ثلاثة وجوه لمحنة نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت»
تصدر قريباً عن منشورات الجمل (ألمانيا) ترجمة عربية كاملة عن الألمانية لكتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» بتوقيع علي مصباح وتقديمه. هنا مقاطع من المقدمة:
يستطيع أي متأوّل من أي اتجاه أو مذهب فكري أن يقول ما يريد عن نيتشه وفلسفته؛ أن ينبذه أو يسخر منه أو يعتبره مجنوناً وشاعراً أهوج... إلا أنه سيظل إحدى العلامات الكبرى في تاريخ الفلسفة الكونيّة. بل علامة مميّزة وحزّا وقطيعة في تاريخ الفكر عموماً.
عندما قرأنا «هكذا تكلم زرادشت» ونحن لا نزال نتلمس طرقنا إلى المعرفة (وهنا أتكلم بنون الجماعة عن جيلي الذي فتح عينيه على المعارف الكونية في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم)، وعودنا لا يزال طريًّا وتجاربنا محدودة وضئيلة، وكذلك معارفنا، انبهرنا وفتنّا بالنبرة الحادّة والعبارة الراجمة والنغمة الراقصة لذلك النص. كنّا آنذاك مفتونين بنصّ أدبيّ في المقام الأول. لم تكن لدينا من الأدوات المعرفية والتكوين الفلسفي ما يمكّننا من تجاوز الطبقة الأولى للنص والعبور إلى طبقاته الخفية وتمثُّل الأبعاد الفكرية الخطيرة التي ينطوي عليها. كان لدينا فقط مجرد إحساس بأننا أمام نصّ جميل وقويّ جعلنا نتنفّس من هواء جبليّ نقيّ وحاد، ونشعر بنشوة حريّة لا معهودة تسري في كياننا. إلى عند هذا الحدّ كان يقف انبهارنا بذلك الكتاب آنذاك.
ولعل ما يميز هذا الكتاب عن المؤلفات الفلسفية جميعها تقريباً هو طابعه الأدبي الشعري الذي يجعل منه كتاباً «للجميع» كما يسميه صاحبه. ولعله لا بد أن نعود أكثر من ألفي سنة إلى الوراء؛ أي إلى أفلاطون كي نعثر على كتب فلسفية محررة بشكل أدبي يمكن أن يجعل منها كتباً للمطالعة تستطيع أن تكون في متناول الجميع.
لكن هنا بالذات تكمن المخاطر التي يمكن أن تتربص بكاتب كبير وبنص عظيم. ويظل السؤال هنا إلى أي حدّ يستطيع كتاب من هذا النوع أن يحصّن نفسه من تكالب المتطفّلين والمعجبين الزائفين؟ «هل ينبغي علينا أن نؤكد مرة أخرى على الغرابة التي ميّزت «التأثير التاريخي» الذي كان له، بحيث لم يُكتب لأحد غيره إلى حد الآن أن يظلّ يعبّر بإلحاح عن التميّز والتفرّد، وينجح في استقطاب الخساسة والغوغاء؟» هكذا يكتب بيتر سلوتردايك في مستهل كتابه «الإنجيل الخامس لنيتشه» الصادر سنة 2001 بمناسبة لذكرى المئوية لوفاة نيتشه.
هناك أمر مهم في عنوان الكتاب قد أهمله معظم مترجمي نيتشه وحتى بعض واضعي النسخ المتنوعة باللغة الألمانية، وهو العنوان الفرعي الذي جاء كالآتي: «كتاب للجميع ولغير أحد». لا أدري ما هو سر هذا الإهمال، لكنه إقصاء لعنصر مهم في العنوان: نبرة معابِثة ومشاغِبة ومستفِزّة كان يمكن للقارئ أن يقف عليها قبل الشروع في القراءة، ويتوقف عندها إن طويلاً أو للحظة قصيرة. وإذا ما عدنا إلى جملة سلوتردايك آنفة الذكر فسنلمس الخطورة الناجمة عن هذا الإهمال أو التناسي للعنوان الفرعي للكتاب. إذ يبدو أن معظم القراء («الجميع») قد توقفوا عند المستوى الأولي والطبقة السطحية للكتاب؛ أي ذلك الجانب الأدبي الشعري والمستوى السردي الذي يجعله كتاباً «للجميع» في حين هو في الآن نفسه مؤلَّف بعيد الغور، أو «ما يدقّ المسلك إليه» بحسب عبارة الخليل بن أحمد. أو ذلك القول الذي «بعضه كالغائب عنه وبعضه كالبعيد الحضرة لا يُنال إلا بعد قطع مسافة إليه، وفضل تعطّف بالفكر عليه».
الحدث النيتشوي كان حدثاً كارثياً داخل تاريخ الفلسفة. أول فيلسوف يعلن حرباً مفتوحة على الفلاسفة والفلسفة السائدة ويطرح أسئلة مقلقة ومزعجة على الفكر وعلى «ضمير الفكر» أيضاً. أسئلة حول الدين والأخلاق والمجتمع وقيم الخير والشرّ. محرجة ومقلقة كانت تلك الأسئلة لأنها تواجه أكاذيب آلاف السنين بصراحة نادرة، أو غير معهودة من طرف فيلسوف على الأقل. يراهن نيتشه بكل شيء من أجل مغامرة فكرية غير مريحة ولا آمنة؛ يراهن بأكاليل المجد والاعتراف وبكل ما يمكن لمفكر أو كاتب «عاقل» و «رصين» أن ينال من الامتيازات. بل ويفضل على كل ذلك أن يكون مهرجاً أو أضحوكة: «لا أريد أن أكون قدّيساً، بل أفضّل أن أكون مهرّجاً... ولعلّني بالفعل أضحوكة.» يكتب في هذا هو الإنسان. من أجل ماذا يقدم نيتشه على هذا الرهان؟ من أجل الحقيقة التي هي مبتغاه الأول والأخير. أداته في ذلك ملازمة الصدق الذي يجعل منه القيمة الأخلاقية الأولى للعقول النبيلة.
من يجعل من الصدق مبدأه الأول لن يولي اعتباراً للمجاملة والمداراة والمصالحات، ويغدو بذلك مزعجاً، وقد يرى فيه كثر «مجرد أحمق» أهوج، بل مهرجاً وأضحوكة. «ومع ذلك؟ فالحقيقة هي التي تنطق من خلالي. لكنّ حقيقتي فظيعة، ذلك أنّ الكذب هو الذي ظلّ يدعى حقيقة حتى الآن».
أكثر من مئة سنة مرّت على ما كتبه هذا الفيلسوف الذي يسمّي نفسه «عبوة ديناميت». واليوم، ونحن ما زالت هذه المواجهة الصريحة والصادقة تحرج وتربك، لأنّ نيتشه الذي كان يعرف أنه لا يكتب لعصره آنذاك يبدو كما لو أنه ينهض من سباته، وذلك منذ النصف الثاني من القرن المنصرم. بل لنقل ان آخر القرن العشرين، وهو يتعثر في ركام الأفكار والقيم الإنسانية التي بعثرتها الحربان العالميتان قد اكتشف نيتشه من جديد. وها هو ذلك الحلم الذي راوده ذات مرة مثل يوتوبيا: أن يشهد العالم في يوم ما اهتماماً بفكره وأن تنشأ كراسي محاضرات جامعية حول زرادشت، ها هو يتحقق على نطاق واسع، في فرنسا وأميركا أولاً ثم في ألمانيا وهولندا واليابان - وربما في البلاد العربية في القرن القادم، لم لا؟ - هناك اليوم كراسي محاضرات جامعية حول زرادشت، بل وهناك أيضاً مجلات علمية مختصة، مثل مجلة «الدراسات النيتشوية» في ألمانيا، ومجموعات بحوث مثل مجموعة جامعة نايْميخنْ (Nijmegen) في هولندا التي تنكب حالياً على تأليف معجم «القاموس النيتشوي» الذي صدر منه إلى حد الآن الجزء الأول (600 صفحة) من مجمل أربعة أجزاء. وهناك مجموعة International Nietzsche Circle التي تضم باحثين في الحقل الفلسفي وفنانين من رسامين وسينمائيين ومسرحيين وتتركز أعمال هذه المجموعة بين نيويورك وفيينا.
بعد أكثر من مئة سنة ما زال «الممسكون بالحقيقة» الرسمية يرفعون ثنائية الخير والشرّ لافتة فوق محل بضاعتهم القديمة المتجددة. وعندما تطلع علينا رسالة «البشرى السعيدة» في صيغتها الحديثة بمصطلح «محور الشر» الذي أتى في بداية هذا القــرن ملـــمّعاً ببريق الحداثة والديموقراطية والحرية والليبرالية، فــإن الباحث عن الحقيقة لن يجد له من سند فلسفي في مسعاه الفكري المستقلّ لا في هيغل ولا في كنط ولا في ماركس، ولا في أفلاطــون أيضــاً، بل في نيــتشه، ونيتشه وحده.
إن الأمر لا يتعلق هنا بالبحث عن سند نظري لإيديولوجيا سلمويّة تناشد التناغم الكوني ضمن سلام دائم شامل ومطلق. بل يتعلق الأمر بالبحث عن مرتكز فكري لمراجعة وتدقيق مبدأ «إرادة القوة» التي تقود مسيرة العالم والحياة في مجملها. «إرادة القوة»، لا بمعنى النزوع العنفوي إلى التسلط كما يذهب إلى ذلك التأويل السطحي (وبالمناسبة كثيراً ما ترجمت العبارة بـ «إرادة السلطة» نتيجة لفهم خاطئ لعبارة Macht الألمانية، أو Pouvoir الفرنسية، وكلاهما تفيدان: القوة، وكذلك السلطة في سياق محدد)، بل كقانون طبيعي مداخل لمبدأ الحياة نفسه؛ المبدأ القائم على الحركة والتناقض والتقاتل والتجاوز والتغيير: قانون قد أثبتته العلوم الطبيعية والبيولوجيا والفيزياء. فالحياة قائمة في أبسط جزئياتها (الأجسام المعدنية، النبات، الحيوان) على مبدأ صراع المتناقضات: صراع الجديد ضد القديم، صراع العناصر الناشئة المتوثبة ضد عناصر الخمول والتداعي والتفكك. إنه مبدأ «إرادة الحياة»، لا بمعنى أن المرء أو الكائن هو الذي يريد الحياة (إذ ما هو حيّ لا يريد الحياة، لأنها كائنة ومتحققة فيه، وما ليس بحيّ لا يستطيع أن يريد)، بل هي الحياة نفسها التي تريد نفسها من خلال الكائنات جميعاً. الحياة هي التي تدفع عنها العناصر المتراخية والمتخاذلة التي لم تعد قادرة على الحركة (الحياة) ولا تسحرها غير أنغام الاستسلام إلى خدر الموت.
«إرادة القوة» هو القانون الذي يدفع إلى المغامرة باتجاه المجهول – لا ذلك الذي يشد إلى اليقين والأمان والثبات في المحافظة على المنجز. القلق الذي يدفع بالمفكر إلى حالة من الترحال الدائم؛ إن زرادشت مسافر رحّالة جوّال، وهو شبيه في ذلك إلى حد بعيد بدراويش المتصوفة، لأنهم هم أيضاً بحّاثون قلقون لا يرتاحون إلى دفء اليقين والحقائق المتأسسة في الثبات: «رحالة أنا ومتسلق جبال(...) / وكل ما سيحل بي بعدها من وقائع وأقدار/ ترحالاً سيكون ذلك، وتسلق جبال: / فالمرء لا يعيش سوى ذاته في كل شيء بالنهاية.»
محنة نيتشه على ثلاثة وجوه؛ أو هي ثلاث محن:
- أوّلها الوحدة القاسية التي كانت تحيط به وبفكره المارق المتنطع على كل السلطات والأعراف. وحدة جحود ونكران رافقته طوال حياته وما انفك يتذمر منها في كل رسائله إلى أصدقائه وبخاصة في مراسلاته مع صديقه عالم اللاهوت من جامعة بازل فرانز أوفربك. وحدة كان يغذيها مع ذلك بمزيد من المثابرة على دربه الفلسفي المتفرد، وكثيراً ما نجد أصداء مديحه لها على لسان زرادشت: «فرّ إلى وحدتك يا صديقي!». كان نيتشه يدرك تمام الإدراك أنه يكتب لأجيال من غير عصره وأن «ساعته» لم تحل بعد كما يكرر ذلك في الكثير من المواقع من كتاباته وعلى لسان زرادشت بصفة مكثفة.
عندما كنت مقيماً في قصر فيبرسدورف في إطار منحة من أجل التفرغ للكتابة، وكنت عندها بصدد إنهاء ترجمة كتاب «هذا هو الإنسان»، وكان حولي أكثر من عشرين كاتباً وكاتبة ورسامين ومؤلفين موسيقيين، كانت العيون تجحظ عندما أسأل عن نوعية العمل الذي جئت للقيام به هناك وأجيب بأنني بصدد ترجمة نيتشه. «نيتشه باللغة العربية!» كنت غالباً ما أسمع. وكنت أجيب أن نيتشه يكتب بلغة شرقيّة هي لغة الأناجيل ولها قرابة كبيرة مع لغة المتصوّفة العرب، فيذهل الناس أكثر، وهناك من كان يعتقد بأنني مشعوذ. بل هناك من يسألني أحياناً: وهل للناس هناك اهتمام بمثل هذه الأمور؟ ليضيف بعدها: نحن الألمان أنفسنا لا نستطيع أن نفهمه. وكنت دوماً أجيب: إننا هناك (da drüben) غالباً ما نشعر بالملل في صحارينا الشاسعة وفيافينا القاحلة وراء قطعان الجمال فنتسلى بين الحين والحين بمثل هذه الحماقات. ثم أن لا يكون الألمان غير قادرين على فهم نيتشه فذلك ما لا يفاجئني، فقد سبق أن قال هو نفسه انّ الألمان آخر من يمكنهم أن يفهموه. وكنت في الأثناء ألاحظ حماسة أكثر لدى الشباب والفتيات لمشروعي، وأدركت أيضاً أنهم يعرفون نيتشه ويحبّون كتاباته أكثر من المتقدّمين نسبياً في السنّ.
- المحنة الثانية هي محنة استعماله وتأويله ذلك التأوّل الشنيع الذي وظّف أفكاره الفلسفية - وذلك بالرغم من تحذيراته المتكررة وتخوّفاته التي عبر عنها مراراً وآخرها في كتاب «هذا هو الإنسان» - لأغراض إيديولوجية وسياسية شنيعة حتى غدا اسمه مقترناً بتلك الشناعات والفظاعة الكبرى التي وسمت القرن العشرين بميسم الإجرام الجنوني. لقد كان ذلك هو تأويل «الجميع».
- ثالثتهما محنة ترجمته، أو ما أصيبت به كتاباته من عمل رجم وترجيم من طرف عدد غير قليل من المتطفّلين («الجميع» مرة أخرى). نوع آخــر مــن الســطو والاغتصــاب لا يزال متواصـــلاً إلى يومنا هذا.
لعل الصعوبة الكبرى التي يلاقيها مترجم «هكذا تكلم زرادشت» تكمن في ذلك التفرد اللغوي الذي جاء عليه. ويتمثل هذا التفرّد في أن نيتشه يكتب هنا بلغتين متلاحمتين مندمجتين داخل لغة واحدة: لغة الأناجيل من جهة، وهو اختيار واع لأنه كان يضع نصب عينيه آنذاك غاية محددة من وراء هذا الكتاب الذي حوصل فيه وجمع كل أفكاره الفلسفية التي وردت في كتاباته الأخرى، في شكل أدبيّ مكثّف أراد أن يجعل منه «إنجيلاً» جديداً أو «خامساً»، أو إنجيلاً معاكساً. وبكلمة واحدة، نقْضٌ للأناجيل في كتاب يتكلم لغة تلك الأناجيل.
ولنقرأ ما يرد في الرسالة التي حررها إلى الناشر أرنست شمايتسنز في الثالث عشر من شهر شباط (فبراير) 1883: «حضرة السيد الناشر المحترم، إن لديّ اليوم خبراً جميلاً أزفّه إليكم: لقد قمت بخطوة حاسمة - أعني بذلك، وعلى سبيل الإشارة، إنها خطوة من المفترض أن تكون مفيدة بالنسبة لكم أيضا. يتعلّق الأمر بمؤلّف صغير (ما يقلّ عن 100 صفحة) بعنوان: هكذا تكلم زرادشت - كتاب للجميع ولغير أحد. هو «مقطوعة شعريّة» أو «إنجيل خامس»، أو أي شيء آخر لا يوجد له اسم بعد: إنه أكثر مؤلفاتي جديّة وجرأة، وهو في متناول الجميع...».
