توفي ولم يمت بعد: ممدوح عدوان في ذكراه الخامسة
لم يكن ممدوح عدوان أفضل مسرحي عربي ولكنه كتب -باعتقادي- أفضل مسرحية عربية «ليل العبيد» الممنوعة من العرض منذ عام 1977، ولم يكن أفضل صحفي في زمانه ولكنه كتب أفضل زاوية صحفية «دفاعا عن الجنون»، كما لم يكن أفضل المترجمين ولكنه قدم أجمل ترجمة لـ«كازانتزاكي» في «تقرير إلى غريكو»، ولم يكن بين الشعراء الفحول ولكني سمعت منه أجمل قصيدة صوفية لم يثبتها في أي من دواوينه، ومن أسف أني لم أحفظها غير أن أكثر من 20 رجل دين سمعوها معي وصفقوا لها طربا, والقصة أني كنت من المشاركين في نشاط سوري بدأه في أوائل هذا القرن مجموعة من المثقفين ورجال الدين الإسلامي والمسيحي بدمشق من أجل التقريب بين الأديان حيث كان شيوخ يحاضرون في الكنيسة وآباء يحاضرون في منتديات إسلامية إلى أن تم توقيف النشاط «عرفيا»، وفي أحدالاجتماعات ببيت آل مرتضى, سدنة مقام السيدة زينب, طُلب مني دعوة ممدوح عدوان حيث كانت الندوة حول «علم الدين المقارن» وكان ممدوح حاضرا معي بصفتنا علمانيين, وفي آخر السهرة قال لي أحد رجال الدين: قل لصاحبك الملحد أن يقرأ لنا من شعره, وعندما فعل ممدوح, أدهش الحضور بإلقاء قصيدة صوفية تثبت بما لاشك فيه أن يد الرب قد لامست قلب صاحبها وعقله وتجلت في لسانه.. عندما خرجنا قلت له: يا خائن لم أقرأ هذه القصيدة في أي من دواوينك, فضحك وقال: هذا من تأثير المشروبات الروحية.. ونظرا لما تقدم لم يصنف ممدوح, بعد ثمانين كتابا, بين الشعراء أو الصحفيين أو المترجمين أو المسرحيين ولكنه كان مبدعا يشكل حالة ثقافية مشاغبة وسط مجتمع ساكن بين الخوف والنفاق, وكان الفقر والظلم قضيته الأولى والأخيرة.. ونظرا لغزارة إنتاجه لم يكن لديه وقت لصناعة اللغة وتحكيكها، فجاءت مجمل أعماله بلغة بسيطة واضحة وممتعة: يكتب مثلما يحكي, كذلك لاحظت خلال خمسة عشر عاما من صداقتنا: التقيت به في القاهرة أول مرة بين كوكبة من الأدباء العرب، يمشي كالطاووس بين مجموعة من الطيور، عندما سألني بعد أن سمع لهجتي: أنت من جبلة ولاه؟ قلت: إذا لم تكن تهمة نعم, وضحكنا بعدما قلت له أن أفضل ما أنجزه شعراء بلدته «ديرماما» هو بناؤهم طاحونة على نهر قريتنا«قلعة بني قحطان», واستمرت ضحكته حتى سنواته الأخيرة التي جلس فيها بحضن الموت, فكان كما قال المتنبي لسيف الدولة «كأنك في جفن الردى والردى نائم» فقد كان ممدوح عدوان معروفا بشراسته وشجاعته, ونظرا لأني كنت كذلك أيضا, لم يكن بيننا الكثير من الكلام على كثرة لقاءاتنا وسهراتنا العائلية, فقد كنت أحسب له حسابا, وكان هو كذلك, ويبدو أننا كنا متفقان على أنه من الأفضل لكلينا أن نكون أصدقاء لا أعداء, ومع الزمن اعتدنا على بعضنا حتى إني أراه حاضرا في كل جلساتنا التي لا ننسى فيها أن نرفع نخبه كلما ضحكنا, و مع كل نخب يتذكر أحدنا جملة جديدة ساخرة أو نادرة قالها ممدوح.
فممدوح على الرغم من وفاته ما زالت تطبع له كتب جديدة وتعرض له سيناريوهات تلفزيونية جديدة يقول لنا عبرها: ما زال لدي قدرة على العطاء وعلى إثارة النقاد والقراء والحساد, مما يؤكد أنه توفي ولم يمت بعد, فقد عاش حياة درامية مكثفة, ومنع من السفر خارج القطر حقبة من الزمن، كما منع ذكر اسمه في الصحف الرسمية «ولم يكن هناك غيرها» مدة عامين, وكان يضع كأسه على شرفته ثم يرسل للدورية التي تراقبه إبريق الشاي مع بعض النكات التي تلطف حرج موقفهم أمامه.. وبعدما مرض وتأكد رجال الدولة من أنه ذاهب بعيدا عنهم أحبوه وأكثروا من الاطمئنان عليه, تماما كما فعلوا مع نديم محمد وسعدالله ونوس ومحمد الماغوط, فهم متحالفون مع عزرائيل, يحبون من يحب ويكرهون من يكره.. ولكن ماذا نفعل إذا كانت سنة الحياة في بلادنا تقول: كلما مالت شمس المبدعين نحو المغيب امتدت ظلالهم واستطالت في عيون الناس..
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد