المسرح يتفاعل مع الشارع والرقص بلا جمهور
حققت بعض عروض «مهرجان دمشق للفنون المسرحية» حضوراً استثنائياً على مستوى الجمهور، خصوصاً العرضين السوريين «حكاية علاء الدين» لأسامة حلال، و«لحظة» لرغدة الشعراني. الأول سبق أن عرض في دمشق محققاً حضوراً طيباً وسمعة حشدت له جمهوراً كبيراً، والثاني يعرض لأول مرة، لكن سبق أن حققت عروض سابقة لهذه المخرجة الشابة فرجة مماثلة.
عرض الشعراني يبدو كأنه استمرار لتجارب سابقة، حيث التعرض لمشاكل الشباب الراهنة، لكن الأهم من ذلك الاعتماد الكبير على حشد العديد من عناصر الفرجة المسرحية، من فيلم سينمائي محضر سابقاً، إلى كاميرا فيديو مقيمة على الخشبة وتعرض فوراً على الشاشة، إلى الموسيقى والغناء الحي، الرقص، الروي، الكلمات المكتوبة على خلفية المسرح بين جزء وآخر من العرض، وفي النهاية قصص الحب، التي لا غنى عنها لمسرح وجمهور شاب. ومع هذا العرض الذي يقدم للمرة الأولى يحتاج المرء إلى مشاهدة هادئة، بعيداً عن صخب المهرجان.
أما عرض «حكاية علاء الدين» فيبدو أنه قرر واختار أن يرى في المسرح نوعاًَ من اللعب الحر، والمتعة. ومن الواضح أنه أراد نوعاً من المسرح يغازل الفرجة الشعبية، فهو أولاً عاد إلى حكاية «علاء الدين» من حكايات «ألف ليلة وليلة»، ثم وضع فرقة موسيقية لتقدم عزفاً حياً على الخشبة، فرقة لم تكن بمعزل عن أحداث المسرحية، حيث الموسيقيون في تفاعل دائم وتواصل مع الممثلين. اللافت في النص الذي كتبه كفاح الخوص أنه مصوغ بطريقة منقرضة في القول، ونعني لغة المقامات الأدبية التي صارت من الماضي، فإلى أي حد يعتني المزاج الشعبي اليوم بتلك اللغة. فإذا كان القصد من تلك اللغة الاقتراب أكثر من فرجة شعبية، فكيف ذلك والعرض يقرر أن يقدم علاء الدين معاصراً، بل بعيداً عن صورته الأسطورية ليبدو كائناً بشرياً هشاً وخائفاً، وليكشف من جهة أخرى كم يحتاج الناس للأسطورة، وكم يسهمون في تصنيعها.
العرض التونسي «حقائب» تجربة المخرج جعفر القاسمي الفائزة بالجائزة الكبرى لـ«مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي»، حصد إعجاب المتفرجين من دون عناصر وأدوات إبهار، سوى أداء الممثلين العزّل على الخشبة، الذين قدموا بحثاً في أحوال الممثل المسرحي، ولذلك اختلط العرض بين الواقع، واقع ممثلي المسرح البائسين، والمخيلة المسرحية التي تستحضر على الخشبة مشاهد من مسرحيات كبرى، وشخصيات كأنتيجون وميديا وعطيل وسواهم. تؤكد تجربة القاسمي أن المسرح التونسي ما زال مستمراً، وهو الذي يعمل في إطار «فرقة المسرح الوطني» التي يديرها محمد إدريس، في التأسيس على تجارب المسرحيين التوانسة الأول، التجارب الفريدة التي صارت علامات في المسرح العربي قبل التونسي.
هذا التداخل بين الواقع والمسرح سنجده في العرض الكويتي «دراما الشحادين» نص بدر محارب وإخراج عبد العزيز صفر. وهو يحكي عن متسولين يجتمعون في مكان مهمل، وهو مسرح قديم متهالك. وبالمصادفة يدخل إلى المكان رجل شرطة يطارد لصاً، فيحاول هؤلاء المتسولون إقناع الشرطي بأنهم، بثيابهم الممزقة، يتدربون على عمل مسرحي. هذا ما جادت به قريحة أحدهم، المتسول الذي عمل من قبل ممثلاً مسرحياً. هكذا سيرتجل هؤلاء مضطرين مشهداً من «هاملت»، فتأتي المسرحية الشكسبيرية نسخة هزلية من تلك التراجيديا.