الأسلوب الإنجيلي واضح جليّ في هذا الكتاب من خلال العبارة والنبرة وطريقة المخاطبة واعتماد الصور الانجيلية النمطية والكلام بأمثال واستعارات، وكذلك البناء الذي يعتمد تقطيع النص... هذا هو الوجه الأول لهذه اللغة، وهو ما أهمله عدد من المترجمين ولم ينجح في الإيفاء به غير قلة قليلة. ولعله تجدر الإشارة هنا إلى أن الترجمة الإنكليزية قد أفلحت أكثر من الترجمات الفرنسية في الحفاظ على مكونات هذه اللغة المتميزة.
أما الوجه الثاني لهذه اللغة فيتمثل في الكتابة بلغة ألمانية، شعرية لكنها دقيقة إلى أبعد الحدود. ويذهب نيتشه في هوسه بالدقة إلى حد اجتراح عبارات ومصطلحات غريبة لكنها ممكنة داخل اللغة الألمانية التي تعتمد التركيب اللفظي بطريقة قلما تسمح بها لغة أخرى. وأرقى ما تتوصل إليه هذه اللغة من الدقة يتجسد في ذلك التلاعب اللفظي الذي تمنحه التنويعات العديدة عن لفظة (جذر) واحدة بفضل السوابق المتنوعة المنضافة إليها، مما يسهّل عمليات الجناس والطباق وأحياناً اللعب على الغموض والالتباس المفتعل، أو المقصود، وعلى التضمين والكناية.
هذه التوليفة الفلسفية الشعرية هي التي جعلت نيتشه مبدعاً في مجال اللغة أيضاً. لقد أعطى نيتشه للغة المفهومية حرارة جديدة غير مألوفة في لغة الفلاسفة إلى حد ذلك الزمن. اللغة في كتابات نيتشه وفي «هكذا تكلم زرادشت» خاصة كيان حيّ نابض بالحركة. بل بحركات عدة هادرة متدافعه متعارضة. فالكلمات لديه هي «الحيّز الذي يعلن فيه الوجود عن هويّته متستراً متكتّماً على نفسه» كما يقول هايدغر. اللغة ليست قوالب جامدة، وليست ترسانة أدوات محايدة، أو قوالب تُصبّ فيها المعاني، بل كيانات نابضة بالحياة. ونبضها لا ينتعش في ثبات المعاني - أو أحاديّة المعنى - بل في اضطراب العبارة بحشد من الحركات. كلاّ، لم يُمنح الإنسان قاموساً جاهزاً من أسماء الأشياء كلها، بل هو الذي ابتدع اللغة ونحتها من حركية الحياة، ومن الحشود المتضاربة المتصادمة المتداخلة من الحركات التي تعج بها الحياة. للكلمات أنفاس وشهقات مكتومة وإيماءات خجولة أحياناً متستّرة غاية التستّر، متمنّعة متغنّجة.
والكاتب المبدع هو ذلك الذي يغازل اللغة ويراودها ويتوسّلها حتى تنتهي إلى الانقياد إليه. وفقط عندما ينجح الكاتب في استمالتها، عندها فقط يتحول إلى قناة ووسيط تنهال عليه المعاني موكباً مرحاً معربداً من الكلمات والصور والاستعارات في ما يشبه حالة من الغيبوبة كما يقول نيتشه. في مثل هذه الحالة تتعاضد كل مكوّنات اللغة من كلمات وصور واستعارات وإيقاع لتكوّن ذلك الكلّ الموحّد الذي سيغدو نصّاً. (...) تمت هذه الترجمة عن النص الألماني من منشورات «طبعة الدراسات النقدية» التي أشرف على إعدادها الإيطاليان جيوجيو كوللي ومازينو مونتيناري وهما عملا لسنوات على إنجاز طبعة للأعمال الكاملة لنيتشه تتجاوز مطبات الطبعات المتداولة حتى الستينات والتي تعرضت إلى التنقية والتحريف والتشويه. كان على الباحثين أن يعودا إلى أرشيف نيتشه في مدينة فايمار ويطلعا على المخطوطات الأصلية ويقوما بعمل تنقيب وتدقيق طويل ليخرجا بهذه الطبعة التي أصبحت النسخة الأكثر صدقية والأكثر تداولاً لدى الناشرين الجديين في العالم. هذه الطبعة مرفوقة بمجلد مستقل مخصص للتعليقات والإحالات ومصادر ومراجع متنوعة. وهي التي ساعدتنا بصفة رئيسة في ضبط هوامش هذه الترجمة.
علي مصباح
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد