تغلب ظاهرة التحرش الجنسي على الخطاب الديني وأفول التدين السياسي والمظهري
“أريد أن تعيش بناتنا (وأطفالنا) حياةً أفضل” .. جملة تختم بها الكاتبة التونسية “رجاء بن سلامة” تعليقا من ضمن تعليقاتها بصفحتها الشخصية حول الأوضاع السياسية الراهنة لبلدها، غير أن هذه الجملة لا تكشف فقط رغبة الكاتبة بقدر ما تعكس مجتمعا بأكمله وتلخص مطالب وأمنيات العديد من الناس، خاصة بالظروف المضطربة الحالية التي تعرفها المناطق العربية.
بالنسبة لاستفحال ظاهرة التحرش، هناك من يسعدون بها ! لأنهم يرونها كعلامة من علامة الساعة، انطلاقا من نبوءة الحديث “لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيرهم يومئذ من يقول : لو واريتها وراء هذا الحائط”، وهذا ليس بالأمر المسلي، فهؤلاء لديهم قابلية الاصابة بالانفصام أو الهوس الاكتئابي، فتخيل(ي) أنهم يحتلون منابر إعلامية أو ثقافية .. الأمر ليس مسليا فعلا ! .
بمقال للأستاذ “محمودعبدالله نجا” سعى فيه للإجابة عن سؤال تضمنه الموضوع حول نفس الظاهرة، يقول فيه الأستاذ : “و السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هل نجح الغرب بقوانينه الوضعية في القضاء علي التحرش الجنسي حتى نترك ما أمر به ديننا الاسلامي العظيم، و ننساق وراء قوانينهم ؟” . الغريب في الأمر هو أنه ليس هناك إسلام موحد حتى يتم الاتفاق على أوامر معينة، فبدون التطرق لذكر المذاهب والطوائف، نجد في الشارع الواحد الذي يتضمن مسجدين : لكل مسجد إسلامه الخاص. ومرتادي هذا المسجد لا يقربون المسجد الآخر ولا ينصتون لخطبته (يوم الجمعة)، ونحن نتحدث انطلاقا من معاينة مباشرة واعترافات واقعية من المعنيين. فمن يتخاصمون لأجل وضعية معينة ـ كوضع اليدين في الركوع أو الوقوف، أو قول آمين بعد الفاتحة من عدمها ـ هل سيتفقون حول قانون دستوري معين ؟!! . وقد علقت كذلك رجاء بن سلامة عن مثل هذه المواقف بأنها : “ستصيب الشعب بالجنون”.
“هؤلاء لم يرتقوا بعد إلى السياسة.. هل فهمتم لماذا نطالب بتحييد الدّين عن السّياسة ؟ ..” كما في باقي تعليقات رجاء.
الكبت لا يكون بالضرورة بسبب الدين، فهناك عدة عوامل أخرى تتضافر، كالفقر والبطالة وسوء التكيف أو سوء التواصل الاجتماعي، وأيضا المشاكل النفسية ومشاعر الإثمية (والتي يعززها الدين). أما بالنسبة للتحرش فالدين يتخد منه موقفا صارما مثله في ذلك مثل القوانين المدنية الحديثة؛ غير أن البيدوفيليا تُشكِّل استثناء، بما أن بعض المذاهب الدينية تجد مبررات ـ انطلاقا من الدين ـ للارتباط ب“طفلات” في سن التاسعة أو الثامنة، كذلك نجد بعض التعليقات الساخرة التي تصف الفيديوهات الغنائية للفنانين الصغار والفرق الموسيقية الحديثة بأنها بيدوفيليا استعراضية ـ بمعنى الاستمتاع بمشاهدة قاصرين يرقصون ويغنون كالجاستن بيبر أو الوان دايركشن الخ ـ ما يفيد أن الإعلام يشجع الناس لا شعوريا على استهواء القاصرين أو تحبيب البيدوفيليا ! . لكن يظل التفسير مجانبا للواقع رغم أنه ينطبق على البعض الذين قد يستهويهم مشاهدة مراهقين مثيرين، وتعمد بعض الشركات الإباحية لإنتاج مقاطع بها نساء غير أنهن يبدين في سن المراهقة (تسريحة الشعر واللباس) يشاركن في العملية الجنسية كإيحاء بأنهن طفلات (أو حتى لخداع المشاهد)، وذلك لاستقطاب هذه النوعية بتوفيرها لهم (كمادة للاستهلاك).
ورغم أن الدين يؤكد على أن خطابه هو الأصح والأصلح للمجتمع كضمان لحرية وأمن الأفراد ـ ويتّهم المجتمعات التي لا تعتمد على المنهج الديني بالسياسية أو على التشريع القانوني والأخلاقي المستخلص من الدين ـ فإننا نلاحظ فشل منظومته وخطابه مقارنة بالأوساط المدنية والغير مسيسة دينيا التي يتّهمها كسبب لجلب الخراب على العالم.
بأفغانستان ضبطت كاميرا تجسس للجيش الأمريكي 3 أفغانيين يتناوبون على نكاح عنزة صغيرة، وبما أن الفيديو يتم حذفه على اعتبار أنه يتضمن مشاهد عنف غير لائقة، لدى فيمكن البحث عنه بمحرك غوغل تحت عنوان “US ARMY Camera Catches Afghans gang banging a goat”.
وقبل أيام تم نشر فيديو لشاب سعودي يتلمس المناطق الحساسة لطفلة لا تتجاوز الثمانية السنوات أمام أحد المصاعد ـ وذُكِر بالصحف أنه مصعد يؤدي لمسكنها ـ ، ويمكن كذلك متابعة الفيديو بالبحث عنه تحت عنوان “شاب سعودي يتحرش بطفلة”، بدل وضع لينكات بالهامش نظرا لأنها غير تابثة فقد يتعرض الرابط للحذف، أما بمحرك البحث فيمكن التوصل إليها.
وهنا لا نتحدث عن دول علمانية أو مجتمعات مدنية متسامحة حول الجنس أو الإباحية، بل عن مؤسسات دينية تحكمها شرائع سماوية، ولا زالت تطبق القوانين والعقوبات الدينية كما تنزلت سابقا بالكتب المقدسة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول نسبة تأثير خطابها وفعالية نظامها بين الأفراد. إن ما لا تعيه المجتمعات الدينية التي تخطت الدولة نحو المؤسسة المطلقة : هو أن المشاكل الاجتماعية أو بالأحرى الأمراض الاجتماعية، لا يعالجها الترويج الديني وتأكيد الخطاب المقدس، بل زيادة وعي الأفراد ودراسة مشاكلهم النفسية والجنسية، الإحاطة بها ومعالجتها قبل استشرائها، بدل التطبيل والتهليل الديني والتغني بالأمجاد والأمة والأخلاق، أي أخلاق والمكبوتون هنا يتدربون على اجساد الأطفال ؟! .
قد يعترض البعض هنا عن أن الموضوع مبني فقط على مثالين، وبالتالي فهي مجرد استثناءات. “طيّب” .. ماذا لو قلنا أن منظمات نسائية بمصر تعترف بأن في مصر أكثر من 90% من النساء والفتيات المصريات والأجنبيات يتعرّضن لحوادث التحرّش الجنسي عن طريق الألفاظ أو اللمس في الشوارع المصرية وأماكن العمل، ومصر هي قبلة المسلمين الفكرية أو منارة التنوير الديني الإسلامي، وماذا لو قلنا أنه بالسعودية يتعرض طفل واحد من بين كل أربعة لاعتداء أو تحرش جنسي، والسعودية هي بلاد الحرمين الشريفين. ماذا لو قلنا أن باليمن في دراسة أجرتها جريدة “يمن تايمز” على 70 إمرأة من صنعاء أن 90% منهن تعرضن للتحرش الجنسي في الأماكن العامة وأن 20% منهن يتعرضن له بشكل مستمر. ماذا لو قلنا بأن إحصائيات أشرفت عليها وكالة رويترز احتلت السعودية المرتبة الثالثة بين 24 دولة في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل، بنسبة 16% مقابل المانيا 5%، وبريطانيا 4% وإسبانيا 6% والسويد التي تحتل المرتبة الأخيرة بنسبة لا تزيد عن 3%، وهي بلاد النساء العاريات والتحرر الجنسي ! . والغريب أنه حتى المحجبات والمنقبات يتعرضن للتحرش الجنسي والمضايقات، مايعني أن الإشكال ليس في جسد الأنثى أو في لباسها كما يتشدق بعض الموهومين الدينيين أو النائمين واقعيا بسعيهم لربط هذا بذاك، بل الإشكال في العقلية المجتمعية : العقل الذكوري خاصة.
وهذا ما يهدم الآراء التي تسعى لتبيان أن الفصل بين الجنسين، أو نوع ما من الموضة الدينية، وغض النظر وما سواه من أمور لم تثبت فاعليتها : ستفي باللازم. نرى قبائل بدائية سواء بأفريقيا أو أمريكا اللاتينية، لا يرتدي أفرادها شيئا ومع ذلك لا يستثار ذكورها جنسيا ـ ولا يقفزون على الإناث كما يتخيل المكبوتون (لأنه رد الفعل المتوقع انطلاقا من حالتهم) ـ وهناك احترام لطقوس معينة عند التعامل الجنسي بين الجنسين، لماذا لا يوجد تسيّب ؟ هل يطبقون الدين الصحيح رغم أنهم يعتبرون بنظر الدين الإبراهيمي متوحشين وكفرة وثنيين ولاعقلانيين ومتسيبين إباحيين ! .
أما حول استعراض بعض المقالات لكُتّاب غربيين تُثني على الفصل بين الجنسين سواء بالمؤسسات التعليمية أو بالوظائف، فما يغيب عن هؤلاء نظرا لسرعة بتر المعلومات والتلهف على اقتطاع أي مقولات تعزز قناعاتهم الفكرية، هو أن كُتّاب تلك المقالات هم من المتعصبين الدينيين بالمقابل، سواء يهود أو مسيحيين، يرون الحل للإشكاليات الاجتماعية الراهنة في التفاسير الإبراهيمية الغابرة والمتجاوَزة.
موضوع التحرش الجنسي سواء بالنساء أو بالأطفال له أصداء عالمية، ويحدث بكل بقاع العالم الاختلاف فقط بالنسب، غير أن الحلول التي يقدمها البعض من الجانب الديني (كحل أوحد وأشمل) قد كشفت عدم جدارتها وانهيارها، فقد تجد الأنثى احتراما بالسويد أو سويسرا أكثر منه بالسعودية أو المغرب أو تونس أو لبنان، فلا اختلاف بالمنطقة العربية، رغم توهم بعض المجتمعات أنها البطلة أخلاقيا، إلا أن الواقع يكشف انهيار المنظومة الاخلاقية وانحطاط سلوك الأفراد. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل ببعض المناطق تهرب الأنثى من التحرش لتسقط في انفجار أو اعتداء جسدي/جنسي أو اختطاف، نظرا لاضطراب الأوضاع السياسية الراهنة.
ليس الدين ولا التقاليد ولا حتى الأعراف تحد من تكاثر هذه الأمور، بل الخجل وإعادة صياغة رؤية واقعية نحو الذات بدل الرؤى الوهمية المدغدغة للعواطف، لقد فشل الدين والثقافة والسياسة في رسم واقع كما حسبه وظنه الجميع.
ويستمر السياسيون والمثقفون بالكذب وخداع الذات وهم يعيشون بوضع يسخر منهم : فهل تنبؤا بما يحدث ؟ هل يستطيعون وقف ما يحدث ؟ هل يستطيعون تغيير ما يحدث ؟ طبعا لا فمثلهم مثل المريض الذي يحتاج تدخل طبيب متمرس، وهو “الولايات المتحدة الأمريكية” رغم كرههم لها، مثلما يكره المريض النفسي محلله أو كما يسميها بيير داكو “ضروب التحويل العدوانية الموجهة نحو المحلل”. فالمريض يكره المحلل لأنه لا يرغب (لاشعوريا) بأن يشفى، فقد تعود على وهمه !! ويخاف من التغيير (الوقع) الذي يجبره عليه المحلل (معالجه).
طبعا هناك من يودون تغيير الواقع المذكور، ويرفضون استمرار الوضع الراهن، غير أنه كما يقول الفيزيائي أينشتاين “الروح العظيمة تواجه دائما معارضة من منخفضي الذكاء”.
لم يعد للناس مطالب بظل الواقع الراهن، سوى “رجاء” رجاء بن سلامة : “نريد أن تعيش بناتنا وأطفالنا حياةً أفضل”. فللجميع حق أن يعيش بشكل أفضل، ويتمنى حياة أفضل.
هوامش :
Raja Ben Slama - رجاء بن سلامة | صفحة الفيسبوك الشخصية : تعليقات شهر يناير 2014
محمودعبدالله نجا - الإسلام و مُحاربة الزنا و التحرش الجنسي بالردع و الوقاية ـ آيات معجزات
الإحصائيات :
1 ـ اعلى معدلات التحرش الجنسي بالنساء تسجل في الدول الاسلامية - منشور.
2 ـ احصائيات حول التحرش الجنسي ببعض الدول - Rape of children’s innocence.
3 ـ التحرش الجنسي : ظاهرة تتسم بالعالمية، أرقام وإحصائيات مرعبة - منشور.
حمودة إسماعيلي
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد