المتاحف تعم مدن العالم .. ومتاحفنا تُسرق وتدمّر

19-07-2015

المتاحف تعم مدن العالم .. ومتاحفنا تُسرق وتدمّر

في العالم الغربي هناك متاحف لكل شيء. فإذا ما كانت متاحف الآثار والفنون والطبيعة والكتب والعلوم والاجرام السماوية واللقى والعاديات الشعبية التي جلبها علماء الاجتماع واللغة من شتى انحاء الأرض قد أصبحت جزءاً من معمار المدينة الحديثة فإن متاحف أخرى صارت تُقام من أجل الثناء على عبقرية الإنسان وهو يسعى إلى تأثيث حياته بالمزيد من عناصر الجمال. كل شيء يستحق أن يكون موضوعاً لمتحف. لم يعد التاريخ حكراً لموضوعات دون سواها وليس هناك ما هو مقدس يستحق الخلود وما هو مدنس، لا يليق به إلا أن يُنسى ويُحذف. لا يُقرأ التاريخ بطريقة انتقائية.

رأيت متحفاً للأثاث في الوقت الذي عرفت أن هناك متحفاً للكراسي، كما أن هناك متاحف للأدوات المنزلية (الصحون والملاعق والسكاكين وسواها) هناك متاحف للأزياء عبر العصور، للرسوم المتحركة، للسينما، لملصقات الأفلام ولأشرطتها، لفرق الغناء وللآلات الموسيقية. في امستردام هناك متحف لأجهزة التعذيب عبر العصور وهناك متحف للجعة الهولندية الشهيرة (هنغين). هل تحتاج هولندا إلى اقامة متحف للأجبان وكل شارع من شوارع مدنها لا يخلو من مخزن لبيع عشرات الأنواع من تلك الأجبان؟ هناك طبعاً متاحف للسيارات وللدراجات وللقطارات. متاحف للبريد والطوابع والمشروبات والاطعمة. ما أن يتذكر المرء شيئاً حتى يرى صورة لمتحف. فالمتحف هو ترف، مديحه يضفي على الأشياء الزائلة نوعاً من الخلود. فليس المتحف سجناً بل هو احتمال فضاء. لا تنقص حريته من مساحته، بل تلهمها الكثير من السعة.

كل متحف هو في حقيقته حلم بمتحف آخر.

متحف فاغنر في لوسيرن السويسرية هو بيته، غير أنه واحدة من واجهات متاحف الموسيقى عبر العالم. كذلك متحف اورسيه بباريس وهو محطة قطار قديمة ما كان له أن يُقام لولا أن اللوفر كان قد ضاق بالفنانين الانطباعيين. وقفت أمام ارشيف يوهان سباستيان باخ في لايبزغ قريباً من كنيسة توماس التي لا تزال تحتفظ بالارغن الذي كان لموسيقار الماني يعزف عليه في القرن السادس عشر. لا تزال أوراقه نضرة كما لو أنها لم تسقط من شجرته. في زيارتي الأخيرة قبل أيام لمتحف فنسنت فان غوغ كانت رسائله إلى أخيه تيو وإلى أصدقائه في باريس معروضة لتنافس رسومه في مساحة العرض. تستحق الرسائل أن تكون مادة متحفية كما الرسوم تماماً.

تظن البشرية أنها ستظل في حاجة إلى ما يسند وجودها من وثائق يكون في إمكانها أن ترى في ذلك العبث الذي نسميه فناً ضرورة حياة. المتاحف تكسبنا تلك الثقة. نحن نثق بما نفعل لأن أفعالنا ستكون من خلال المتاحف محل احترام من قبل آخرين، لن تتاح لنا رؤيتهم أو التعرف الى مزاجهم. ولأن البشرية لا تفكر في فنائها بطريقة انتحارية فقد صار عليها أن تبني اماكن خالدة تضم بحنان لحظات عبقريتها الفالتة. كان المتحف العراقي الذي تهبه اللصوص يوم العاشر من نيسان عام 2003 واحداً من أعظم تلك الاماكن. غير أن اولئك اللصوص كانوا دهاة في عصفهم الشرير حين نهبوا كل محتويات غرفة جواد سليم في متحف الرواد. سيضحك العراقيون على أنفسهم لو أنهم فكروا يوماً بإقامة متحف جديد للفن العراقي الحديث، لن تكون أعمال جواد سليم حاضرة فيه.

لن يتحمل التاريخ كذبة من ذلك النوع.

سيكون العراق محروماً من اقامة متحف لفنه الحديث. لن تكون الفكرة في المتحف بل في غيابه. كيف يمكن لمدينة مثل بغداد أن تكون موجودة من غير متاحف؟ سيكون ترفاً فائضاً التفكير في اقامة متحف لمنير بشير في بلد صارت فيه الموسيقى من المحرمات.

علينا أن نصدق أن رأس ابي جعفر المنصور وهو باني بغداد قد سرقه اللصوص وأن نصب الشاعر العباسي (ابو نؤاس) صار موقعاً للرجم وأن هناك مَن يفكر بهدم نصب الشهيد لإسماعيل فتاح باعتباره من مخلفات حقبة البعث. في حالة من هذا النوع ألا يحق لنا أن نترحم على زمن كانت فيه المتاحف ممكنة في عالمنا العربي باعتبارها نوعاً من الغلو النخبوي في تقديس جمال الماضي. الآن لا ترى الغوغاء في ماضيها إلا مكباً للنفايات، ألهذا نكره المتاحف؟

فاروق يوسف

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...