برج بابل "النظام العالمي الجديد"
الجمل- نيكولاي ماليشيفسكي- ترجمة: د. مالك سلمان:
هناك عامل مشترك يتم إخفاؤه بعناية في الأحداث الأخيرة في العراق وليبيا وسوريا: نهب المتاحف وتدمير طبقات كاملة من الإرث الغني للثقافات القديمة من قبل "المحررين" الأمريكيين. فعلى سبيل المثال, بعد أن نهبَ الأمريكيون متاحفَ بغداد, تم نقل قسم كبير من المسروقات إلى سوق اللآثار السوداء في الغرب. ويشكل هذا أيضاً أحد الدوافع وراء الحملة الأمريكية ضد دمشق. إذ إن التجارة غير القانونية بالآثار مربحة مثلها مثل تجارة المخدرات.
ومع ذلك, لا يقتصر كل شيء على مجرد نهب التحف والآثار. فهناك شيء أكبر من ذلك بكثير: السيطرة على المستقبل من خلال التدمير الانتقائي للأعمال الفنية القديمة التي لا تقدَر بثمن. يجب ألا ننسى أن العاصمة السورية ليست فقط واحدة من أقدم المدن في التاريخ (يعتقد بعض علماء الآثار أن عمرها 6,000- 8,000 سنة)؛ لكنها مدينة ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى التاريخ الإسلامي واليهودي والبروتستانتي.
من يسيطر على الماضي يتحكم بالمستقبل. ومن يتحكم بالحاضر يسيطر على الماضي. إن هذه المقولة للكاتب والدعائي الإنكليزي جورج أورويل, الأخصائي بالحرب النفسية, معروفة اليوم في كافة أنحاء العالم. وبمقدور السيطرة على المستقبل من خلال تغيير ماضي أمة ما عبر قطع جذورها التاريخية أن يدمرَ حتى أعتى الأمم.
تخيلوا شخصاً فقد ذاكرته. يذهب إلى شخص آخر ويسأله عن هويته السابقة. ويمكن للشخص الذي يسأله أن يقول إنه قبل أن يفقد ذاكرته كان السائلُ سيدَه, وهو مدين له بكل شيء . أو يمكنه أن يقول إن الشخص الذي فقد ذاكرته كان عبداً له و هو يدين له بكل شيء. وإن لم يكن بمقدور الشخص الذي فقد ذاكرته أن يتذكر هويته الحقيقية, فعليه في نهاية الأمر أن يصدق القصة المفروضة عليه لبقية حياته. ومن الممكن أن تفعلَ ذلك بأمة بأكملها: أن تلغي ذاكرتها من خلال تدمير كافة مخازن المعرفة القديمة (المتاحف, المكتبات) أو عبر تغيير محتوياتها بما يتناسب مع مصالحك.
اليوم يحصل شيء من هذا القبيل على مستوى كوني. هناك تحضيرات قائمة لإعادة كتابة تاريخ الإنسانية جمعاء. وقد بدأت هذه العملية بعد الغزو الأمريكي للعراق. إذ يعتبر الخبراء نهبَ المتاحف العراقية (في بغداد, والموصل, إلخ) أكبر كارثة ثقافية في هذا القرن. إذ كانت هذه المتاحف تحتوي على مجموعات من الحقب السومرية, والآشورية, والبابلية, والإسلامية. وبعد الغزو الأمريكي تمت سرقة حوالي 200,000 قطعة فنية وثقافية من متاحف ومكتبات العراق؛ وكان معظمها يتمتع بأهمية كونية, بما في ذلك روائع الحضارات القديمة في أور, وسومر, وبابل, وآشور ومناطق بلاد الرافدين الأخرى, مهد الحضارة الإنسانية.
لعملية بناء الأساس الإيديولوجي لبرج بابل النظام العالمي الجديد جانبان: الجانب الأثري, والمتاحف.
الجانب الأثري مرتبط بالتدمير المتعمَد للمواقع الأثرية باستخدام القنابل والعربات المدرعة. قالت ناتاليا كوزلوفا, وهي باحثة في "الهرميتاج" ذهبت إلى العراق عدة مرات: "هناك الآلاف من اللوائح غير المترجمة مطمورة في الأرض. أو بالأحرى, لم تعد موجودة. فبعد تفجير القنابل في ذلك الموقع, لم تبق هناك أية ألواح ... على المرء أن يعترف أن [صدام] حسين كان يعتني بالآثار والصروح العراقية. حيث كان يربط بشكل مباشر بين أمجاد الملوك القدماء وحكمه الشخصي ... إذ لم يكن صدام يفتخر فقط بهذه الصروح, لكنه خصص مبالغَ طائلة لعمليات التنقيب, والحفاظ على هذا الإرث الثقافي ودراسته, كما أنه كان ينزل عقوبات صارمة بلصوص الآثار. وعندما فقدَ السيطرة على جزء من الأرض بعد حرب 1991, تدهورَ الوضع بشكل كبير."
وتبعاً لتقرير أعدَه جون كيرتيس, وهو خبير يعمل في المتحف البريطاني في لندن زارَ موقع التنقيب وقام بتوثيق الضرر الذي لحق بآثار بابل القديمة التي تبعد 88 كم عن بغداد, كانت الخسائر لا تعوَض. والذين قاموا بهذا العمل هم عسكريون من الولايات المتحدة وبولندة. وقد توصلَ كيرتيس إلى نتيجة مفادها أن التخريبَ كان متعمَداً في معظم الحالات. فعلى سبيل المثال, قام الأمريكيون بالعبور بالدبابات فوق رصيف الشارع القديم بلا أي سبب واضح. وقد قدمَ رئيس لجنة الآثار البرلمانية, اللورد ريدزديل, تقييماً لحجم المأساة بالقول: "أتوقع أن مدينة بابل الأثرية قد تضررت لكنني لا أعرف بدقة حجمَ هذا الضرر ... إنه عمل في غاية الفظاعة."
كما صرحَ الكولونيل جون كولمَن, رئيس الأركان السابق للقوة البحرية المقاتلة الأولى في العراق, بشكل رسمي أن الولايات المتحدة مستعدة للاعتذار للعراقيين عن الدمار الذي ألحقته القوات الأمريكية ببابل. فبعد الغزو الأمريكي تم إنشاء القاعدة العسكرية "فورت بابيلون" فوق آثار بابل, مباشرة فوق آثار المعابد القديمة. كما تم بناء مهبط للحوامات ومحطات تزويد بالوقود هناك أيضاً. قام الجنود بحفر الخنادق في مواقع التنقيب الأثرية, كما قامت الدبابات بسحق الرصيف الذي يعود إلى 2,600 عاماً تحت سلاسلها.
يحدث الشيء نفسه في ليبيا, وهي بلد يحتل موقعاً أثرياً غنياً من الصحراء. فتبعاً لعالم الآثار الفرنسي أونري لوت, "كانت الصحراء الوسطى في الحقبة النيوليثية [العصر الحجري الحديث] أحد أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان في المجتمع الإنساني قبل التاريخ."
إن الجانب المتحفي لتشييد "برج بابل" النظام العالمي الجديد مرتبط بنهب متاحف الأعمال الفنية التي تعود إلى أقدم الحضارات في العالم, كما حدث في متحف الهواء الطلق للبنى القديمة لجرمانتيس في جيرما (جرَما) في ليبيا, الذي نهبَه "الثوار", كما زعم, الذين لا يجيدون حتى القراءة. حيث تتم سرقة القطع الفنية لتقديمها لاحقاً بشكل جديد يلبي حاجات كهَنة الكونية بمثابة دليل على التأكيدات التي أطلقها علناً منذ عدة عقود ز. بريجينسكي في كتابه "الحقبة التكنيترونية" [تكنيتروني: متأثر بالتغيرات الناشئة عن التقدم التكنولوجي والإلكتروني ..]. لم يكن سنودن ومانينغ [المسربان الأمريكيان لوثائق الاستخبارات الأمريكية] قد ولدا بعد عندما كتب بريجينسكي عن "الكتلة التافهة" الضخمة التي تتكون منها الشعوب والحاجة إلى السيطرة عليها عبر ملفات يتم تحديثها باستمرار:
"كنا ننتقل إلى حقبة تكنيترونية من الممكن أن تتحولَ بسهولة إلى دكتاتورية ... ستكون هذه الملفات عرضة للاستعادة الفورية من قبل السلطات. وسوف تنتقل السلطة إلى أيدي أولئك الذين يتحكمون بالمعلومات. سيتم رفد مؤسساتنا القائمة بمؤسسات إدارة ما قبل الأزمة, تتلخص مهمتها في التحديد المبكر للأزمات الاجتماعية وتطوير البرامج التي تمكننا من التأقلم معها ... وسوف يشجع ذلك خلال العقود القليلة القادمة على تشجيع الميل باتجاه الحقبة التكنيترونية, وهي عبارة عن دكتاتورية, كفيلة بإزاحة تدريجية للإجراءات السياسية كما نعرفها اليوم. وأخيراً, ومن خلال التطلع إلى نهاية القرن, يمكن لإمكانية السيطرة البيوكيماوية على العقل والعبث الجيني بالإنسان, بما في ذلك كائنات تؤدي وظائف الإنسان وتفكر مثله أيضاً, أن تفسحَ المجال لبعض الأسئلة الصعبة".
يتمثل تتويج "العصر التكنيتروني" في انتصار النظام العالمي الجديد على شكل إمبراطورية عالمية ترأسها نخبة من "المتنورين" وبقية "المجتمع", حيث سيعبدون في الدائرة الداخلية "كائناً متفوقاً" وحيداً.
لهذا السبب نراهم اليوم يجمعون البقايا القديمة المقدسة من كافة بلدان العالم. ويتم تنسيق هذه المجموعة من قبل مؤسسة بحثية يمكن تسميتها, بالمقارنة مع "الرايخ الثالث", "أهنينيربي" النظام العالمي الجديد. ["أهنينيربي": معهد نازي شبه علمي أنيطت به مهمة القيام بأبحاث علمية حول التاريخ الأثري والثقافي المزعوم للعرق الآري المفترض؛ تم تأسيسه في 1 تموز/يوليو 1935 من قبل هاينريش هيملر, وهيرمان وورث, وريتشارد وولتر داريه]. ففي العراق استخدم أعضاؤها شهادات وأوراقاً اعتمادية من "الاتحاد الأمريكي للسياسة الثقافية" كما كانت لديهم معلومات مسبقة عن خزائن سرية تحتوي على معروضات تهمهم, ومفاتيح لهذه الخزائن, إلخ. وتبعاً لمعلومات من رئيس "مجلس الآثار القديمة والتراث العراقي" دوني جورج, فقد دمرت الأبحاث التي تم إجراؤها في "المتحف الوطني العراقي" في بغداد في المئة سنة الأخيرة بشكل كامل. وعندما تم فحص المتحف, وجد الموظفون قاطعات زجاج متطورة تركها اللصوص وراءهم. وفي شهادته, قال دوني جورج: "لم يلمسوا نسخة جبصينية واحدة من النسخ الموجودة في المتحف. لم يأخذوا سوى القطع الأصلية التي تتمتع بقيمة تاريخية ... ونتيجة لذلك فقدنا إرث البشرية كلها: وهي أعمال فنية لا تقدر بثمن عمرها 5,000 سنة".
وفي آذار/مارس من سنة 2011 ظهر التقرير التالي في الإعلام: الدكتور دوني جورج, باحث لامع, من أصول آشورية, توفي جراء نوبة قلبية مفاجئة في مطار تورونتو في كندا. كان في طريقه لإلقاء محاضرة على جمهور كندي حول البحث عن الآثار المسروقة من المتاحف العراقية. منذ سنة 2003, تركز اهتمام دوني جورج على النضال من أجل استرداد الآثار التي سرقها الأمريكيون من المتاحف ومواقع التنقيب الأثرية العراقية وإعادتها إلى موطنه العراق. ولم يُخفِ دوني جورج حقيقة تورط الحكومة الأمريكية في السرقة المدروسة للتحف الفنية العراقية.
يمكن للمرء أن يسترجع حوادثَ غريبة معينة وقعت في مصر أثناء "ثورة" 2011. فتبعاً للتقارير الإعلامية, تعرض "المتحف الوطني" في القاهرة – الواقع بين مقر إقامة مبارك, الذي تم إحراقه خلال الاضطرابات, وميدان التحرير الغاضب – للتخريب والنهب. وفي حقيقة الأمر حصلت الأحداث بطريقة مختلفة: قام أشخاص مجهولون, ظهروا فجأة في المتحف في نفس الوقت التي بدأت فيه الاضطرابات, ومن الواضح أنهم كانوا على دراية تامة بمهمتهم, ﺑ "تمشيط" محتويات المتحف. أخذوا القليل, لكن ما أخذوه كان الأكثر قيمة, ليس من الناحية المادية بل الثقافية, دون إلحاق الضرر بخزنة زجاجية واحدة.
وبالطريقة نفسها, وخلال غزو العراق, كان أعضاء "الأهنينيربي" أولَ من دخل إلى البلاد, حتى قبلَ بدء العمليات العسكرية للائتلاف الغربي. كما حدث شيء مماثل في ليبيا ومصر, ويتم التخطيط الآن للعملية نفسها في سوريا. لدى هؤلاء الأشخاص مهمة محددة: إيجاد واستعادة بقايا وتحف قديمة معينة. ويساعدهم في إنجاز مهمتهم هذه كلاب صيد لا تقل توحشاً عن قادة استخبارات "إس إس" التابعة لهتلر, برموزهم "الرونية الغامضة" وجهودهم الرامية إلى زرع علم الصليب المعقوف على "إلبروس", إلخ. هؤلاء الأشخاص هم أول اللصوص الذين يسرقون المتاحف ومؤسسات الدولة الأخرى, وكذلك بيوت وقصور الأثرياء العراقيين والليبيين التي تحتوي على مجموعات خاصة من التحف, وكل ذلك بمعرفة كبيرة واختصاصية. والآن يريدون تكرار ذلك في سوريا.
بالإضافة إلى المحاولة البسيطة للإثراء, تخفي أفعال هؤلاء الأشخاص تنظيماً سرياً, ومعنىً غامضاً. فهم يدخلون ليس إلى أراضي العراق الحديث أو سوريا الحديثة, بل إلى أراضي بلاد الرافدين القديمة التي تم في عاصمتها بابل تشييد "إيتيمينانكي", "معبد تأسيس السماء والأرض". وقد أطلق على هذا البناء السحري – المصمَم, من بين أشياءَ أخرى, لمراقبة النجوم – اسم "برج بابل" في "الإنجيل". وتمثل زواياه وفي خطط الأعضاء السريين الذين أمسكوا بزمام العراق وسوريا ومصر, فإن ذرية بنائي "برج بابل" – الذين خالفوا إرادة الله وعوقبوا بتشتيتهم في أرجاء الأرض – سوف يعودون في النهاية إلى مهدهم بهدف تشييد برج "النظام العالمي الجديد" العصي على التدمير, كما يعتقدون.
http://www.strategic-culture.org/news/2013/09/04/the-new-world-orders-tower-of-babel.ht
تُرجم عن ("ستراتيجيك كلتشر فاونديشن", 4 أيلول/سبتمبر 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد