهشة ولذة الاختلاف ومتعة التعاطي مع الآخر بكل تمايزاته وتمايزات المكان من حولك.
يقدم علاء الدين كوكش رحلته في مسارين، المسار الأول يتعلق بتايلاند وخط سفره إليها: (دمشق- أبو ظبي- بانكوك) والمسار الثاني خاص بماليزيا، التي قصدها منطلقاً من (بانكوك) إلى (كوالالمبور) ثم جزيرة (بينانغ) التي ترتبط بماليزيا بجسر طوله (14) كيلومترا. ويتخذ الحديث عن وقائع الرحلة شكل اليوميات، المرتبطة بتاريخ الرحلة نفسها، وعبر هذه اليوميات يروي علاء الدين كوكش بعين المخرج وحس الكاتب المملوء بالسخرية اللطيفة، الكثير من المشاهدات التي غالباً ما تحيله إلى مقارنة سريعة مع واقع الحياة العربية عموماً، والسورية على وجه الخصوص. ولهذا فقد كان أول ما لفته عندما هبط في مطار بانكوك بعد ست ساعات طيران استغرقتها الرحلة من أبوظبي... الصمت والهدوء الذي يشع في أرجاء المطار الواسع، يقول:
(كان المطار مليئا بالمغادرين والقادمين ولكن المدهش أنك لا تسمع ضجيجا فكل الأمور تجري بصمت وهدوء مدهشين... وسنكتشف لاحقا أن هذا من طبيعة الشعب التايلاندي.... فأينما ذهبت في بانكوك، سواء في المطاعم أو المحلات الكبيرة أو الصغيرة، فهناك الهدوء والحديث بصوت منخفض وطبقة ناعمة مصحوبة بابتسامة لطيفة. من النادر أن تسمع صوت بوق سيارة، رغم امتلاء الشوارع والجسور المتعددة بها).
تتوارد الخواطر الإنسانية العميقة في ثنايا السرد الوصفي لوقائع الرحلة، ويتنقل علاء الدين كوكش بين ما يراه وما يشكل خلفية المشهد استناداً إلى مخزون ثقافي وإنساني ثري، يمزج الواقع بالخيال والمشهد بالفكرة... كما نرى حين يزور محمية عالم سفاري الطبيعية في تايلاند حيث يقول:
(ما نراه في الأفلام تراه الآن أمامك على الطبيعة... تستغرق الجولة ما يقرب من الساعة ثم يخرج الباص من باب حديدي أول يتلوه باب حديدي ثان احتياطا فيما لو تسلل مع السيارة أحد الحيوانات المفترسة.... وتخرج السيارات واحدة واحدة للأمان...... تذكرت أفلام طرزان وكم ألهبت مخيلتنا، بالإضافة إلى الحكايات الشعبية التي كنا نسمعها، والتي يختلط فيها عالم الحيوان بعالم الإنسان حتى أنه يسهل التنقل بينهما!
جميل هذا الخيال الذي يؤنسن الحيوان ولكن المرعب في الواقع عندما يتوحش الإنسان ...أذكر أنني قرأت مرة: ليس هناك في الطبيعة من هو أقسى من الإنسان عندما يتوحش ولا يستطيع أن يجاريه في ذلك أي حيوان مهما كان مفترساً. الحيوان يقتل لحاجته عندما يجوع أو ليدافع عن نفسه، ولكن الإنسان يقتل دونما حاجة، ويقتل أحيانا وهو يتلذذ فيما يفعله... والمرعب في عصرنا الآن أنه أصبح يقتل دون أن يرى ضحاياه، فهو يعرفهم كأرقام فقط)!
وفي السوق العائم وهو من العلامات المميزة في بانكوك حيث مجموعة أحياء سكنية يعيش أهلها في بيوت تقف على أعمدة وسط المياه، ووسيلة الانتقال الوحيدة بين البيوت وإلى خارجها هي الزوارق... يتوقف علاء الدين كوكش عند تاريخ السوق وتقاليد التجوال فيه، لكن أهم ما يقدمه هنا تلك الرؤية العميقة والساخرة لإغراء السوق على السائح، وما يخلقه لديه من متعة شراء أشياء لا لزوم لها تعبر عما أسماه (الغباء السياحي) في النهاية، حيث يقول:
(تمشينا في السوق.... وكان من المستحيل ألا تشتري، وتكتشف بعد ذلك أن معظم الأشياء التي اشتريتها غير لازمة لك.... ولكنها متعة التسوق كما يقولون... ويتوجون هذه المتعة بنشوة الانتصار عندما تتغلب على البائع وتشتري منه الغرض بنصف الثمن الذي طلبه أو أقل... ولكن هذه النشوة قد تنقلب إلى إحساس بالهزيمة وبمرارة الخيبة عندما تكتشف أن بعض أفراد المجموعة قد أخذوا نفس الغرض بثمن أقل وأحيانا بنصف الثمن.... فتعزي نفسك بأن متعة التسوق في الأسواق الشعبية لا بد أن يرافقها الغباء السياحي... فهم دائما المنتصرون)!
وإلى جانب هذه التأملات العميقة، لا تخلو يوميات الرحلة من إثارة نابعة من مفاجآت الرحلة ذاتها... ولعل أكثر اللحظات إثارة في هذه الرحلة التي يوثقها مؤلفها بالصور الملتقطة في الأماكن الحقيقية، صدمة التعامل عن الجالية العربية في تايلاند، التي من المؤسف أن بعضها امتهن النصب والسرقة، الأمر الذي دفع الأدلاء السياحيون إلى التنبيه بعدم التعامل معهم، لكن ذلك لم يحل دون حدوث ما لا تحمد عقباه، وتبرز هنا مقدرة الكاتب على رواية الحدث بخفة وطرافة رغم وقعه المؤلم، حيث يقول:
(في الطريق، نبهتنا الدليلة وأكد ذلك الدليل السوري المرافق معنا.... نوصيكم بعدم التعامل مع العرب المقيمين في ماليزيا، ونحذركم من التعامل معهم، وننصحكم بالابتعاد عنهم.. طبعا استغربنا ذلك، ولا أدري لماذا تكاسل معظمنا عن مناقشة هذا الأمر في حينه... ربما لأن للاستغراب متعة، تفقدها عندما تطرح الأسئلة! وتفضل أن تبقى في دائرة التخمينات والأجوبة المتعددة والمتخيلة...
وللعلم إن الدخول إلى ماليزيا مفتوح للجميع دون فيزا، ويعطون تأشيرة الدخول في المطار.... وطبعا لكي يؤكد العرب كلام الدليلة، بعد أن نزلنا أمام الفندق، مرت سيارة أمام شارع الفندق، وعلى ما يظهر أنها كانت تقل عربا، فتوجهوا بالتحية إلى اللبناني (أبو علي) وأسرته المكونة من زوجته وابنته، ولكنهما تلبسان العباءة السوداء والبرقع السعودي... وقد قالوا بصوت عال أهلا وسهلا بإخواننا العرب..... فردت الفتاة ببراءة وعفوية: أهلا فيكم... فما كان من السيارة إلا أن دارت وعادت مقتربة من أبي علي، وحاول واحد من راكبيها خطف الحقيبة الصغيرة التي كان يحملها أبوعلي في يده، فتمسك أبوعلي بها، فشدته السيارة حتى وقع على الأرض، وبدأت بجره معها..... حين تذكر أبوعلي - كما قال لنا بعد ذلك - إن الحقيبة كانت فارغة، فالنقود وتذاكر الطيران وجوازات السفر كانت في حقيبة زوجته، فأفلت الحقيبة بعد أن قطع أمتارا عديدة منبطحا على ذراعيه وجسمه مجرورا من السيارة.... حمدنا الله كلنا بما فينا أبوعلي، أن الحقيبة كانت فارغة وأنه تذكر ذلك قبل فوات الأوان.. وقد خرج أبو علي من الحادثة بخدوش في مرفقيه وركبتيه... كان أبوعلي لذيذا وهو يتحدث بعد ذلك عن مغامرته بنشوة المنتصر وكيف أن الخاطفين قد خرجوا بحقيبة فارغة)!
وفي كثير من المواضع، تغدو الرحلة وسيلة لرؤية مظاهر تخلف بلداننا في مرآة تقدم الآخرين... ولتلمس جوهر وأسباب صناعة هذا التقدم... وهو ما يتلخص ببساطة في الاهتمام بالإنسان والوفاء لإنجازاته الشخصية في المسار العام، عبر تكريم الجهد المبدع، كما رأى علاء الدين كوكش في مصنع التوتياء الذي كان السبب الرئيسي في زيادة اقتصاد ماليزيا حين أسسه صيني في أواخر القرن التاسع عشر... حيث وجد في مدخل المصنع قاعة كبيرة فيها صور فوتوغرافية للصيني المؤسس وللمصنع وعماله من البدايات، وعلى طول الحائط المقابل قطع مربعة من السيراميك على كل واحدة منها بصمة كف، لكل عامل أمضى خمس سنوات في المعمل، حيث يكرّم بوضع بصمة كفه مع اسمه على هذا الحائط... وقد علق على ما شاهده بالقول مقارناً مع تقاليد الجحود والإلغاء في التلفزيون السوري الذي ساهم في تأسيسه فقال:
(تقليد جميل حبذا لو يجاريه في هذا التلفزيون السوري تجاه مؤسسيه ورواده، الذين يدخل بعضهم المبنى اليوم فينظر الآخرون له باستغراب، نظرة تحمل تساؤلاً واضحاً: من هو هذا الأخ؟ أطرق برأسي خجلا ... فأرى على الأرض (42) عاما قضيتها في هذا المبنى.... ولكني أعتقد أنها ملتصقة بأساساته ولا تظهر للعيان كبصمات أكف الرجال الذين شاهدناهم).
وتمضي صفحات الكتاب التي لا تزيد عن ثمانين صفحة من القطع المتوسط، حافلة بالتأملات الإنسانية، والمقارنات النقدية، والكثير من الوصف السياحي الحافل بالمعلومات التي تقدم صورة عن أبرز المعالم التاريخية لتايلاند وماليزيا، مثلما تحاول أن تجلو في الوقت نفسه صورة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تبرز هوية كلا البلدين، وتثير مكامن الإعجاب بتجربتهما الحضارية الغنية.
وفي نهاية يوميات الرحلة يكتب علاء الدين كوكش متوقفا عند اللحظات الإنسانية بين رفاق المجموعة السياحية التي كانت معه، فيقول بشاعرية شفافة:
(بدأت الأمطار في الهطول بشكل ناعم، وكانت زميلة في الرحلة ترتدي الغطاء ومعها مظلة، وأنا لم أكن أرتدي القبعة، فتطوعت وقدمت لي مظلتها، في البداية أحرجت منها ولكنها أصرت وحلفت يمينا أن أستظل بها فهي ترتدي الغطاء الذي يحمي رأسها من البلل ....لن تصدقوا كم شعرت بالامتنان لهذه اللفتة.... كان شعورا حقيقيا بالأخوة... ليس مثل الرفقة في السفر في توليدها لمثل هذه المشاعر.... ذكرها الله بالخير)
ثم يضيف مصوراً مشاعره ببلاغة واختزال في ختام الرحلة:
(غابت الشمس ونحن في القمة، نتأمل جزيرة بينانغ كلها.... وخيم علينا الصمت وكأن الغروب كان يذكرنا بأن لكل شيء نهاية..... وأن رحلتنا شارفت على الانتهاء... وتذكرت قول أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان)
إن كتاب (السفر بعيداً: يوميات رحلة إلى تايلاند وماليزيا) يمثل تجربة أدبية وتسجيلية جديرة بالقراءة والاهتمام، فهو يفيض بالسلاسة في السرد، والطرافة الساخرة في التحليل، والعمق في الرؤية وتلمس الجوهر... وهو يمثل امتداداً أصيلا لأدب الرحلات الذي يكاد يكون قد اندثر في أدبنا العربي المعاصر، مقابل طغيان لغة وشكل الريبورتاج الصحافي... إنما أدب رحلات يقترب من فن اليوميات ولغة المذكرات بكل ما فيها من نبرة ذاتية في القول والرؤية... وهنا تكمن الفرادة الحقيقية.
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد