الضربات الأمنية لـ«رؤوس الإخوان»: الأفكار العنيفة لا تموت
«خلال العام 1957 كنتُ في شقة بعض الإخوة في الزيتون في القاهرة، معظمهم من الطلبة الجامعيين، ترتاد هذه الشقة طائفة ذات صبغة معينة وهم الإخوان الشبان».
(مقطع من مقدمة كتاب «الإخوان وعبد الناصر.. القصة الكاملة لتنظيم 1965» للكاتب أحمد عبد المجيد، أحد العاملين على جمع شتات تنظيم الإخوان المسلمين بعد الضربة التي تلقتها من قبل الرئيس جمال عبد الناصر في العام 1954).
«البنا والهضيبي والتلمساني وأبو النصر ومشهور والهضيبي وعاكف وبديع مرشدو الجماعة كلهم سجنوا... ولم ولن تنتهي الجماعة لأنها فكرة والأفكار لا تموت».
(تدوينة قصيرة لعلي خفاجي عضو الأمانة العامة لـ«حزب الحرية والعدالة» التابع لـ«الإخوان المسلمين»، عقب القاء القبض على المرشد العام محمد بديع).
«على المؤسسات الأميركية الوصول إلى أكبر قطاعات ممكنة من شباب الجماعة وخارجها من التيار الأكثر انفتاحا مع التركيز على الجماعة في خطة تعتمد على نقاط محددة تقوم على التواصل مع شباب الجماعة ليس لأنهم يمثلون تحدياً لتماسك التنظيم لكن أيضا باعتبارهم قناة محتملة لتوسيع مشاركة الولايات المتحدة مع الحركة».
(جزء من دراسة لمؤسسة «راند» البحثية الأميركية أعدها ثلاثة من كبار الباحثين بعنوان: The Muslim Brotherhood, Its Youth, and Implications for U.S. Engagement).
الشباب هم كلمة السر ومفتاح اللغز
تعرضت جماعة الأخوان المسلمين في تاريخها لضربة عنيفة على يد الرئيس جمال عبد الناصر تسببت بتقطيع أوصال التنظيم بشكل شبه كامل، لكن الشباب وقتها لم ييأس، إذ تلمّس طريقه وأعاد المحاولة بين العامين 1957 و1962. وحاول مرة ثانية في العام 1964 قبل أن يضرب عبد الناصر ضربته الأخيرة بقضية العام 1965 التي أعدم فيها سيد قطب بعدما بدأت تنظيرته بـ«جاهلية المجتمع» تلقى قبولا في أوساط الشباب.
«يواجه الإخوان الآن عنفاً دولتياً وصل مرحلة الذروة في تاريخ الدولة المصرية، وهذا عنف غير مسبوق تماماً، ونتائجه غير محسوبة حتى بالمقارنة مع اغتيال المرشد العام الأول حسن البنا في شباط العام 1949»، يقول الدكتور كمال حبيب، الباحث والأكاديمي المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، في حديث إلى «السفير»، موضحاً أن «الضربة الموجهة للجماعة باعتقال رؤوسها أو قتل قياداتها الوسيطة وأعضائها بشكل واسع قد تنتهي بها إلى مكان شبيه بمكانتها في عهد انور السادات بحيث تكون جماعة موجودة ومعترف بها لكنها محظورة قانوناً، أو تقود إلى مكان آخر عنوانه العنف».
شباب الجماعة الذين قدّرت دراسة مؤسسة «راند» أنهم يشكلون ما بين 50 و60 في المئة من أعضاء الجماعة التي تعرّف «الشاب» بأنه من هو دون الـ 35 من العمر، هم السؤال الصعب حالياً، يقول حبيب، الذي قاد حركة المراجعات الفكرية لعنف الجماعة الإسلامية من داخل المعتقل في فترة الثمانينيات. ويضيف «نحن أمام مشروع شبابي يستبطن طابعا صداميا واستشهاديا، ولم يسمع أحد رؤية سياسية من داخل الجماعة ينضم حولها الشباب. ومن الوارد أن تقرر الجماعة في مرحلة متقدمة، ومع شعورها بانسداد الافق السلمي تماماً، أن تلجأ للعنف، وهو أمر أستبعده بشكل كبير، لكن ما قد يحدث هو تكوين (شبكات مخفية) من شباب الجماعة بسبب علاقاتهم الممتدة طوال 40 يوماً، وهو عمر اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، والذي ضم بخلاف الإخوان عناصر من السلفية الجهادية وشباب «حركة حازمون» (أتباع المرشح الرئاسي السابق حازم صلاح أبو إسماعيل)، والذين يتخذون طرقا شبابية عنيفة وأحيانا مسلحة في تحركاتهم بالشارع، وهو ما قد يذكرنا بتنظيم العام 1965 الذي فكر في اغتيال عبد الناصر».
إعادة التأسيس الأولى
في إعادة التأسيس الأولى الذي تحدث عنه حبيب الأمر لم يحتج الى أكثر من أربعة أشخاص، معظمهم تحت سن الأربعين، يلتقون بشكل سري، ليخرجوا بتوزيع أدوار يهدف إلى إعادة لم شمل الجماعة التي كانت توصف قبل ثورة يوليو العام 1952 بأنها واحدة من أكثر الجماعات السياسية تأثيرا وعضوية بعد «حزب الوفد».
يقول أحمد عبد المجيد في كتابه «الإخوان وعبد الناصر.. القصة الكاملة لتنظيم 1965» عن الفترة الثانية لمرحلة إعادة التأسيس التي استمرت من العام 1962 حتى 1964: «ضربنا موعدًا نتقابل فيه في منزل الشيخ عبد الفتاح إسماعيل في كفر البطيخ في دمياط (200 كيلومتر شمالي القاهرة)، وتقابلنا هناك نحن الأربعة وتدارسنا الأمر وناقشنا الأمور لمدة ثلاثة أيام متتالية وتم توزيع الاختصاصات التالية:
1 ــ الشيخ عبد الفتاح إسماعيل (تاجر):
ــ مسؤول عن دمياط وكفر الشيخ وشرق الدلتا.
ــ الاتصال بالأستاذ المرشد حسن الهضيبي.
ــ الاتصال بالأستاذ سيد قطب في السجن.
ــ التفاهم مع «إخوان» الإسكندرية والبحيرة ومعه الشيخ محمد فتحي رفاعي.
ــ مسؤول عن النواحي المالية من حيث مصادرها ومصارفها.
2 ــ الشيخ محمد فتحي رفاعي (مدرس في المعاهد الأزهرية):
ــ مسؤول عن وسط الدلتا (الدقهلية ، الغربية ، المنوفية).
ــ مسؤول عن وضع البرامج الدراسية والتربوية.
3 ــ علي عشماوي (موظف في شركة الأساسات):
ــ مسؤول عن القاهرة والجيزة.
ــ مسؤول عن التدريبات الرياضية.
ــ الاتصال بالإخوان في الخارج.
4 ــ أحمد عبد المجيد (موظف في إدارة «كاتم أسرار» في وزارة الحربية):
ــ مسؤول عن الوجه القبلي (الصعيد).
ــ مسؤول عن المعلومات».
الأموال التي كانت بمثابة وقود عربة التنظيم في محاولة إعادته للحياة السياسية في مصر. كان يتم جمعها من الأعضاء الجدد والقدامى الموثوق بهم والذين لا يرقى إليهم أي شك، بحسب قول عبد المجيد، الذي يقول في كتابه: «كان يتم تجميع الأموال من الإخوان بواقع 5 في المئة على الأقل من الدخل شهرياً كحد أدنى بالإضافة إلى التبرعات، وتسلم هذه المبالغ إلى المسؤول المالي للإنفاق منها على الحاجات اللازمة، وتسلم الأموال السابقة التي كانت لدى أي منا له».
«والاتصال بالرأس الذي كان بعيدا عن الأضواء حينها، وهو المرشد الثاني حسن الهضيبي، كان يتم عن طريق زينب الغزالي، أو الحاجة زينب بحسب ما يسميها أعضاء الجماعة، مع استمرار الدفع بعدد من شباب الجماعة لدخول الكليتين الحربية والشرطة، ومحاولة إعادة الاتصال بأعضاء التنظيم الذين تقطعت بهم الإتصالات في العام 1954»، بحسب نفس الكتاب الذي نشره موقع «ويكيبيديا الإخوان المسلمين» والذي يعتبر بمثابة أرشيف لتراث الجماعة من الكتب والصور النادرة والأبحاث العلمية.
مثّل خروج سيد قطب من السجن في العام 1964 العلامة النهاية لإعادة التأسيس الأول للجماعة. يقول عبد المجيد: «طلب قطب من الشيخ عبد الفتاح إسماعيل مقابلتنا، وتقابلنا معه في صيف العام 1964 في رأس البر، مدينة ساحلية تبعد عن القاهرة نحو 200 كيلومتر، واستقبلنا استقبالاً طيباً كأنه يعرفنا منذ سنوات طوال»، قبل أن ينتهي الحال بهؤلاء الشباب في المعتقل مرة أخرى، وسيد قطب على «طبلية الإعدام».
التأسيس الثاني للجماعة
تقول دراسة لموقع «المسبار للدراسات والبحوث» المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية، نقلا عن يوسف العظم أحد أعلام جماعة «الإخوان المسلمين» في الأردن أنه «بعد وفاة عبد الناصر والإفراج عن حسن الهضيبي والإخوان المسلمين في العام 1971، انتهز الهضيبي فرصة الحجّ سنة 1973 فعقد أوّل اجتماعٍ موسّعٍ للإخوان في مكة المكرّمة، وكان هذا الاجتماع هو الأوّل من نوعه منذ محنة العام 1954. ونظراً إلى أن معظم الإخوان في الخارج قد هاجروا إلى منطقة الخليج والجزيرة العربية أو البلاد الأوروبية والأميركية فقد تركّز عمل لجنة العضوية في تلك المناطق: فتشكّلت لجنة الكويت، ولجنة قطر، ولجنة الإمارات، وثلاث لجانٍ للسعودية في الرياض والدمّام وجدّة، وقد سهّل على الهضيبي هذه المهمة انتشار الإخوان في السعودية والخليج وتنظيماتهم المحكمة هناك».
في هذه اللحظة يعود الشباب مرة أخرى إلى الصورة لإعادة تأسيس الجماعة مرة ثانية، لكن هذه المحاولة الناجحة ستعرف في ما بعد بـ«التأسيس الثاني للجماعة»، بعد استبعاد المحاولة الأولى التي أنهاها عبد الناصر بشنق مجموعة من المغامرين. فمن وراثة تنظيم مهلهل خارج لتوه من معتقلات عبد الناصر القاسية، أو في الشتات في الخليج وأوروبا، يظهر الشاب عبد المنعم أبو الفتوح القادم من خارج جماعة «الإخوان» بأعضائها التاريخيين، لكن تحت اسم «الجماعة الإسلامية» ومن أروقة كلية طب قصر العيني في جامعة القاهرة.
يقول الباحث الإسلامي البارز حسام تمام في دراسة كتبها قبيل وفاته، عن التأسيس الثاني للجماعة بعد حوارات مطولة مع أبو الفتوح الذي أصبح في ما بعد أحد المتنافسين على مقعد الرئاسة مع مرشح «الإخوان» محمد مرسي - «تغطي شهادة عبد المنعم أبو الفتوح حقبة تمتد من العام 1970 وتتوقف عند 1984. إنها الفترة التي شهدت تأسيس الجماعات الإسلامية كحركة إسلامية مستقلة وعفوية ومتعددة الروافد والمشارب، حتى تمايزت إلى تيارات ثلاثة اختار منها التيار الأوسع والأكثر تسييسا الانضمام للإخوان المسلمين، بينما تمايز على ضفتيه تيار دعوي (الدعوة السلفية) كان معقله الأكبر في الإسكندرية، وتيار آخر جهادي (الجماعة الإسلامية) كان معقله الصعيد».
يضيف أبو الفتوح في شهادته لحسام تمام: «لقد كانت التعددية الفكرية والشرعية ملمحا أساسيا في تشكل هذه الحركة بحيث يصح القول إن هذا الجيل مختلف عن سابقه من أجيال الحركة الإسلامية، وهو ما يعيد النظر في مقولة (النقاء) الإخواني التي يرددها الإخوان؛ فإذا كان الجيل الأول (بنّاوياً) خالصا (نسبة إلى المؤسس الشيخ حسن البنا) فقد حمل جيل الستينيات وربما الخمسينيات أيضا تأثيرات قطبية (نسبة إلى الأستاذ سيد قطب) جعلته مختلفا عن سابقه، بينما انفتح جيل السبعينيات على مؤثرات ومدارس فكرية وشرعية أكثر فكان أبعدها عن الفكرة الإخوانية النمطية».
جيل أبو الفتوح وأبو العلا ماضي، المنشق عن الجماعة هو الآخر، ومن بعدهما عصام العريان، الذي حمل توسيع العضوية عن طريق المعارك الانتخابية في النقابات المهنية، صار حملا ثقيلا على الجيل الأصغر الذي شهد مجموعة من الانشقاقات الصغيرة عقب «ثورة 25 يناير» بسبب الموقف من التفاوض مع نظام حسني مبارك ورفض الالتزام بالسمع والطاعة، قبل أن يخرج أبو الفتوح نفسه للخلاف على مسألة الترشح لرئاسة الجمهورية.
الصراع مع «الدولة الأمة»
يستعيد كمال حبيب، في حديثه إلى «السفير»، مشاهد العنف القديم للدولة: «الجماعة تعيش تكرارا أكثر عنفا لضربتي العامين 1954 و1965، بعدما رأت الدولة الأمة (the nation state)، وفي قلبها المؤسستان الأمنية والبيروقراطية، أن مشروعها لا يمكن ان يتعايش بأي شكل من الأشكال مع المشروع الإسلامي بصيغته الإخوانية. حتى عبد الناصر في ضربتيه كانت رسالته الرئيسية الاعتقالات الواسعة وليس القتل الواسع المجال، ثم تقديم المعتقلين إلى محكمة الشعب في العام 1954 التي أصدرت حكما باعدام تسعة نفذته على خمسة وخففت الأحكام على الباقين، ثم محاكم عسكرية في العام 1965 أعدمت 6 أشخاص. ولم يحدث أن قتل عبد الناصر في معتقلاته ألف شخص مرة واحدة، ورغم ذلك جاء السادات إلى السلطة ولم يكن هناك تنظيم موجود على الأرض... كان الأمر مجرد أفكار لأشخاص فرادى».
يشرح حبيب: «في العام 1965، كان قد جرى القضاء على تنظيم الإخوان، وظهرت مجموعة من الشباب مثل علي عشماوي وأحمد عبد المجيد، لكن الأمر الآن مختلف، لأننا بصدد جماعة وصلت إلى السلطة بالفعل وبالتالي لا يمكن إلغاء وجودها من المشهد».
سيد تركي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد