بين الجولاني ومظلوم عبدي .. المايسترو الأميركي يضبط التحولات!
من اللحظات النادرة التي تجلّى فيها تقاطع المصالح بين هيئة تحرير الشام والولايات المتحدة بأوضح صوره، كانت تلك اللحظة التي اصطادت فيها طائرة أميركية من دون طيار أبا القسّام الأردني (خالد العاروري) القيادي في جماعة "حراس الدين" أواخر الشهر الماضي بينما كان الجولاني في خضمّ حملة متكاملة لقصقصة أجنحة الجماعة ومنعها من تشكيل أي قوة على الأرض من شأنها منافسة سلطته وزعامته واحتكاره لراية "الجهاد".
التبرّع الأميركي باغتيال منافسي الجولاني لم يكن مجرد خدمة تصب في مصلحة الأخير، بقدر ما كان تعبيراً عن معادلة دولية تسعى الولايات المتحدة لتكريسها من أجل تحقيق أهداف عدة، أهمها: سحب الذرائع من أمام الجيش السوري للقيام بأية عملية عسكرية واسعة في منطقة خفض التصعيد في إدلب وتحرير كامل المحافظة من براثن الارهاب؛ وتخفيف الضغوط الروسيّة عن أنقرة التي ظهر جلياً مدى عجزها عن تنفيذ بنود اتفاق الخامس من آذار/مارس مع موسكو؛ وكذلك رغبة الولايات المتحدة في وضع بصمتها على عملية إعادة هيكلة هيئة تحرير الشام ورعاية بوادر تحوّلها الثالث، بما من شأنه توظيف الهيئة وقوتها العسكرية ضمن الاستراتيجية الأميركية الهادفة لممارسة الضغط الأقصى على حكومة دمشق.
بالتزامن مع هذا المشهد السوريالي القادم من الشمال السوري، كان مثلث الجزيرة يعيش حالة مخاض عسيرة لا تقلّ سوريالية عن سابقتها. وتمثّل ذلك بما ذكرته تسريبات شبه مؤكدة عن مساعٍ يقودها الجنرال الكردي مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية من أجل النأي بنفسه عن حزب العمال الكردستاني وطرد قيادات الأخير من أراضي “الإدارة الذاتية” وعلى رأس هؤلاء القياديان البارزان في حزب العمال الكردستاني صبري أوك وعلي الشير، وذلك ضمن عملية إعادة هيكلة تطالب بها الولايات المتحدة بشكل حثيث منذ منتصف العام الماضي.
وتكاد أهداف واشنطن في مثلث الجزيرة تتطابق مع أهدافها في الشمال السوري. إذ يأتي على رأس هذه الأهداف ما بات يعرف بـ” فصل المعتدلين عن الارهابيين”، غير أن العرقلة هنا موجهة بشكل أكثر وضوحاً ضد أنقرة لمنعها من القيام بأية عملية عسكرية جديدة بحجة محاربة عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني وحرمانه من إنشاء ما تسميه الأدبيات التركية “ممر الارهاب في الجنوب”.
ويتمثل الهدف الثاني للولايات المتحدة في بذل قصارى جهدها من أجل إنجاح مساعي توحيد الأجنحة الكردية بما سيفضي من حيث النتيجة إلى استدامة الاستقرار في الشرق السوري بعيداً عن السلطة المركزية في دمشق. ولا شك في أن ذلك يأتي تنفيذاً أيضاً لمقتضيات سياسة الضغوط القصوى الهادفة إلى ليّ ذراع دمشق وإجبارها على تقديم تنازلات في إطار عملية التسوية السياسية.
ولا يخرج الهدف الثالث عن استراتيجية “الفصل والوصل” التي تتبعها واشنطن مع حليفتها اللدود أنقرة بهدف فصل الملفات الخلافية بينهما والتعامل مع كل ملف على حدا بما يضمن استمرار التواصل بين الدولتين الحليفتين. وقد اجترحت الإدارة الأميركية هذه الاستراتيجية المعقدة استجابة للتعقيدات الكثيرة التي طغت على العلاقة بين الطرفين ولتشعباتها الاقليمية والدولية، وتذبذبها المتطرف بين الانسجام والتناغم في بعض الملفات كملف ليبيا، وبين الاختلاف والتنافس الذي يصل أحياناً إلى درجة التناقض، كما هو الحال في الملف السوري. وقد يكون الهدف النهائي لمسؤولي رسم السياسة السورية في الإدارة الأميركية وعلى رأسهم جيمس جيفري، هو إبقاء السياسة التركية ضمن المنطقة الرمادية قدر الإمكان باعتبار ذلك يبقى خياراً أفضل من ذهاب أنقرة نحو التماهي المطلق مع السياسة الروسية.
وكما أن التخلّص من فرع القاعدة في إدلب أو على الأقل حرمانه من امتلاك أي قدرات تمكنه من التأثير على الخط الاستراتيجي للأحداث في المنطقة، يمثل هدفاً أميركياً ظاهراً يستبطن في ثناياه أهدافاً أخرى موجهة نحو التقارب مع أنقرة من جهة، وتشديد الضغوط على دمشق من جهة ثانية، فإن الفصل بين قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الارهاب الأميركية والأوروبية، يمثل بدوره هدفاً أميركياً آخر يستبطن مجموعة من الأهداف التي قد تكون أكثر أهمية منه، وهي تصب كذلك في خانة التقارب مع أنقرة والضغط على دمشق. وبالتالي يمكن القول أن تزامن عمليتي إعادة الهيكلة والتحوّل في هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية تعكس مدى قدرة الولايات المتحدة على التلاعب بخيوط اللعبة والعمل على خلط الأوراق بما يعرقل الاندفاعة الثلاثية لضامني أستانا روسيا وتركيا وإيران من أجل إنعاش مسار الحل السياسي الذي عملت موسكو على رسم خريطته بدبلوماسية هادئة وبعيدة النظر مارستها بإتقان مع أنقرة الدولة العضو في الحلف الأطلسي الناتو.
غير أن إمساك واشنطن بعصا المايسترو لتحريك التطورات في الشمال والشرق السوريين وضبطها على إيقاع مصالحها وأهدافها، لا يعني بأيّ شكل من الأشكال أنها أصبحت تتحكم بزمام الأمور بشكل مطلق وبعيداً عن تأثيرات اللاعبين المحليين أو الاقليميين.
ويتبدّى عدم إحكام واشنطن قبضتها على مجمل التطورات من خلال مظاهر عدة شهدتها محافظة إدلب خلال حملة الجولاني ضد غرفة عمليات “فاثبتوا”. إذ بدا جلياً من الوهلة الأولى أن حملة الجولاني هذه المرة تختلف في أسلوبها وأهدافها عن حملاته السابقة ضد فصائل الجيش الحر وبعض الفصائل المحسوبة على تيار الاسلام السياسي. فعلى الرغم من إصرار الجولاني على الحسم لمنع أي منافسة جدية لزعامته، إلا أن ذلك لم يدفعه إلى انتهاج سياسة الاستئصال التام ضد جماعات القاعدة وإجبارهم على الخروج من مناطق سيطرته كما فعل مع فصيل “الزنكي” قبل حوالي سنتين على سبيل المثال. وقد يدل ذلك على أن الجولاني ما زال يستشعر بحاجته إلى ورقة القاعدة لممارسة المناورة والابتزاز في مواجهة بعض اللاعبين كأنقرة وواشنطن، لا سيما في ظل مساعي دول خليجية لاستعادة تأثيرها على تنظيمات القاعدة نكاية بالنفوذ التركي.
كما أن موسكو ودمشق تمارسان سياسة “حافة الهاوية” بخصوص ملف إدلب، وتسعيان لإبراز حقيقة أن الخيار العسكري هو خيار مطروح دائماً على طاولة البلدين في مواجهة العجز التركي عن تنفيذ بنود اتفاق آذار. وينطوي ذلك على رسالة مبطنة إلى الولايات المتحدة بأنها ليست اللاعب الوحيد على الساحة، وأن هناك طرق واساليب لمواجهة سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها ضد دمشق.
أما في الشرق السوري، وعلى رغم الاحتلال الأميركي المباشر للمنطقة وأهم حقول النفط فيها، فإن التعقيدات التي تحيط بموقف واشنطن تبدو أكثر تشابكاً وتشعباً. فمن جهة يبدو أن ثمة جناح داخل “وحدات حماية الشعب” الكردية يرفض الاذعان للإملاءات الأميركية ولا يوافق على فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني.
وقد يكون ما جرى تسريبه قبل أسابيع عدة من تعرض الجنرال مظلوم عبدي لمحاولة اغتيال وما أعقبه من تبديل طاقم حراسته مؤشر هام في هذا السياق. ويتعزز ذلك من خلال تسريبات متواترة بدأت منذ العام الماضي وما زالت مستمرة حول وجود قيادات في جبال قنديل (كناية عن قيادة حزب العمال الكردستاني) لا تنظر بارتياح إلى أداء كل من مظلوم عبدي وإلهام أحمد وتشكك بمدى تماهيهما مع السياسة الأميركية وتداعيات ذلك على مصير الحزب.
لكن الأهمّ أن هناك رأياً وازناً، ينظر إلى مظلوم عبدي وتحولاته على أنها مجرد مناورة سياسية لإرضاء الولايات المتحدة مرحلياً وإظهار قوات سوريا الديمقراطية بمظهر الفصيل المعتدل القابل للتأقلم مع متطلبات السياسة الاقليمية والدولية. ويعتبر أنصار هذا الرأي أن مظلوم عبدي حتى وإن أراد بالفعل طرد صبرك أوك وغيره من القيادات العمالية من مناطق الإدارة الذاتية فإنه غير قادر على تنفيذ القرار على أرض الواقع بدون دفع تكاليف عالية.
عبد الله سليمان علي-موقع 180
إضافة تعليق جديد