الميراث الإمبريالي لفرنسا
بادر وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي يوم الأربعاء 29 أبريل/نيسان الماضي إلى الإدلاء بدلوه في الجدل الدائر حول دور الاستعمار الفرنسي في البلاد المستعمرة، فقال إن بداية الاستعمار كانت لحظة مهولة، لكن تبعها تقدم في مجالات عدة بفضل المدرسين والمهندسين والأطباء.
وقد جاءت تصريحات دوست بلازي إلى إذاعة مونتي كارلو في معرض الرد على الحملة التي شنها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على فرنسا قبل ذلك بيومين، وقال في سياقها إن الاستعمار شكل "إبادة لهويتنا وتاريخنا ولغتنا وتقاليدنا".
ولكن دوست بلازي كانت له وجهة نظر أخرى قائلا: "في كل حالات الاستعمار هناك لحظتان: لحظة الغزو التي تكون دائما مهولة"، لتتبعها لحظة تقدم بفضل "نساء ورجال قاموا بعملهم في مجالات التدريس، والمهندسين الذين قاموا بعملهم، وكذلك الأطباء".
وتأتي التصريحات الفرنسية والجزائرية المتبادلة وسط اعتقاد بأن الطرفين فشلا في إحراز تقدم بصدد توقيع معاهدة الصداقة التي اقترحها الرئيس جاك شيراك في مارس/آذار 2003، على أن توقع عام 2005.
وقد تعطل توقيع المعاهدة بعد إقرار البرلمان الفرنسي يوم 23 فبراير/شباط 2005 قانونا يشيد بالدور الإيجابي للاستعمار.
فرنسا، كعدد آخر من الدول الأوروبية، تستشعر حنينا خاصا لميراثها الاستعماري.
الوسط الذي تنطلق منه أصوات إعادة الاعتبار لميراث الإمبراطوريات الاستعمارية لا يقتصر على بعض دوائر المحافظين الغربيين، بل يصل إلى الدوائر الليبرالية الجديدة أيضا.
"رغم أن العديد من الدراسات الغربية ودراسات أبناء المستعمرات السابقة وبعض أهل الرأي وجهت انتقادات جوهرية للنظام الإمبريالي، فإن أكثر الدول الإمبريالية السابقة امتنعت عن الاعتذار عن تاريخها وسياساتها"
وقد بدأت هذه الأصوات في الصدع برأيها منذ بداية التسعينيات، بعد أن طرحت نهاية الحرب الباردة مهمات جديدة على المجموعة الغربية المنتشية بهزيمة الشيوعية وبداية عصر جديد تهيمن فيه الرأسمالية الليبرالية والنظام الديمقراطي على مقدرات وتوجهات العالم.
الغرب قال إنه يحمل مسؤولية خاصة تجاه الشعوب الأخرى، مسؤولية قيادة من لم يسر بعد على طريق الديمقراطية وحرية السوق والتجارة والقيم الليبرالية العلمانية.
في هذه الأجواء ولدت بالطبع مقولة "الدول المارقة"، التي ترفض الانصياع للتحولات العالمية الجديدة، كما ولدت مقولة "الدول الفاشلة"، التي أخفقت قياداتها في إدارة شؤون بلادها.
وطرح، من ثم، موضوع حق القوى الغربية في التدخل في شؤون الدول الأخرى باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، أو إطاحة الأنظمة التي تشكل تهديدا لـ"السلم العالمي"، أو الأخذ بيد الشعوب الأخرى على نهج الديمقراطية والتحضر.
ولم يكن غريبا، بالطبع، أن تستعاد ذكرى الإمبراطوريات الغربية والحكم الاستعماري المباشر للشعوب الأخرى، وأن يثار النقاش حول ميراث هذه الإمبراطوريات.
المدهش أن هذه هي المناسبة الأولى ربما التي يثار فيها هذا النقاش على هذا المستوى الواسع في الدوائر الغربية منذ أن وضعت حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا نهاية لعصر النظام الاستعماري في الستينيات.