لكن سرعان ما تفلت الأمور من أيدي المتسولين، يبدأون بالشجار في ما بينهم، فيظن الشرطي أن الشجار مجرد تدريب، ويروح هو كمراقب يصحح لهم بعض المشاهد والحلول الإخراجية. هكذا إلى ان يصل الأمر إلى القتل، فيظن الشرطي المغفل أنه يشاهد قتلاً مسرحياً مزيفاً، بل ينصح، بخبرته الجنائية أن يقدموا مشهد القتل بصورة أكثر أصالة، ويمضي، هو الذي شهد أمامه كل عملية القتل. هكذا يمر العرض بلطف ومرح، وخفة ظل.
نحت وارتجال
عرض العراقي مهند هادي «كامب»، الذي قدم من قبل في دمشق وعمان والجزائر، يبحث في أحوال العراق ما بعد الحرب، عبر لقاء لرجل وامرأة عراقيين يلتقيان في مكاتب الأمم المتحدة للاجئين في دمشق، الأول يريد أن يبقى قريباً من بغداد ليعود حين تسنح الفرصة المواتية، بينما المرأة لم تعد تطيق أن تبقى في بلد تمضي فيه من استبداد إلى آخر. لكن وراء هذه الحكاية حكايات أخرى، قدمت في إطار بصري وحركي متماسك، وبإيقاع حار يجعل العرض العراقي واحداً من أفضل عروض المهرجان.
وفي العرض البريطاني «مافي فكرة» (No Idea) للمخرج لي سيمبسون سنجد أنفسنا في مواجهة امرأتين، إحداهما تستخدم كرسي الإعاقة، تنزلان إلى الشارع من أجل عمل مسرحي مستوحى من الناس، من دون أي فكرة مسبقة. لذلك تطلبان من الناس أن يتخيلوا ما الفكرة وعم يجب أن تدور مسرحيتهما، تسجلان ما تحصلان عليه من إجابات.
تقول ليزا هموند، امرأة الكرسي، والتي تحمل اسمها ووضعها نفسه في الحياة إلى المسرح «عندما يراني شخص، ماذا يرى فعلاً؟ ما هي الافتراضات التي يبديها عن شخصيتي وقدراتي؟ وما هي تخيلاتي في المقابل عما يخطر على باله عندما يراني؟ وإذا قمت، على الأقل من جانبي، بتشكيل شخصيتي وفقاً للطريقة التي يراني بها الناس حسب تخيلي، فهل أنا تعبير خارجي عن نفسي الداخلية، أم مجرد مجموعة من الاستجابات لردود فعل الآخرين تجاهي؟».
الأساس في العرض هو استكشاف نظرة الناس للإعاقة، لكن العمل يقدم بطرافة ومرح، من دون أي أثر ميلودرامي، ولكن باعتماد كبير على الكلام، إذ يصعب الحديث هنا عن فرجة مسرحية.
وبالنسبة لعروض الرقص لم تستطع أن تجذب الجمهور، بل سرعان ما انفض عنها، بدءاً من «حتى يعود إليّ» كريوغراف جانفيف مازن وإيمان سماوي. والمسرحية «تجسد الحقيقة من خلال مواجهة الصورة المصنوعة بأبعاد إنسانية والتي بدورها ستواجه الراقصتين»، ولكن لندع ذلك جانباً، إذ ما من طريقة للاستمتاع بهذا العرض الفرنسي التونسي إلا بتخليصه من أي حمولة فكرية أو معنى، في النظر إليه كرقص وحسب، بل كوضعيات نحتية متتالية. إذا كان هذا الأمر ممكناً مع ذلك العرض، فقلد بدا مستحيلاً مع عرض اللبنانية جنى الحسن «مساحات أخرى» الذي يقدمه «محترف نقش» باعتباره «نموذجاً جديداً لتجربة الحركة الراقصة الدرامية التي تربط سلوك الشخصيات بالحدث في الفضاء الدرامي»، بدا العرض عسيراً وغير قابل للفهم أو للهضم، ولعلها واحدة من المرات القليلة التي يعبر فيها الجمهور عن رأيه عبر الانسحاب بعد إقبال كبير.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد