العلمانية ليست إلحاداً
من الشائع أن لفظ «علمانية» مرادف للإلحاد، أى أنه ضد الدين، بمعنى أن العلمانية تدعو إلى عدم الإيمان بأى دين، وتمنع أداء الشعائر الدينية سواء فى المساجد أو الكنائس، كما أنها تمنع تدريس مادة الدين فى المدارس، وكذلك تمنع بث البرامج الدينية فى الإذاعة والتليفزيون أو إذاعة تلاوة القرآن الكريم فى وسائل الإعلام. كل هذه المحاذير المرتبطة بهذا الفهم الشائع عن العلمانية تندرج تحت ما يسمى أحيانا بفصل الدين عن الدولة، وأحيانا بفصل الدين عن المجتمع. وهذا المعنى الشائع عن العلمانية أو بالأدق الذى تمت إشاعته بين الناس من قبل التيارات الإسلامية السائدة، مشتق من العالم أو الدنيا، وبناء عليه فإن هذه التيارات الإسلامية تعتبر أن الاهتمام بالعالم والانغماس فى أمور الدنيا أمور محرمة حيث إنها تؤدى بصاحبها إلى جهنم لأنها تبعده عن الإيمان بدينه وتوجهه نحو هذا العالم وتنسيه الآخرة.
وقد عبر أحد الشيوخ عن هذا الاعتقاد السائد عن العلمانية، وإن كان بشكل مبالغ فيه، بأن نصح أتباعه بنبذ العالم وإعداد أنفسهم للآخرة، ووصف لهم الطريقة التى يعدون أنفسهم بها، لهذا الغرض، وهى الجلوس فى غرفة مظلمة وتخيل أنهم ممددون فى القبر ومعايشة هذه التجربة بكل الحواس والمشاعر. وأكد الشيخ لأتباعه أن هذا التدريب اليومى من شأنه أن يبعد المؤمن عن العالم وشروره ويؤهله للآخرة ولدخول الجنة. كما دأب بعض الشيوخ على استخدام لفظ علمانية كصفة للمثقفين والكتاب والأدباء والإعلاميين الذى لا يكتبون بنكهة دينية، بأنهم ملحدون وكفرة، بحيث شاع فى وعى الناس أن العلمانية هى الإلحاد وأن العلمانى هو الملحد الكافر بالدين. ويستخدم هؤلاء الشيوخ، عن عمد، كلمة علمانية «بكسر العين» للإشارة إلى العلم باعتباره نشاطا ماديا يستبعد كل ما هو روحانى. وفى إطار الدعوة إلى تحديث الدستور المصرى من خلال دعوة الرئيس حسنى مبارك إلى إجراء تعديلات فى 34 مادة من مواد الدستور، خرج علينا أحد نواب مجلس الشعب، وهو النائب محمد العمدة عضو جماعة الإخوان المسلمين، بتصريح له نشرته جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 4/3 قال فيه: «إن التعديلات الدستورية تهدف إلى تبنى الدولة المذهب العلمانى الذى نبت وترعرع فى أوروبا» وبناء عليه قرر هذا النائب اتخاذ إجراءات لتأسيس ما أسماه «الحركة الشعبية لمكافحة العلمانية» وسينضم معه نواب جماعة الإخوان وهم الـ 88 عضوا بمجلس الشعب. والسؤال الآن: هل هذا الفهم الشائع عن العلمانية صحيح؟ وإذا لم يكن صحيحا، فما حقيقة لفظ العلمانية، وما جذوره؟ وهل العلمانية ظاهرة غريبة ودخيلة على مجتمعنا ومهددة لأدياننا؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، يلزم أولا توضيح معنى اللفظ، أى لفظ العلمانية، فالأصل اللغوى للعلمانية واحد فى اللغة العربية كما فى اللغة الأجنبية. فى اللغة العربية «علمانية» (بفتح العين وسكون اللام) مشتق من علم (بفتح العين وسكون اللام) أى العالم، وفى اللغة الأجنبية مشتق من اللفظ اللاتينى Saeculum أى عالم. وينطوى هذا المعنى على الزمان. وهذا يعنى أن العالم متزمن بزمان، أى أن له تاريخا وأن هذا التاريخ يتسم بالتغير والتطور، وأن هذا التغير والتطور يحدث فى العالم، أى فى المكان، كما أنه يحدث أيضا للعالم، أى فى الزمان، بمعنى أن التغير الذى يحدث فى العالم من أحداث من شأنه أن يحرك الزمان ويطوره. وهذا يعنى أن العالم ليس ثابتا. بل هو متحرك. وهذه الحركة هى التاريخ. وحيث إن هذه الحركة تتسم بالتغير، والتغير نسبى، فإن التفكير فى مجال هذه الحركة يصبح هو الآخر نسبيا، بمعنى أن ما يحدث من حركة فى العالم وللعالم من شأنه أن يحدث تغييرا فى تفكير البشر الذين يعيشون فى هذا العالم. فإن البشر الذين يعيشون فى عالم يعتقدون أنه ثابت وغير متحرك، كما كان سائدا قبل اكتشاف العالم الفلكى كوبر نيلوى فى عام 1543 أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس (فى كتابه عن «دوران الأفلاك»)، هؤلاء البشر يختلفون اختلافا جذريا عن البشر الذين يعيشون فى نفس العالم ولكنهم على وعى بأن العالم متحرك، وأن الأرض تدور حول الشمس مرة كل 24 ساعة، وأن هذا الدوران يحدث تغييرا فى العالم وللعالم وبالتالى يحدث تغييرا فى كل من يحيا فى هذا العالم.
وهذا النوع من التفكير أشبه بما يعرف بـ «ثورة كوبرنيكوس» فى علم الفلك حيث اكتشف كوبر نيكوس حلا جذريا ومبدعا للمعضلات الفلكية التى كانت تواجه العلماء فى القرن السادس عشر، بأن حول الاهتمام فى علم الفلك من دراسة الكون من خارج الكون إلى دراسة الكون من داخل العالم، وذلك بالتركيز على رؤية الإنسان الذى يحيا على أرض تدور وتتحرك، وتلك الرؤية محكومة بعقل يدور ويتحرك فى هذا العالم ومع هذا العالم، وهذه الحركة هى التى تشكل وعى الإنسان وتصوغ رؤيته للكون وللعالم. وحيث إن الحركة فى طبيعتها التغير، وحيث إن التغير يتسم بالنسبية، فإن عقل هذا الإنسان وتفكيره سيصبحان أيضا نسبيين، بمعنى أن عقل الإنسان سيتحرر من الوهم بأن معرفته بالعالم تستند إلى حقيقة واحدة ثابتة ولا علاقة لها بالخبرة الإنسانية فى العالم، وسيدرك أن المعرفة متعددة ومتنوعة المصادر طبقا لما يحدث للعالم من تغير وطبقا لخبرات الإنسان فى هذا العالم المتغير.
العلمانية إذن، بهذا المعنى، لفظ مرتبط بالعقل وبأسلوب التفكير فى العالم، وليس مرتبطا بالسياسة والعمل السياسى، وهذا الأسلوب العلمانى فى التفكير محصور فى مجال ما هو متغير. ولايرتبط بالإيمان الدينى أى بمجال ما هو مطلق وثابت. وبناء عليه جاء تعريف مراد وهبة للعلمانية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى، وليس بما هو مطلق»، ويركز هذا التعريف للعلمانية على التفكير فيما هو نسبى، وليس فيما هو مطلق، أى أنه لايرتبط بالتفكير فى أمور العقيدة الدينية، كما يحلو للبعض أن يروج. ونتساءل: هل يفقد المؤمن إيمانه لمجرد أنه يفكر بطريقة نسبية فى أموره النسبية، أى فى أمور حياته اليومية من مأكل ومشرب ومسكن وعمل وتعليم وصحة وعلاقات إنسانية.. إلخ؟، وهل التفكير بشكل نسبى، أى بشكل يتلاءم وطبيعة تلك الأمور النسبية والمتغيرة، يصرف المؤمن عن الإيمان أى عن مجال ما هو مطلق وثابت؟
الإجابة: لن يفقد المؤمن إيمانه فى هذه الحالة، لكنه سيفقد خضوعه وانصياعه لفتاوى الشيوخ، أى أنه سيتحرر من وصاية هؤلاء الشيوخ على عقله وحياته. والسؤال: هل لهذا السبب يهاجم بعض الشيوخ وأعضاء جماعة الإخوان العلمانية؟ الجواب عند هؤلاء بالإيجاب حيث إنهم يعتقدون بأنه إذا تحرر عقل الإنسان من سلطة الفقهاء والشيوخ، أى تحرر من وصاية هؤلاء، وأصبح تفكيره علمانيا، أى أنه أصبح معتمدا على عقله فى تسيير أمور حياته، فإن هذا الشخص يصبح بالضرورة ملحدا وكافرا. والسؤال: هل هذا صحيح؟ هل المؤمن الملتزم بأداء فروض دينه والملتزم بمبادئ دينه فى المعاملات مع الناس، والذى يستخدم عقله العملى فى فهم أمور الحياة من سياسة واقتصاد وعلاقات إنسانية ويكتشف بنفسه الحلول العملية لتطوير أحواله المعيشية بما يتفق مع قوانين وقواعد المجتمع، هل صحيح أنه يصبح فى هذه الحالة كافرا وخارجا على دينه؟ الجواب بالنفى، لن تتغير درجة إيمان هذا الشخص ولكن الذى سيتغير هو وعيه بقدرته العقلية، وهذا الوعى سيحرك رغبته فى المشاركة فى تغيير أحواله المعيشية وأحوال من حوله. وهذه الرغبة ستولد لديه إرادة المشاركة فى الحياة العامة، وهذه أولى خطوات الوعى بالمشاركة السياسية، وهو أمر ممتنع الآن بحكم تسلط التيار الإخوانى على عقول الناس من أجل منعهم من التحرر من وصايتهم إلى الحد الذى يكفرون فيه كل من يحاول الخروج عن دائرة سلطانهم. وهذا التكفير والإرهاب الفكرى أمر ضرورى ولازم لهؤلاء المتسلطين، حيث إنه مرتبط بالسلطة السياسية التى ينشدونها ويسعون إلى الوصول إليها من أجل الاستيلاء على الحكم. وتحقيق هذا الهدف لايمكن أن يتم بدون الارتكاز إلى الناس، وهذا يستلزم تبعية هؤلاء الناس، تبعية دائمة وشاملة، للأوصياء. ولهذا يعمد أصحاب هذا التيار إلى تديين السياسة، أى إلى ممارسة النشاط السياسى من خلال ما يسمونه «مرجعية دينية» غير عابئين بالخطورة الكامنة فى الخلط بين السياسة، وهى نشاط يتسم بالتغيير والنسبية، والدين القائم على الإيمان بالمطلقات والثوابت.
ومن البديهى أن مزج السياسة بالدين يؤدى إلى إشعال الفتنة الطائفية، مما يقود حتما إلى الحروب سواء الحروب المتمثلة فى الصراعات الاجتماعية، أو الحروب الأهلية المسلحة. ومن شأن ذلك أيضا تقسيم المجتمع وتفتيته إلى طوائف وجماعات فى داخل الدين الواحد، وما يحدث الآن فى لبنان والعراق دليل على ذلك.
هذا عن العلمانية باعتبارها أسلوب تفكير وأسلوب حياة.
فماذا عن «المذهب العلمانى» وهى العبارة التى وردت فى قول النائب محمد العمدة؟
للإجابة عن هذا السؤال، ينبغى التفرقة بين مصطلحين هما:
العلمانية secularization والمذهب العلمانى Secularism، فالمصطلح الأول يعبر عن مسار مفتوح، وهذا المسار يعبر عن عملية التحول من التفكير المطلق فى كل الأمور بما فيها الأمور النسبية، إلى التفكير بأسلوب نسبى فى الأمور النسبية. وهذا المعنى ينطوى على أسلوب تفكير وأسلوب حياة يتسمان بالانفتاح والتطور. أما المصطلح الثانى، وهو المذهب العلمانى، فهو يشير إلى مذهب مغلق بمعنى الأيديولوجيا المتحجرة والمنفصلة عن مسار الواقع المتطور والنسبى، حيث إن هذا المذهب يرفع ما هو نسبى إلى مستوى المطلق، أى أنه يطلق النسبى. ومثال على ذلك الوضع الذى كان قائما فى الاتحاد السوفيتى السابق، والذى كان محكوما بأيديولوجيا الحزب الشيوعى.
والسؤال إذن: هل ثمة دعوة فى المجتمع المصرى إلى تبنى «المذهب العلمانى»؟
الإجابة بالنفى. الحديث فقط عن العلمانية بالمعنى سالف الذكر.
والسؤال التالى: هل العلمانية غريبة عن المجتمع المصرى؟
للإجابة عن هذا السؤال يلزم البحث عن جذور العلمانية فى تاريخ الفكر المصرى، تلك الجذور التى لم يسمح لها بأن تنمو وتمتد لتشكل تيارا فكريا، وهذا بحكم المقاومة العنيفة التى واجهها أصحاب هذا الفكر العلمانى من قبل أعداء العلمانية. وأخص بالذكر الشيخ على عبدالرازق، وهو أزهرى أصدر كتابا مشهورا عنوانه «الإسلام وأصول الحكم» فى عام 1925. فى هذا الكتاب يتخذ الشيخ من الفيلسوف الإنجليزى جون لوك سندا لرفض الخلافة أو نظام الحكم الإسلامى. يقول الشيخ: «ثمة حقيقة يؤكدها العقل ويدلل عليها التاريخ هى أن قوانين الله لا علاقة لها بنظام الحكم الذى تقول عنه الشريعة إنه الخلافة، كما أنه لاعلاقة لها بأولئك الذين يحملون لقب الحقيقة، ثم إن ضمير المسلمين فى هذا العالم لايستند إلى أى منهما. إننا لسنا فى حاجة إلى مثل هذه الخلافة لا لديننا ولا لشئوننا الدنيوية، بل أكثر من ذلك فإن الخلافة كانت ومازالت كارثة للإسلام والمسلمين ومصدرا للشرور والفساد». ثم يستطرد الشيخ على عبدالرازق فيذكر العلاقة بين الدين والدولة، فيقول: «لقد روج السلاطين خطأ بين الناس وهو أن الخلافة مسألة دينية وبذلك اتخذوا من الدين ستارا لحماية عروشهم وللدفاع عن أنفسهم فى مواجهة المنشقين. وعندما أشاعوا هذا الرأى بطرق شتى فقد استطاعوا إقناع الجماهير أن طاعة الأئمة مساوية لطاعة الله، وأن التمرد عليهم يماثل تمردهم على الله، بل إنهم ذهبوا بعيدا إلى حد الإعلان أن السلطان هو خليفة الله على الأرض وظله الممتد على رعاياه». ولكن هذه الدعوة الشجاعة والواضحة لعلمنة الحكم الإسلامى من قبل شيخ مسلم سرعان ما أجهضت من قبل المؤسسة الدينية الإسلامية، وهى الأزهر، الذى أصدر حكما من مجلس العلماء بإدانة الشيخ على عبدالرازق وطرده من دوائر العلماء، وهو ما يشبه مبدأ الحرمان فى النظام الكنسى الكاثوليكى.. وبسبب هذا الحكم رفع اسم على عبدالرازق من قوائم الأزهر ومن جميع المؤسسات، بل إنه فصل من عمله ومنع من أى راتب، ولم يعد مؤهلا للقيام بأية وظيفة سواء كانت دينية أو غير دينية، كل هذا من أجل إرضاء الملك فؤاد الأول الذى كان يسعى إلى الخلافة، ولكن الملك المستبد الذى كان موضع كراهية الشعب رحل، ورحل من بعده ابنه الملك فاروق الذى سعى بدوره إلى الخلافة ولم يحصل عليها. ولكن العلمانية بقيت أمرا محرما وظل اللفظ، لفظ العلمانية، لفظا سيئ السمعة.
السؤال إذن: كيف نصحح مفهوم العلمانية؟ وكيف نقوم بتوصيله إلى الناس بحيث يعى المواطن المصرى أبعاد هذا المفهوم لكى يتمكن من تحويله إلى سلوك وأسلوب حياة؟ فى تقديرى أن هذه مسئولية الأحزاب السياسية أولا، ثم يأتى دور الإعلام والتعليم والثقافة، فالأحزاب السياسية، بحكم توجهها للجماهير، عليها مسئولية اكتشاف الخطاب الملائم للناس واللغة المناسبة لتوصيل هذا الخطاب عن العلمانية لهم باعتبارها أسلوب تفكير وأسلوب حياة يساعدان على التطور وينميان وعى الفرد بالمستقبل وبقدراته العقلية على تغيير أحواله المعيشية إلى الأفضل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى توعية الفرد بمسئوليته تجاه المجتمع مما يلزمه بالمشاركة السياسية الواعية، وعلى الإعلام مساندة الأحزاب السياسية فى مرحلة اكتشاف هذا الخطاب الملائم للعلمانية وتلك اللغة المناسبة له.
ومن أجل إنجاز هذه المهمة بنجاح يشترط تغيير، وليس تطوير، منظومة التعليم العام والجامعى فى نفس الاتجاه، وكذلك منظومة الثقافة.
والسؤال الأخير: هل هذا ممكن الآن؟
د. مني أبو سنة
المصدر: روز اليوسف
إضافة تعليق جديد