وبالرغم من أن العديد من الدراسات الغربية، ودراسات أبناء المستعمرات السابقة، وبعض أهل الرأي قد وجهت انتقادات جوهرية للنظام الإمبريالي، فإن أكثر الدول الإمبريالية السابقة قد امتنعت من الاعتذار عن تاريخها وسياساتها.
في المقابل، كان على الشعب والدولة الألمانيتين تحمل مسؤولية الجرائم والحروب التي ارتكبها الرايخ الثالث والحزب النازي، وأن يكفرا عن تلك الجرائم بكافة الوسائل والطرق الممكنة، كالتعويضات المالية السخية وتغيير المناهج الدراسية، والآداب والفنون، والتصريحات المتكررة لكبار رجال الدولة.
أما الدول الاستعمارية الغربية، فلا هي في دوائر الحكم ولا في المجال العام، نظرت بجدية قط إلى ميراثها الإمبراطوري وآثاره الفادحة والمستمرة على حياة واجتماع وتاريخ العديد من الشعوب الأخرى.
ولذا فإن النقاش الراهن، لم يكن رد فعل على إدانات سابقة للاستعمار في البلدان الأوروبية الغربية، بل يمثل موقفا مستبطنا في صفوف أصحابه طوال عقود، منعت الظروف الدولية السائدة وتحديات المعسكر الشيوعي الإعراب عنه.
في بريطانيا وفي الولايات المتحدة كذلك تعتبر أوساط الحكم سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولو بالقوة المسلحة، سياسة أخلاقية.
وفي فرنسا ترسل القوات المسلحة لفرض وجهة النظر الفرنسية إلى هذه المستعمرة السابقة أو تلك بدون أن يثار أي قدر من الجدل العام، وكأن التدخل الفرنسي العسكري مسألة حق مفروغ منه.
وقد صدر خلال السنوات القليلة الماضية العديد من الكتب والمقالات التي تستعرض بفخر لا يخفى إنجازات عصر الاستعمار وميراث الإمبراطوريات الأوروبية الغربية.
بل إن مؤرخا بريطانيا مرموقا يدعى نيال فرغوسون نقل الجدل إلى الفضاء العام عندما كتب ونفذ برنامجا وثائقيا، بثه تلفاز "بي بي سي"، تضمن دفاعا عن الإمبراطورية البريطانية ودورها في صناعة العالم الحديث.
ولكن الأمر الذي لاشك فيه هو أن فرنسا السياسية والثقافية ذهبت أبعد مما ذهبت أي دولة أوروبية استعمارية أخرى.
ففرنسا هي وحدها التي شرعت إعادة الاعتبار للإمبراطورية في قانون سنه البرلمان، لتحمل بذلك الإشادة بالميراث الاستعماري طابعا قانونيا، سرعان ما سينعكس على البرامج الدراسية والثقافية في البلاد، كما سيعزز من سياسة استعادة الدور الاستعماري للجمهورية.
"صدر خلال السنوات القليلة الماضية العديد من الكتب والمقالات التي تستعرض بفخر لا يخفى إنجازات عصر الاستعمار وميراث الإمبراطوريات الأوروبية الغربية"
تصريحات الوزير الفرنسي إذن ليست نزوة شاذة لسياسي طموح، أو صاحب رأي متفرد، بل هذا تيار متدفق من النزوع الإمبريالي الجديد، يكاد يغرق الأصوات الأكاديمية والثقافية ذات التوجه الإنساني التي حاولت خلال نصف القرن الأخير أن تنطلق من إدانة العهد الاستعماري إلى الدعوة لبناء عالم جديد من المساواة والتعدد، وأن تدفع الدول الغربية إلى تحمل بعض المسؤولية تجاه مكافحة الفقر والأمية والمرض في أنحاء العالم الثالث.
وعلينا أن لا نستغرب بالتالي عنف تصريحات الرئيس بوتفليقة، ولا حدة رد الفعل الجزائري، إذ في الجزائر التي أخضعت (ولم تخضع) للاستعمار الفرنسي طول 130 عاما، تجلت بشاعة النظام الإمبريالي كما لم تتجل في أي منطقة أخرى.
تمحور خطاب دوست بلازي الاعتذاري حول التفريق بين لحظة الاستعمار الابتدائية التي وصفها بالمهولة، ودفاعه عن تاريخ الحكم الاستعماري في المراحل التالية الذي اعتبره (كالمشرع الفرنسي) تاريخا من المنجزات الحضارية.
بهذا أراد دوست بلازي أن يضفي على خطابه شيئا من الموضوعية والإنصاف، ولكن خطابه في الحقيقة يحمل قدرا كبيرا من التزييف ومحاولة إنشاء تاريخ جديد للإمبراطورية.
ولعل بوتفليقة، الفرنسي الهوى والثقافة، كان هذه المرة على حق بأن الاستعمار الفرنسي دمر حياة الجزائريين، ودمر أنماط حياتهم الاجتماعية المستقرة منذ قرون، وحاول إبادة هويتهم، وترك الجزائر بعد الاستقلال مثقلة بمخزون هائل من العنف وأعباء إعادة بناء الذات.
إن حملنا تصريحات الوزير الفرنسي على محمل الجد فلابد أن نجد في تاريخ الجزائر المستعمرة ما يؤيد مقولة التحضير والبناء التي تعزى للنظام الاستعماري، ولكن ما نجده هو نقيض ذلك.
كان الغزو الفرنسي للجزائر هو أول غزو استعماري رئيسي لبلد مسلم. وبين 1830 عندما تدفق الجنود الفرنسيون على سواحل الجزائر، و1860 (أي بعد ثلاثة عقود على بداية الحكم الاستعماري) انخفض تعداد السكان الجزائريين من ثلاثة ملايين إلى مليونين ونصف المليون، طبقا لتقديرات مختلفة.
دفعت الجزائر زهاء المليون ونصف المليون من أهلها في غمار النضال ضد الاستعمار، ولكن هذا الانخفاض السكاني الكبير في القرن التاسع عشر لابد أن يقرأ من منظار حركة التحرر الوطني الجزائري، ولكن أيضا في سياق "الرسالة الحضارية" للنظام الاستعماري.
كانت لحظة الاستعمار الابتدائية لحظة مهولة بالفعل، لكن ما تلاها لم يقل هولا، فقد أدرك الجزائريون معنى الغزو منذ اللحظة التي لاحت فيها السفن الفرنسية المسلحة في أفق الجزائر، فقاوموا الغزاة بكل ما استطاعوا، حتى انتهت مهمة المقاومة إلى الأمير عبد القادر والقوى الشعبية.
ولم يستطع الفرنسيون هزيمة الموجة الأولى من المقاومة إلا بعد أكثر من ربع قرن من بداية الاحتلال.
في غمار هذا النضال الطويل، تصرف العسكريون الفرنسيون الغزاة ببشاعة أصبحت السمة الرئيسة لكل حقبة الاحتلال الطويلة.
نظرت قوات الاحتلال ورجال إدارته إلى الجزائريين باعتبارهم برابرة متوحشين، يحتلون مرتبة أدنى من الفرنسيين، ونظروا إلى مهمتهم في الجزائر باعتبارها استئنافا لدور الإمبراطورية الرومانية وانعكاسا لرسالة فرنسا الحضارية الجديدة.
ولكن عواقب الاحتلال الفادحة لم تقتصر على الحملات المسلحة والوحشية ضد مناطق المقاومة.
شيئا فشيئا تبلورت في الجزائر سياسة فرنسية للتعامل مع المستعمرات؛ ولأن الجزائر لم يفصلها عن فرنسا إلا عرض المتوسط، فقد أخذت السياسة الفرنسية فيها طابعا خاصا.
تدفق المستوطنون الفرنسيون على الجزائر من كل حدب وصوب، وعملت الإدارة الاستعمارية على تمكين هؤلاء المستوطنين من أفضل الأراضي الزراعية الجزائرية.
بعض الأرض التي استولى عليها المستوطنون كانت أرضا حكومية جزائرية، وبعضها صودر من الملاك الجزائريين، والبعض الآخر كان أرضا وقفية تم الاستيلاء عليها في سياق سياسة تصفية القطاع الوقفي.
"الجزائر المستقلة لم تتحرر تماما وحتى اليوم من ميراث العنف؛ عنف قوات الاحتلال والمستوطنين الفرنسيين، والعنف الاجتماعي والثقافي للنظام الإمبريالي"
ولعل حرب الإدارة الاستعمارية على الوقف كانت واحدة من أعمق الحروب على الاجتماع الجزائري وأكثرها فداحة.
كما في كل بلاد الإسلام كان القطاع الوقفي في الجزائر في القرن التاسع عشر قد وصل ذروة انتشاره وقوته، محتلا الموقع الرئيسي في دعم التعليم الإسلامي التقليدي وطبقة العلماء، ودعم القطاعات المعوزة في المجتمع، سواء الطبقات الفقيرة أو أصحاب الحاجات الطارئة كالتجار والغرباء، ودعم الرعاية الصحية.
كما لعب الوقف الخاص (المقصور على أسرة ما) دورا كبيرا في تماسك أجيال من العائلات المدينة.
وبسيطرة الإدارة الاستعمارية على قطاع الوقف، قوض التعليم الإسلامي، وأضعفت طبقة العلماء، وهمشت عائلات تقليدية كبرى، وانتشر الفقر والجوع في البلاد.
أصبح الجزائريون عمالا زراعيين لدى المستوطنين الفرنسيين، وما إن عمل الأخيرون على تحويل الزراعة في الجزائر من زراعة للحياة والبقاء إلى زراعة للسوق، حتى سيطرت زراعة الكروم (مصدر صناعة الخمور الفرنسية) على القطاع الزراعي.
وبذلك اكتملت حالة الحصار على المجتمع الجزائري، إذ إن الجزائريين لم يصبحوا أجراء للمستوطنين الفرنسيين وحسب، بل إن إمكانيات بلادهم لم تعد كافية للقيام بمتطلبات الحياة.
أدى تقويض البنى التعليمية والاجتماعية التقليدية إلى جعل الجزائريين أكثر عرضة للمؤثرات الفرنسية الثقافية، ولأن فرنسا الحديثة، فرنسا ما بعد الثورة، قامت على أساس سيطرة الدولة على مقدرات المجتمع، فقد نقل الفرنسيون تصورهم للدولة إلى الجزائر.
أقام المستعمرون في الجزائر عددا محدودا من المدارس الحديثة، أي العدد الكافي لتخريج أدوات من الجزائريين لخدمة أهداف الإدارة الاستعمارية.
وقد كانت هذه المدارس فرنسية بالفعل، لغة ونهجا ورؤية للعالم، ولم يكن غريبا في النهاية أن تتعرض التقاليد العربية والإسلامية لضربات جسيمة وأن تهيمن الثقافة الفرنسية على الحياة الجزائرية.
في ظل ظروف محلية وعالمية جديدة، انفجرت ثورة التحرير الجزائرية عام 1954، وهي الثورة التي استمرت عشر سنوات دامية حتى أجبرت الفرنسيين على الرحيل، ولكن الجزائر المستقلة لم تتحرر تماما، وحتى اليوم، من ميراث العنف، عنف قوات الاحتلال والمستوطنين الفرنسيين، والعنف الاجتماعي والثقافي للنظام الإمبريالي.
وهذا ما ينبغي لفرنسا رؤيته والاعتذار عنه، وليس ذلك مطلوبا من فرنسا وحدها، بل كل الإمبرياليات الأوروبية الأخرى.
بشير موسى نافع
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد